الرمل الأخضر.. ترويض الصحراء في وادي سوف الجزائرية
هناك يتجلى بعض من معاني قوله تعالى “هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور”.. تعال معي في جولةٍ في هذه البقعة الفسيحة من الجزائر، نشاهد كيف يمكن للإنسان أن يتحدى الصحراء ويروضها ليحول مفردتها من كلمة جامدة إلى أخرى تفيض بالحياة والعطاء والخضرة.
في فيلم “الرمل الأخضر” الذي أنتجته قناة الجزيرة الوثائقية، نرى كيف طوع الصحراءَ سكانُها، عاشوا بين نخيلها واسترزقوا منها ما طاب لهم من العيش والبقاء، تحدوا البيئة الصحراوية القاحلة وشيّدوا فوقها حياة خضراء، تابعوا قصة وادي سوف في الجزائر.
ولاية النخيل
تقع ولاية وادي سوف جنوب شرق الجزائر، ويقطنها نسيج متجانس متمازج من قبائل العرب والأمازيغ، حيث تتحدث كتب التاريخ عن موجاتٍ من الهجرة جاءت من الشرق العربي؛ من تونس وليبيا ومصر وحتى من اليمن.
تمثلت تلك الموجات بهجرات في قبائل من بني سُلَيْم وبني عدوان وبني هلال، جاءت على فترات خلال القرن الرابع عشر الميلادي، واستوطنت تلك البقعة من الصحراء بعد صراع على الماء والكلأ مع سكانها الأصليين من قبيلة زناته الأمازيغية.
يقال إن أسباب تلك الموجات من الهجرة تراوحت بين السياسي والمعيشي، حيث ترافقت مع تحرك الدولة الفاطمية شرقا لتتخذ من القاهرة عاصمةً لها، فكان هذا التحرك طاردا لهذه القبائل العربية نحو الغرب بحثا عن مواقع أكثر أمنا وأخصب عيشاً.
ولَمّا كانت هذه القبائل بدويةً بالطبع، كان لا بد لها أن تبحث عن بيئة تشبه تلك البيئة البدوية التي سكنتها، فالبدوي حِرْفته الرعي والترحال، فكانت الوجهة الحتمية إلى وادي سوف وما شابهها.
شكلت زراعة النخيل والاستثمار في التمور الشغل الشاغل للرجل السوفيِّ، الذي أبدع –بهداية الله له- طرائقَ عجيبةً في استخراج المياه لسقي نخيله، فكانت تكنولوجيا الغيطان، وهي ما يشبه الأحافير الدائرية في رمال الصحراء.
يتراوح قُطر كل دائرةٍ من 80 إلى 200 متر، وبعمق نحو 40 متراً، وذلك من أجل تقريب جذور النخيل إلى مصادر المياه الجوفية تحت تلك الكثبان القاحلة من الرمال اللاهبة، إذ تجثم هذه الصحراء على ثلاث طبقات من الماء يصل عمقها إلى نحو ألفي متر، مما يجعل منها خزانا طبيعيا لا ينضب.
صراع البقاء
لو جاز لنا أن نضع عنواناً لتلك الفترة من صراع الرجل السوفي مع بيئته، لقلنا إنه التحدي بأقوى صوره، أو إنه الصراع من أجل البقاء الذي أفرز انتصارا عظيما للإنسان السوفيِّ على العقبات التي تواجهه في بيئة صحراوية لا ترحم.
مع استقرار الدولة الجزائرية بشكلها المعاصر، انتهجت السلطات أساليب توطين البدو واستصلاح الأراضي للزراعة، فقامت بتوزيع الأراضي بالمجان على قاطني المناطق الصحراوية بضمانةٍ وحيدة، هي رعاية الأرض وزراعتها، وصولاً إلى الهدف العام للدولة وهو الاكتفاء الذاتي من الإنتاج النباتي والحيواني.
وقد كان ذلك وأكثر، فصارت المنتوجات الجزائرية تغطي كافة الأسواق الأوروبية وحتى العالمية، ولك أن تتخيل أن في الجزائر نحو 20 مليون شجرة نخيل منها أربعة ملايين نخلةً في ولاية وادي سوف وحدها.
في وادي سوف أسفرت هذه السياسة عن اكتفاء ذاتي محلي على مستوى الولاية التي تحولت بما يشبه المعجزة من أرضٍ رعوية بدائية إلى سلة غذاء متكاملة للدولة الجزائرية وأسواقها الخارجية كذلك.
فناتج الولاية من محصول البطاطا لوحدها وصل إلى ما يعادل 26% من الناتج القومي، فضلاً عن الأنواع الأخرى مثل الطماطم والفول السوداني والتمر والثوم والبصل والبطيخ وحتى القمح، حتى إن هذه الولاية قضت على مشكلة البطالة كلياً أو تكاد، وتحولت ولايةً فِلاحيةً بامتياز.
وفي نظرة سريعة على بعض أنواع المحاصيل التي تحتاج ظروفا خاصة، فإنك تجد الموز مثلا الذي يحتاج إلى الرطوبة والماء الكثير؛ قد تم إنتاجه في الوادي، وبعض المحاصيل الموسمية مثل الشعير زرعت مرتين في السنة إمعاناً في التحدي وتطويعاً للأرض التي ذللها الله للبشر.
تحدي الطبيعة
لكن البيئة لم تضع بعدُ كامل أسلحتها، ولا يزال الصراع قائماً بين البشر والطبيعة، والأيام دوَلٌ الى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فمن ندرة الماء في بعض المواسم وارتفاع كلفة استخراجه، إلى قسوة الرياح وعسْف الرمال، ومن البرودة القارسة والصقيع المهلك في فصل الشتاء، إلى حر الشمس اللافح والهجير المضني في الصيف.
كما أن المشاكل التقنية ما زالت حاضرة، فتوفير الآلات الزراعية لتسوية الأرض وشق المسالك عبر التضاريس الصعبة في الأرض وحصاد المحاصيل وحملها إلى الأسواق؛ ما زالت عائقاً وكلفتها عالية.
يضاف لذلك مشكلات توفير الطاقة الكهربائية اللازمة، وكذلك توفير زيت الوقود للإنارة وتشغيل الماكينات وتبريد المحاصيل قبل تسويقها.
ولا يزال توفير المبيدات الحشرية والأدوية اللازمة للقضاء على طيف واسع من الديدان والحشرات والآفات الزراعية يشكل تحديا قائماً في وجه الفلّاح السوفي.
حتى التحديات النفسية والمجتمعية ما زالت حاضرة، فالنفس البشرية بطبعها تميل إلى الراحة والدعة، وهذا ما يدفع كثيراً من الناس إلى البحث عن الوظائف والعمل بالأجرة ليريح نفسه من التحدي ويقبل بأجر مقابل عمل محدود يؤديه مثل الآلة.
غير أن أهل الوادي -والحق يقال- أناس مستقلون بطبعهم، متوكلون على الله بفطرتهم، يحسنون النوايا ويخلصون الجهد، وفي آخر النهار يرضون بفضل الله الذي آتاهم. فتراهم يقبلون على الأرض ويَعافون الوظيفة، ويراهنون على ما عند الله قَلَّ أو كثر، ولا يرضون الأجرة الثابتة مقابل الوظيفة الرتيبة.
لا تراجع
العقل الجمعي السوفي قَبِل التحدي، وأرسى على مر الأيام دعائم العلم والمعرفة والإبداع والابتكار لمواجهة كل الظروف والتحديات، وهو نفسه العقل الذي حوَّل الصحراء القاحلة المجدبة إلى جنانٍ غنّاء وواحاتٍ وارفة الظلال.
فهو يضع الآن حلولاً ناجعة لكل المشاكل والمعوّقات، بل إنه يحوِّل بعض الصعوبات إلى عوامل مساعدة في دفع عجلة الإنتاج، فمثلا في تعامله مع بعض المشاكل مثل ملوحة الأرض، وجد أن بعض المحاصيل مثل الطماطم تتأقلم وتتكيف مع هذه المشكلة فزاد من زراعتها في هذه المنطقة.
وحتى لا تهلك الأرض فإنه ناوب بين زراعة المحاصيل المختلفة، وقام بتقسيم العام الفلاحي إلى دورات بمعدل ثلاثة شهور للدورة الواحدة، حيث يزرع في كل دورة محصولاً مختلفاً من الخضار والبقول، مما يساعد الأرض على استعادة خصوبتها.
كما قام بتطوير المبيدات الحشرية واستخدام تقنيات متطورة مثل استخدام الضوء بموجاتٍ خاصة من أجل جذب الحشرات إلى الضوء عوض تموضعها على الثمار. واستخدم المخابر الحديثة لاختيار الأسمدة المناسبة لكل محصول، مع إعطاء الأولوية للسماد العضوي الطبيعي، وكذلك لفحص التربة والمياه من أجل الاطمئنان على وجود العناصر والمعادن المفيدة للنبات مثل الكالسيوم والبوتاسيوم والمغنيسيوم.
وقام بتحسين أنواع البذور عن طريق التهجين والتطعيم (التلقيم) والتقنيات المناسبة الأخرى من أجل التغلب على قساوة الظروف البيئية الصحراوية، واستحداث أصناف من البذور تتأقلم مع المناخ القاسي.
وقام بتطوير أساليب السقاية حتى يستفيد من كل قطرة من الماء الشحيح، فاستخدم الري بالتنقيط، وقام بصناعة محاور السقي الكبيرة محلياً وبالأدوات والمعدات المتوفرة لديه من أجل السقي بالرذاذ المتطاير لتوفير المياه.
وقام باستحداث آلات الرفع الخاصة التي تمكن العمال والمستخدمين من التسلق على أشجار النخيل الشاهقة للعناية بها ولجني المحاصيل، مما يحفظ سلامة الإنسان أولا، وذلك بدلاً من المخاطر التي قد يتعرض لها جراء التسلق اليدوي على النخيل، ومما يضمن كذلك الإنتاجية العالية واستغلال الوقت في العناية بأكبر عدد من الأشجار في اليوم الواحد.
واستفاد الفلّاح السوفي من الخبرات العلمية والإرشاد الزراعي الذي توفره ولاية وادي سوف في جدولة تلقيح النباتات وخصوصاً النخيل للحصول على أعلى وأجود مستويات الإنتاج، حتى إن الجزائر باتت تصنَّف في المرتبة الأولى عالمياً في إنتاج أجود أنواع التمور، وعلى رأسها تمور “دقلة نور” المتميزة عالميا.
حتى الظروف المناخية القاسية، فقد صيَّرها المزارع في صالحه، فشدة الحر تساعد في إنضاج الثمار مبكرا مما يعين الفلاح على غزو الأسواق مبكراً والظفر بأعلى الأسعار لمنتجاته.
كما أن برودة الرمال في الليل باتت تستخدم كمستودع تبريد وتخزين لبعض أنواع المحاصيل، وهكذا فإن علاقة المزارع مع بيئته باتت تصنف على أنها علاقة تعايش وتصالح أكثر منها علاقة تصارع وتناقض.
ولا يزال نسق التحدي والتطويع متصاعداً بين المزارع وأرضه حتى أخرج لنا وادي سوف غلالاً لم نكن نتخيل في يومٍ أنها تنتج في مثل هذه البيئة، فصار زيت الزيتون المنتج من الوادي يضاهي في مواصفاته الغذائية أرقى أنواع الزيوت في الإقليم بل وفي العالم، ويتميز عنه بنسبة الحموضة المتدنية، والتي تعد ميزة يختص بها زيت هذا الوادي، كما أصبح زيتون الطاولة جنباً إلى جنب مع الزيتون الإسباني والتونسي على موائد العالم.
دور الإعلام
وقد تنبه أهل الوادي لدور الإعلام في النهضة والتنمية المستدامة، فقاموا من خلال وسائل إعلامهم المحلية بإطلاع البلاد والإقليم والدول المجاورة على الثورة الزراعية الموجودة عندهم، وعلى الغلال والثروات التي يمكنهم أن يشاركوا البلد والعالم بها.
كما تحدثوا عن الصعوبات والمعوقات التي تواجههم وتحد من طموحاتهم التي تطاول عنان السماء، كي يجدوا الآذان الصاغية لمشاكلهم ويروا يد العون تمتد إليهم علميا ومهنيا وإداريا وماليا، ومن كافة مرافق الدولة.
إذا كان الحب هو اللغة الصامتة التي يتخاطب بها كل البشر في هذا الكون، فلا شك في أن حروف هذه اللغة هي الزهور والورود ونباتات الزينة. وقد كان لوادي سوف مساهمة جليلة في نشر الحب والسعادة في أرجاء الكون، لقد أنتجت هذه الأرض الطيبة أجود أنواع الزهور، وأزهى ألوان الورود لتكون هديةً منها ومساهمةً في كل مناسبات هذا الكون وأعياده.
ظل أهل الصحراء في هذه الربوع أوفياء لتراث إنساني هام تعلَقُ به مخيلتهم الجماعية جيلا بعد جيل. وإن تمسكوا بتراث الأولين على رمال زاحفة كانت الأرض والوطن، فإنهم سكنوها بروح مشحونة بالتحدي، فما كان من هذا الرمل إلا أن يكون مطواعا عندما وجد من يرسم فوقه لوحات خضراء لم تكن سوى آية من الإبداع.