يوم واحد في غزة.. مسيرات العودة التي غَرِقت بالدماء

“خذ صورة لي مع أُمّي، فستكون ذكرى لها عندما أرحل”.. هكذا طلب موسى ضاحكا من أحد رفاقه أخذ صورة له مع أمه التي انضمت إلى جموع المتظاهرين على الحدود بين مدينة غزة وإسرائيل في 14 مايو/أيار عام 2018.

لم يكن موسى الممرض الفلسطيني الشاب على الحدود من أجل المسيرة الكبيرة التي انطلقت في ذلك اليوم، بل كان يمارس وظيفته ممرضا بإحدى سيارات الإسعاف، وطُلِبَ إلى المنطقة بعد أن بدأت الإصابات النارية تقع بين الفلسطينيين الذين كانوا قد عزموا حينها على عبور الحواجز بين غزة حيث يعيشون وإسرائيل.

تصيب رصاصة إسرائيلية قاتلة موسى، وتصور كاميرات عديدة جسده الضخم مُلقى على الأرض وبجانبه أُمه التي أفقدتها الصدمة القدرة على الكلام. سنتعرف على الأم جيدا في مقابلة ضمن الفيلم الوثائقي “يوم في غزة” للمخرج الإنجليزي المعروف أولي لامبرت.

تروي أم موسى تفاصيل تلك الساعات المُرعبة، حيث كانت الأم الفلسطينية تمسك أثناء المقابلة بسُترة موسى الطبية ذات اللون الأحمر “أُريد أن أحتفظ بهذه السترة كما هي، ففيها من رائحته”.

تتحدث الأم إلى كاميرا الفيلم التسجيلي والدموع تملؤ عَينيها. موسى لم يكن الوحيد الذي سقط شهيدا في ذلك اليوم، فهناك عشرات الشهداء وآلاف الجرحى من أقرانه.

مسيرة العودة الكبرى التي بدأت حسب بعض الروايات كنشاط عفوي، تحولت إلى واحدة من أشد المناسبات دموية في التاريخ الفلسطيني الحديث، حيث امتزجت دماء أطفال وفتيات وشباب بالتراب الفلسطيني في المنطقة العازلة بين غزة وإسرائيل.

فلسطين.. بعيدة قريبة

يوثق الفيلم التسجيلي “يوم في غزة” –وهو من إنتاج بي بي سي ومدته 60 دقيقة- تفاصيل وأحداث يوم الـ14 من مايو/أيار 2018 ويستعيد أيضا وبإيجاز الأحداث التي قادت إلى ذلك اليوم، إذ إن اعلان الولايات المتحدة الأمريكية نقل سفارتها من تل أبيب إلى القدس والاعتراف بالأخيرة عاصمة لإسرائيل؛ قاد إلى موجة احتجاجات سلمية في غزة.

يُظهر الفيلم مشاهد لنشاطات ثقافية وفنيّة نظمها فلسطينيون سبقت يوم 14 مايو/أيار، بيد أن طبيعة هذه الاحتجاجات تغيرت عندما دخلت الأحزاب/الفصائل الفلسطينية -حماس والجهاد الإسلامي- على الخط وتبدلت وجهة هذه الاحتجاجات، فقد تحول العبور البري الحاشد إلى إسرائيل إلى هدف لها لاسيما وأن توقيت هذا العبور كان في يوم الإعلان الرسمي عن نقل السفارة الأمريكية إلى القدس.

يحاول الفيلم التسجيلي أن يوثق بداية الاحتجاجات التي عُرفت بعدها بـ”مسيرات العودة” وهوية الذي يقف وراءها، ولهذا الغرض يقابل المخرج في هذا الخصوص شاعرا فلسطينيا اسمه أحمد أبو أرتيمه الذي كتب على صفحته في أحد مواقع التواصل الاجتماعي قصيدة وجدانية تصف مشاعره وحزنه عندما يرى السياج العازل بين منطقة غزة وإسرائيل، ليتم تداول قصيدة هذا الشاعر على نحو واسع فتبدأ بعدها حركة شعبية عفوية بعيدة عن العنف وكانت تأمل أن تعود دون بنادق إلى فلسطين الكبرى التي تقع خلف الخط الفاصل.

يذكر أبو أرتيمه أن 70% من سكان غزة هم أبناء لاجئين أصلا، وقد هُجّروا في فترات تاريخية مُختلفة إلى غزة، لذلك فإن الحنين إلى مناطقهم التي احتلتها إسرائيل كان دائما في وجدانهم.

رسالة يجب أن تصل

يرصد الفيلم شهادات متفرقة لفلسطينيين كانوا موجودين في ذلك اليوم يفتحون قلوبهم للفيلم فيكشفون الأسباب الخاصة التي جعلتهم يشاركون في المسيرة.

وتُجمع الشهادات على رمزية أهداف المسيرة وهو الوصول دون أسلحة إلى السياج العازل وإزالته ثم العبور السلمي إلى الأراضي الفلسطينية.

يرصد الفيلم شهادات متفرقة لفلسطينيين كانوا موجودين في ذلك اليوم يفتحون قلوبهم للفيلم
يرصد الفيلم شهادات متفرقة لفلسطينيين كانوا موجودين في ذلك اليوم يفتحون قلوبهم للفيلم

يوثّق الفيلم شهادات الفلسطينيين بمشاهد صُورت بلقطات واسعة وبعيدة لحركة فلسطينيين يوم المسيرة وكيف تجمع الناس في مجاميع كبيرة، كما يوثق أيضا حركة مجموعات صغيرة من الفلسطينيين نحو السياج العازل، حيث قاموا بحرق إطارات السيارات لمنع كاميرات المراقبة الإسرائيلية من رؤية ما يجري على الجانب الآخر من السياج.

“نحن لا نستهزئ بحياتنا، لكنها رسالة ويجب أن تصل للعالم”، هكذا يصف أحد الشباب الذين شاركوا في المسيرة ما كان يُفكر به في ذلك اليوم. وهذا الشاب نفسه كان ضمن المجموعة التي وصلت قريبا إلى السياج العازل، فالفعل الذي قام به والذي يُوصف بالخطورة الشديدة كان “الرسالة” التي يقصدها الشاب وهي أن تتحول الجموع البشرية إلى قوة تخترق ما عجزت عنه 70 عاما من الحروب وأحيانا المفاوضات، والوصول إلى أرض الآباء التي حُرِم منها هو وغيره من سكان غزة.

شهادات إسرائيلية

يتنقل الفيلم بين الشهادات الفلسطينية والإسرائيلية، ليُركز الفيلم في شق شهاداته الإسرائيلية على مسؤولين كانوا قريبين من أحداث ذلك اليوم.

تدافع الشهادات الإسرائيلية عن استخدامها العنف المفرط الذي أدانته الأمم المتحدة في تقرير عن أحداث ذلك اليوم واعتبرته جريمة حرب متعمدة، لكن من تحدث للفيلم اعتبر أن استخدامهم للرصاص الحي كان دفاعا عن النفس ضد حشود فلسطينية كان ستبلغ القرى الإسرائيلية التي يقع أقربها على بعد 300 متر فقط من السياج العازل.

يُحقق المخرج في أحداث ذلك اليوم، ويتحول البحث عن المسبب الفعلي "لكارثة" مسيرات العودة إلى اتجاه أو سردية خاصة بالفيلم
يُحقق المخرج في أحداث ذلك اليوم، ويتحول البحث عن المسبب الفعلي “لكارثة” مسيرات العودة إلى اتجاه أو سردية خاصة بالفيلم

يصل الفيلم التسجيلي إلى غرفة مراقبة خاصة لوحدة أمنية تتألف من النساء حصرا يقمن عبر كاميرات عديدة بمراقبة ما يجري على الحدود. يقابل المخرج بعضا من أعضاء الوحدة اللواتي لم يرغبن بالكشف عن وجوههن، تتواصل الوحدة الأمنية النسائية تلك عبر الهاتف مع القوات العسكرية على الحدود مع قطاع غزة.

يُقابل الفيلم إسرائيلية من أصول أمريكية تعيش في قرية قريبة من الحدود مع غزة شاهدت جموع الفلسطينيين تقترب في يوم الرابع والعشرين، تمثل هذه السيدة بشهادتها المدنيين الإسرائيليين، لكن ما تقوله للفيلم لن يخرج بخطوطه العامة عن الرواية الإسرائيلية الرسمية عن الحادثة، فهي ستبرر العنف الكبير لقوات بلدها بأنه كان أمرا حتميا في وجه شعارات فلسطينية كانت تنادي بدخول الفلسطينيين إلى القرى الإسرائيلية حينها وقلع قلوب كل من يقابلونهم من الإسرائيليين.

هل تتحمل حماس المسؤولية؟

يُحقق المخرج في أحداث ذلك اليوم، ويتحول البحث عن المسبب الفعلي “لكارثة” مسيرات العودة إلى اتجاه أو سردية خاصة بالفيلم، فيُسائل المخرج قيادات من حماس عن سبب تدخلها في احتجاجات بدأت بالأصل سلمية وثقافية.

ويمكن تلخيص أجوبة قادة حماس الذين قابلهم الفيلم بأن الحركة السياسية هي جزء من نسيج المجتمع الفلسطيني في غزة، ووجودهم في ذلك اليوم كان أمرا عفويا وطبيعيا. ويرد قيادي حمساوي آخر بغضب على المخرج بأن البنى التحتية للمسيرة -توفير خيم ودورات مياه وغيرها- تعد أمرا معقدا ومتطلبا لم يكن ليتم لولا رعاية أحزاب كبيرة مثل حزبه.

يعترف قيادي من حماس أن السلاح ينتشر كثيرا بين الفلسطينيين
يعترف قيادي من حماس أن السلاح ينتشر كثيرا بين الفلسطينيين

وتصل نتائج تحقيقات الفيلم عن دور الأحزاب السياسية الفلسطينية فيما كان في أصله نشاطا مدنيا إلى نتائج تقول إن حماس لم تهتم كثيرا بمصائر فلسطينيين مدنيين، فالحركة قامت مثلا بنقل فلسطينيين من أماكن مختلفة في يوم الـ14 من شهر مايو/أيار إلى مناطق خطرة جدا دون مراعاة أعمار وجنس المدنيين. وتذكر أم موسى التي استشهد ابنها أن باصا نقلها وهي السيدة المتقدمة في العمر إلى منطقة نائية وصعبة بتضاريسها، وتُركت هناك لمصيرها.

كما سيتم التركيز على حادثة إطلاق نار تم من جانب فلسطينيين من الذين كانوا قريبين جدا من الحدود مع إسرائيل، وما تبعه من إطلاق نار كثيف من الجيش الإسرائيلي الذي قتل وجرح عشرات الفلسطينيين.

يعترف قيادي من حماس أن السلاح ينتشر كثيرا بين الفلسطينيين، وأنه كان من غير الممكن السيطرة على جميع من كان في المسيرة خاصة في ظل الاحتقان الهائل الذي كان مهيمنا على الأجواء.

يصف أحد الفلسطينيين الذين نجوا من ذلك اليوم، كيف أَطلق شاب قريب منه النار من مسدسه، وردة الفعل العنيفة جدا للجيش الإسرائيلي الذي رد على الصوت بإطلاق نار كثيف من أسلحته المتقدمة.

الشهيدة الأصغر

يسعى الفيلم للموازنة بين زمن الشهادات الفلسطينية والإسرائيلية فيه، ويميل بشكل أكبر للجانب الفلسطيني عبر فسح الفيلم المجال لقصص فلسطينية مؤلمة كثيرا مثل حكاية “وصال” الفتاة التي تبلغ 14 عاما والتي كانت برفقة أخيها الأصغر.

وصال كانت ضمن النساء اللواتي حرقن إطارات السيارات وجلبن الأحجار إلى الشباب الفلسطينيين لرميه على الجانب الآخر، لكن رصاصة إسرائيلية اخترقت الدخان الكثيف وقتلتها، لتكون أصغر شهيدة في ذلك اليوم. “هذا ما تمنته في حياتها.. أن تستشهد من أجل فلسطين” كما تقول أم وصال باكيةً أمام الكاميرا.

"وصال" الفتاة التي تبلغ 14 عاما برفقة أخيها الأصغر
“وصال” الفتاة التي تبلغ 14 عاما برفقة أخيها الأصغر

يصف فتى فلسطيني لم يتعد الخامسة عشرة؛ الدقائق العسيرة التي مرت عليه عندما اقترب كثيرا من الخط العازل مع مجموعة من الشباب، كان رفاقه يتساقطون بفعل الطلقات الموجهة، لكن هذا لم يوقف الباقين وفق شهادة الفتى الذي كانت الكاميرا في البداية تركز على نصفه العلوي، وعندما اختتم الفتى الفلسطيني شهادته، رجعت الكاميرا إلى الخلف لتظهره يجلس على أريكة برجل واحدة فقط، فقد بُتِرت ساقه بعد إصابتها برصاصة إسرائيلية في ذلك اليوم.

لا يبقى الفيلم في المنطقة الفاصلة بين قطاع غزة وإسرائيل، بل يذهب إلى إحدى مستشفيات غزة، حيث تم نقل أغلب الجرحى والشهداء في ذلك اليوم.

يستعرض الفيلم مشاهد أرشيفية للتذكير بالجحيم الذي عاشه العاملون في ذلك المستشفى الفلسطيني ولم يكن هذا المستشفى مستعدا لمئات الحالات الحرجة التي وصلته ولنوعية الإصابات، فقد تعمدت القوات الإسرائيلية إصابة الشباب الفلسطيني بسيقانهم. يذكر طبيب يعمل في المستشفى أن الصالة التي تستوعب 40 سريرا فقط كان عليها أن تستقبل أكثر من 100 حالة طارئة.

مشاهد من يوم العودة

يستند الفيلم على مادة صورية من مصادر شتى (يستعين الفيلم بمواد مصورة من عدة مصادر)، منها من وكالات أنباء أجنبية، والكثير منها صوره فلسطينيون عاديون بكاميراتهم الصغيرة وهواتفهم الذكية.

تتميز كثير من صور الفيلم بالجودة، وزوايا الالتقاط غير المسبوقة لتفاصيل ذلك اليوم، بيد أن الصور التي تنقل سقوط ضحايا فلسطينيين على الهواء وأمام الكاميرات هي الأكثر قسوةً إلى حد جعلها صعبة أحيانا على المشاهدة.

يُعيد الفيلم التذكير في أكثر من مناسبة بأن معظم الفلسطينيين الذين نراهم على الشاشة هم أبناء لاجئين بالأصل
يُعيد الفيلم التذكير في أكثر من مناسبة بأن معظم الفلسطينيين الذين نراهم على الشاشة هم أبناء لاجئين بالأصل

يصور الفيلم مشهدا لجمع من الفلسطينيين، ثم فجأة تنطلق صرخات هنا أو هناك، وعندما تبحث الكاميرا عن مصدر الصرخات، تجد فلسطينيين سقطوا للتو. كان التصوير يصادف أحيانا إصابة فلسطينيين، فنشهد على الصرخة والتواء الجسد وترنحه وسقوطه على الأرض.

يُعيد الفيلم التذكير في أكثر من مناسبة بأن معظم الفلسطينيين الذين نراهم على الشاشة هم أبناء لاجئين بالأصل، وأن جُلَّ ما كان يبتغونه هو وضع أقدامهم على الأرض التي أُجبر آباؤهم وأجدادهم على مغادرتها.

ينتهي “يوم العودة” بمجزرة مروعة، إذ قتل نحو 60 فلسطينيا وجرح 2700، وفَقد بعض الفلسطينيين أطرافاً لهم بسبب هذه الإصابات. وبدا في نهاية اليوم الدامي ذاك أن طريق العودة للفلسطينيين إلى بلدهم مازال بعيد المنال.


إعلان