هاجس الظلام.. هل تخيلت الحياة من دون كهرباء؟
أصبحت الطاقة الكهربائية ضرورية للحياة البشرية مثل الماء والغذاء، لدرجة أنه لا يمكن لنا أن نتصور كيف ستكون حياتنا دونها، فانقطاع التيار الكهربائي قد يتسبب بتبعات كارثية قد تهدد الحياة البشرية برمتها، والعالم كله بات يبحث عن مصدر آمن وعلمي وموثوق به لتزويدنا بالطاقة الكهربائية، وهذا الأمر يزداد صعوبة يوما بعد يوم لسوء الحظ.
وفي هذا الشأن عرضت الجزيرة الوثائقية فيلما بعنوان “هاجس الظلام”، تناول المخاطر المحتملة التي تتهدد النظام الكهربائي في أوروبا، والسيناريوهات المتوقعة في حال حدوث تعتيم شامل (Blackout) على الشبكة الدولية الأوروبية لنقل الكهرباء.
المجتمعات الرقمية
في مجتمع بات يعرف بالمجتمع الكهربائي أو الرقمي، فإن وجود طاقة كهربائية مستمرة ومستقرة أصبح حتمية وجودية، ولهذا سعت الدول الأوروبية منذ عشرات السنين إلى ربط أنظمتها الكهربائية بشبكة موحدة ذات كفاءة وموثوقية عاليتين، وأصبحت 34 دولة أوروبية تتزود بالطاقة عبر شبكة واحدة عالية التوافرية وبطولٍ يبلغ 25 ضعفا قياسا بمحيط الأرض.
ولك أن تتخيل أن معدل الانقطاع السنوي في التيار الكهربائي لكل عائلة في النمسا لا يتجاوز 30 دقيقة بحد أعلى، وهذا يعني أن كثيرا من المدن النمساوية لم تشهد انقطاعا فعليا في الكهرباء منذ سنوات.
إن الحالة التضامنية التي بنيت على أساسها الشبكة الأوروبية المتكاملة للكهرباء تحمل من الإيجابيات الشيء الكثير، فهي آلية ناجحة في الأخذ والعطاء أو التزويد والاستهلاك، فالشبكة الوطنية في بلد ما تكون في بعض الحالات منتِجة وفي بعض الأوقات تستهلك من الشبكة الدولية، وهذا يضمن توافرية التيار في كل البلدان على حد سواء.
لكن هذه الحالة التضامنية الناجحة لا تخلو من بعض التحديات الجادة، فوقوع خلل ما في شبكة وطنية كالبرتغال مثلا قد يؤثر على استقرار النظام في النمسا، أو حتى على مستوى الشبكة كلها.
لكن تحديات كثيرة أخرى منها زيادة الطلب على الكهرباء والتغيرات المناخية الحادة وتزايد استخدام مصادر الطاقة البديلة؛ باتت أخطارا حقيقية تهدد استقرار الشبكة الأوروبية. ولدى سؤال الجمهور الأوروبي عن مفهوم التعتيم أو (Blackout) فإن الإجابات تراوحت بين عدم تصور مثل هذا المعنى واستحالة حدوثه، إلى من يقلل من أهمية الحدث والثقة بإمكانية السيطرة عليه في مدة وجيزة، حتى نصل إلى ما يشبه حالات الرهاب والخوف من وقوع مثل هذه الكارثة، وهذه الحالة تجدها شائعة في أوساط كبار السن الذين ربما عايشوا إحدى الحروب أو الكوارث الطبيعية المخيفة.
الانحياز التفاؤلي
في حقيقة الأمر لا يوجد هنالك أي نظام في العالم كامل الموجودية أو خالٍ من النقص والخلل، ولكن اطمئنان الناس على مدى عشرات السنين لاستقرار نظام تزويدهم بالكهرباء جعلهم يظنون أن هذا النظام منسجم مع السنن الكونية وقوانين الطبيعة، بل إنه جزء منها ولا يتخلف.
هناك عامل مهم يؤدي إلى زيادة احتمال وقوع مشاكل في تزويد الطاقة، وهو الثقة الزائدة لدى المشغّلين في فعالية النظام الكهربائي وأمان الشبكة، فهذه الثقة المفرطة والاطمئنان الزائد يدفعان العاملين في القطاع إلى التساهل في أخذ احتياطات الأمان والسلامة اللازمة مما يتسبب في وقوع كوارث لا تحمد عقباها.
وتتحدث السيدة “شاروت” -وهي باحثة في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا- عن ظاهرة اجتماعية تسمى الانحياز التفاؤلي، وتقول إنها كانت سببا رئيسيا في الانهيار المالي الكبير عام 2008.
وتضيف شاروت أن الدماغ البشري حين يريد التفكير بالمستقبل فإنه يستخدم معطياتٍ يعيشها في الحاضر أو تعامل معها في الماضي، ولا يستطيع أن يتخيل شيئا لم يحدث، وعلى هذا فإذا تحدّثت عن التغيرات الحادة في المناخ أو الانقطاع لفترات طويلة في التيار الكهربائي فإن الدماغ البشري في تلك المناطق التي لم تعهد حدوث مثل هذه الحالات سيكون عاجزا عن التفكير فيها وإيجاد الحلول المناسبة لها، وسيلجأ بدلا من ذلك إلى الركون للتطمينات المتفائلة التي يصدرها السياسيون والاقتصاديون عن استقرار الشبكة واستمرار التيار.
البيئة والمناخ وجماعات الضغط
ولغايات الحفاظ على البيئة يتوسع مزودو الطاقة في استغلال المصادر المتجددة مثل الرياح والشمس، ولكن هذه المصادر غير مستقرة، وقد يكون لدمجها مع الشبكات الوطنية والإقليمية عواقب سيئة في الحفاظ على استقرار الشبكة وموثوقيتها.
ففي الماضي كانت الدول تعتمد منفردة على مواردها الخاصة للطاقة، وكان الوقود التقليدي مثل الفحم الحجري أو الطاقة النووية أو النفط والغاز هو الوسيلة الفعالة لتوليد الطاقة، ولكن مع تزايد الحاجة إلى الطاقة النظيفة بسبب ظهور جماعات الضغط البيئية والمناخية، وكذلك توجه الدول الأوروبية إلى الاتحاد السياسي والمالي والاقتصادي، كل هذا زاد من الضغط باتجاه شبكة موحدة للطاقة.
وبالتالي ظهرت تحديات كثيرة نتيجة الثغرات التي لا يمكن تجاهلها بين الدول، فمزارع طاقة الرياح وألواح الطاقة الشمسية موجودة في أماكن متفرقة من القارة، والطاقة المتولدة من هذه المصادر غير متوفرة طوال العام، فهي تزيد وتنقص حسب تقلبات الطقس، وهذا التذبذب من شأنه أن يحدث اضطرابا في الشبكة الدولية، حيث يتعرض العامل الأساسي الذي يشير إلى استقرار الطاقة -وهو التردد 50 هيرتزا- إلى التذبذب، وهذا أمر غير صحي للشبكة وللمستهلكين على حد سواء. كما أن البنية الأساسية للشبكات المحلية لم تكن مصممة أصلا لتحميل هذه المصادر الجديدة عليها.
وهناك أيضا ظاهرة الاحتباس الحراري الناتجة عن انبعاث الغازات الدفيئة، وهذه تؤثر بشكل أو بآخر على كفاءة توليد الكهرباء، فمن المعلوم أن محطات التوليد بواسطة الطاقة النووية وكذلك محطات التوليد الحرارية تعتمد على الماء بشكل كبير في عملية التبريد. وبما أن درجة حرارة مياه الأنهار والبحار قد ارتفعت بشكل لافت في العقود الأخيرة، فبالتالي قلّت كفاءة محطات التوليد هذه.
وهناك أيضا سبب خفي وراء قلة كفاءة المحطات وهو انتقال بعض الحيوانات المائية لتعيش على شكل جماعات كبيرة في مياه التبريد هذه، وينتج عن ذلك انسدادات في مجاري التبريد.
تحديات تقنية
ثمة مشكلة أخرى يواجهها المشغلون في مراكز المراقبة والتحكم في الشبكة الكهربائية، وهي ما يسمى إعادة التوزيع (Re Dispatching)، وتتمثل في تشغيل وحدات وتعطيل أخرى حسب حاجة المناطق للكهرباء، وقد احتاج المشغلون إلى نحو 1000 حالة تدخّل على الشبكة الأوروبية خلال العام الماضي، أي بمعدل أكثر من 3 تدخلات في اليوم الواحد، وهذا رقم كبير ومكلف جدا، حيث بلغت كلفة إعادة التوزيع في العامين الأخيرين ما يقرب المليار يورو، وهذا بحد ذاته نوع من الهدر في المال العام حسب السيد بنسر المختص في إحصاءات الطاقة.
ويضاف إلى هذه التحديات سرعة إنجاز مشاريع خطوط النقل الكهربائي، وتوفير الأرض اللازمة لإنشاء الأبراج والأعمدة الكهربائية عليها، حيث تظهر متلازمة “أريد الطاقة ولا أريد البرج على أرضي”.
والكهرباء سلعة فريدة لها خصوصيتها، فحتى الآن لم يكتشف الناس طريقة لتخزينها بفعالية وبكميات كبيرة مثل باقي المواد والسلع الأخرى، لذلك يجب أن نستخدمها عندما ننتجها، وهذا بحد ذاته من التحديات الكبرى التي تواجه قطاع الكهرباء.
القرصنة الإلكترونية.. خطر داهم
التحدي الأخطر الذي يواجه صناعة الطاقة هذه الأيام هو الهجمات الإلكترونية عبر الإنترنت على مراكز التحكم، فهناك دوافع كثيرة للاعتداء على مصادر وشبكات توزيع الطاقة، منها ابتزاز الشركات والبلديات لدفع مبالغ مالية، كما أن الجيوش ووكالات الاستخبارات لها مصالح كبيرة في ضرب هذا القطاع الحيوي من أجل إرغام الخصم على الخضوع وتقديم تنازلات.
وعلى الرغم من أن كثيرا من أنظمة التحكم التقليدية هي أنظمة قديمة ولا يمكن اختراقها من قبل قراصنة الإنترنت، وهذه ميزة تحسب لها، فإنه لا يوجد هناك مستحيل، وكل شفرة قابلة للتفكيك يوم ما.
أضف إلى ذلك أن برمجيات الحماية على أنظمة الكهرباء لها عمر تشغيلي قد لا يتجاوز في أحسن الأحوال 15 إلى 20 سنة، وهذا يزيد من المخاطر بوجود عدو متربص مجهول.
ويرى السيد “جايكين” المتخصص في أمن شبكات الكهرباء أن التعطيل الشامل لشبكة دولية كالشبكة الأوروبية من قبل القراصنة هو أمر شبه مستحيل إذا أخذنا في الاعتبار أن مهاجمة الشبكة يجب أن تكون في عدة أماكن منها وفي نفس الوقت، وهذا أمر متعذر من الناحية النظرية.
ومن التحديات المحدودة التي تتعلق بالقرصنة أن شبكات توزيع الجهد المنخفض والتي تتعامل عادة مع المستهلك، بدأت بالتحول إلى ما يسمى بالشبكات الرقمية الذكية. وهذه وإن كانت لها ميزاتها الجيدة كسهولة الفوترة وحسابات الاستهلاك والمساهمة، فإنها لا تخلو من خطورة الاختراق الإلكتروني.
ونقطة الضعف هنا أن المستهلك يتواصل مع هذه العدادات الذكية في بيته عبر هاتفه المحمول المتصل أصلا بشبكة اتصال عامة يستخدمها ملايين الأشخاص، وهذا يزيد فرصة اختراق شبكة الكهرباء.
خسائر هائلة
حينما يُذكر التعتيم الشامل، يتخيل كثير من الناس انقطاع الإنارة عن بيوتهم أو تعطل بعض الأجهزة الكهربائية كالثلاجة والغسالة أو نفاد الطاقة من بطاريات هواتفهم. والأمر ليس بهذه البساطة، فكثير من أنظمة البنية التحتية الهامة في البلاد ستتعطل؛ القطارات ووسائل النقل العامة والمطارات وتزويد المياه العذبة ووسائل الاتصالات السلكية واللاسلكية، ناهيك عن الخسائر الاقتصادية الهائلة على كل المستويات.
إن كل شيء تقريبا سيصبح مشلولا، وسنعود إلى حقبة العصور الوسطى على حد تعبير أحد المواطنين الألمان. إن الأمر أشبه بأن تقول لأحدهم: خذ عائلتك واذهبوا في رحلة تخييم لمدة أسبوعين خارج المدينة، واصطحبوا معكم كل ما يلزمكم.
وقد قام معهد الطاقة في جامعة لينز بإعداد دراسة لتقدير الخسائر المالية والاقتصادية في حال وقوع تعتيم شامل في بلد كالنمسا، وكانت النتيجة خسارة ما يعادل مليار يورو خلال 24 ساعة تعتيم، وهذا مبلغ هائل بحد ذاته يمكن أن يستخدم مثله في تحسين البنية التحتية لإنتاج الكهرباء أو تمكين الاحتياطات اللازمة لحماية الشبكة.
وفي إطار السيناريوهات المختلفة لإعادة تشغيل محطات التوليد في حال حدوث تعتيم شامل، يقول السيد بنسر الخبير الألماني في شؤون التشغيل: إن عددا محدودا من المحطات في أوروبا لديها الطاقة الكهربائية المخزنة لإعادة تشغيل نفسها أو ما يسمى بالتشغيل الذاتي، بينما تفتقد معظم المحطات هذه الميزة، وهي بالتالي بحاجة إلى طاقة كهربائية كبيرة لإعادة تشغيلها.
نحو مستقبل من دون تعتيم
في الخلاصة، نحن بحاجة إلى تفعيل متلازمة زيادة الإنتاج وتقليل الاستهلاك، ولذلك فإن تغيير بعض السلوكيات لدى المستهلكين من شأنها أن تخلق ذلك التوازن المفقود وتقليل الهدر في الطاقة.
هل تتخيل أن هاتفك الذكي يستهلك طاقة كهربائية أكثر من ثلاجتك التي في المنزل؟ قد يظن البعض أن الهاتف يستهلك فقط كمية شحن بطاريته، ولا يدور بخلدهم أن أي مكالمة يجرونها أو نص يرسلونه يحتاج إلى تشغيل شبكة دولية كاملة لنقل تلك البيانات.
كما أن تغيير بعض أنماط حياتنا مثل المشي واستخدام قدراتنا الشخصية في بعض أعمال المنزل من شأنها أن تساهم كذلك في تحقيق هذه المعادلة الدقيقة.
المسألة هي إعادة صياغة تفكيرنا الشامل وأساليب حياتنا التفصيلية من أجل نظرة مستقبلية شاملة لمعايير حياتنا على هذا الكوكب.