آثار “البجراوية” في السودان.. تراث إنساني تحت رحمة الطبيعة

تسببت الأمطار الطوفانية التي عرفها السودان بداية شهر سبتمبر/أيلول 2020 في خسائر مادية وبشرية فادحة، بعد ارتفاع منسوب نهر النيل بشكل غير مسبوق منذ حوالي 100 سنة.  وخلفت السيول الجارفة سقوط ما لا يقل عن 120 قتيل، وتشريد مئات الآلاف من السكان، وانهيار أكثر من 100 ألف منزل، ونفوق آلاف رؤوس الماشية وفق بيانات حكومية.

ولم تقتصر أضرار الفيضانات على هذا المستوى، بل امتدت إلى منطقة “البجراوية” الأثرية شمال العاصمة السودانية الخرطوم، حيث توجد آثار الدولة “الكوشية”. وكادت المياه أن تغرق بعض أثار “المدينة الملكية” قرب أهرامات “مروي”، لولا جهود السكان المحليين التي حالت دون ذلك باستعمال وسائل بسيطة وتقليدية.

وخصصت السلسلة الوثائقية “دهاليز” -التي عرضتها “الجزيرة الوثائقية”-حلقتها الخامسة ل”آثار مروي/ أهرامات السودان”، كاشفة عن الكثير من الأسرار المرتبطة بهذه الآثار وعلى رأسها الأهرامات والمدافن التي تعود للحضارة “النوبية” والحكم “الكوشي”، والمدرجة في 2003 و2011 ضمن قائمة التراث العالمي التابعة ل “اليونسكو”.

فكيف صمدت هذه الآثار على مر العصور؟ وماهي التهديدات التي واجهت هذا التراث الإنساني الذي يبقى شاهدا على الحضارة السودانية القديمة؟ وما هي أهمية هذه الآثار والكنوز التي يعود بعضها إلى القرن الثامن قبل الميلاد، وتكشف قصص وحكايات الحضارة النوبية والحكم “الكوشي”؟  وكيف استطاعت هذه الحضارة بناء أهرامات لازال الغموض يكتنف عددها وتاريخها وسبب بنائها؟

آثار “البجراوية”.. الوجه المشرق للحضارة النوبية

يشكل المعمار والبناء أحد أبرز تجليات الحضارات القديمة، والتي يبني عليها المؤرخون نظرياتهم لمعرفة قوة وحجم التقدم الذي وصلت إليه الدول والممالك التي مرت عبر العصور.

ولا شك أن الحضارة النوبية في بلاد السودان حاليا، بلغت مستويات متقدمة جدا من الازدهار والرقي في الألفية الأخيرة قبل الميلاد، وهو ما يظهر جليا في آثار المملكة “الكوشية” التي حكمت هذه المنطقة واتخذت من “كرمة” و”نبتة” ثم “مروي” عواصم لها.

هذه المواقع التاريخية الواقعة شمال السودان على ضفاف نهر النيل، قضت فترة ازدهار امتدت لقرون عندما كانت دولة “كوش” تبسط نفوذها الشاسع على ضفاف النيل الأوسط. ورغم صعوبة تحديد الأراضي التي كانت تحكمها هذه الدولة بدقة، إلا أن أغلب المؤرخين أكدوا امتدادها على مسافة 1500 كيلومتر على طول نهر النيل، من الحدود المصرية إلى عاصمة السودان الحالية الخرطوم.

وتوصف مملكة “كوش” بمهد الحضارات الافريقية، وامتدادها في الزمن يعود إلى 3000 سنة قبل الميلاد، إذ أثبت أعمال التنقيب عن الآثار أن “كرمة” كانت أول عاصمة للمملكة الكوشية، فيما عاشت أرقى فتراتها في فترة الحكم “المروي”.

وساهم عالم الآثار الأمريكي “جورج أندرو رايزنر” منذ عام 1913، في كشف تسلسل الملوك الذين حكموا هذه المملكة من خلال الحفريات الأثرية والاكتشافات العديدة التي قام بها. قبل يأتي الدور على باحثين آخرين على رأسهم السويسري “شارلي بونيه” الذي كشف جزء من تفاصيل هذه الحضارة المتميزة بثقافتها المادية وتقاليدها.

أهرامات ومعابد ومدافن.. موروث إنساني ينشد الحماية

تتميز المآثر التاريخية التي تحتضنها منطقة “البجراوية”، بموقعين رئيسيين بحسب الموقع الرسمي لليونيسكو، الأول هو “جبل البركل ومواقع المنطقة النوبية” وصُنف تراثا عالميا منذ 2003، ويشغل مساحة يفوق طولها 60 كلم في وادي النيل، واعتُبر العاصمة الدينية لمملكة “نبتة” التاريخية.

وتحمل هذه المواقع كلها آثار الثقافة النوبية والمروية السائدتين في ظل دولة “كوش الثانية” في الفترة ما بين (900 – 270 قبل الميلاد)، وتشمل بالأساس 13معبدا، و3 قصور، وحوالي 15 هرما بنيت جلها فوق مدافن ملوك وملكات حكموا في تلك الفترة.

تميزت أهرامات مروي بانحدارها الشديد، وبصغر حجمها مقارنة بمثيلاتها المصرية، فأكبرها طوله 30 مترا فقط

أما الموقع الثاني الذي صنف تراثا عالميا في 2011، فهو ” الموقع الأثري في شبه جزيرة مروي” بين نهر النيل ونهر “عطبرة”، معقل مملكة “كوش”، والتي كانت قوة عظمى بين القرنين الثامن والرابع قبل الميلاد.

وتطغى على هذا الموقع الأثري أيضا الأهرامات العديدة التي يقدر عددها ب220 هرما، بنيت من الجرانيت والحجر الرملي في ثلاث مجموعات، فوق مدافن تضم رفات 20 ملكا و8 ملكات، و3 من الأمراء و10 من النبلاء حكموا بلاد النوبة.

ما نجا من الطمس والتخريب.. أصبح تحت رحمة الطبيعة

كان عالم المعادن الفرنسي “فريديريك كايو” من أوائل الأجانب الذين شاهدوا آثار مروي القديمة بالبجراوية، وعرف بها في الخارج من خلال كتاب صدر له في باريس عام 1826، وذلك بعدما زار السودان سائحا ومستكشفا رفقة قوات “إسماعيل باشا” التركية التي غزت البلاد في عام 1820م.  بعد ذلك جاء الدور على البريطاني “آرثر توود هولرويد” بين عامي 1836 و1837م، والذي ساهم بشكل كبير في إشعاع هذه الآثار في العالم، من خلال كتاباته عن المنطقة.

في المقابل، لم تسلم هذه البنايات الأثرية من الإيطالي “جيوسيبي فيرليني” الذي يوصف بصائد الكنوز، تحت غطاء طبيب جراح مرافق لجيش الخديوي إبان الاحتلال التركي للسودان. وأكدت جل الروايات أن “فيرليني” قام بتفجير 40 هرما بمنطقة “مروي” ب”الديناميت” وقام بسرقة محتوياتها، خصوصا هرم الملكة-الكنداكة “أماني شاخيتو”، والذي وجد بداخله مجوهراتها الثمينة، وهي معروضة حاليا في متحف العاصمة الألمانية برلين.

الكتابات التاريخية تقول إن الهندسة المعمارية “الكوشية” استوحيت من الأذواق الزخرفية المصرية واليونانية والرومانية

وظل ما بقي من هذه الآثار لسنوات، عرضة للإهمال أمام ظواهر الطبيعة القاسية في تلك المنطقة الصحراوية القاحلة، على رأسها ظاهرة زحف الرمال التي طمست معالم أثرية، ودفنتها إلى الأبد. قبل أن تأتي الفيضانات الأخيرة خلال شهر سبتمبر/أيلول 2020، وكادت أن تتسبب في ضياع جزء من هذا الموروث الإنساني.

ويقول “حاتم النور” مدير الهيئة العامة للآثار والمتاحف في السودان، إن “الحمام الملكي” في “مروي”، تعرض لخطر كبير بسبب مستويات المياه غير المسبوقة.  كما تضررت بشكل بليغ مقابر مدينة “نوري” تحت الأهرامات الأثرية شمالي الخرطوم إثر ارتفاع منسوب المياه الجوفية، وخصوصا مقبرة “طهارقة” التي تعتبرها الهيئة العامة للآثار والمتاحف في السودان أثرا تاريخيا لا يقدر بثمن.

حضارة السودان القديمة.. الفراعنة السود

تدل أغلب الاكتشافات الأثرية المرتبطة بالحضارة “النوبية” إلى وجود قواسم مشتركة وتشابه يصل أحيانا حد التطابق مع الحضارة الفرعونية في مصر القديمة، حتى سمي ملوك “كوش” بالفراعنة السود في مجموعة من الكتابات والنصوص حول تاريخ هذه الحضارة العريقة.

وتقول الروايات التاريخية بأن ملوك “كوش” احتكوا كثيرا بالفراعنة إلى الشمال من نهر النيل، ووصلوا إلى أقصى حد لهم، عندما غزوا مصر وحكموها تحت اسم “الأسرة الـ25” من نحو عام 725 إلى 653 قبل الميلاد، حتى طردهم الآشوريون مجددا إلى منطقة النوبة، ومحى المنتصرون جل أسماء هذه الأسرة من المعالم الأثرية في جميع أنحاء مصر، ودمروا تماثيلهم لمسحهم من التاريخ.

ورغم أن عددا من الباحثين وعلى رأسهم رئيس بعثة الآثار السويسرية في المنطقة “شارلي بونيه”، يعتقد أن أصل الحضارة الفرعونية بدأ في مملكة النوبة شمال السودان، إلا أن أغلب الكتابات التاريخية تقول إن الهندسة المعمارية “الكوشية” مستوحاة من الأذواق الزخرفية المصرية واليونانية والرومانية.

ونجد أن “الكوشيين” تأُثروا كثيرا بالعادات والتقاليد التي كانت سائدة لدى الفراعنة مع ترك لمستهم الخاصة، إذ أنهم استمروا بعد طردهم من حكم مصر، ونقل عاصمتهم إلى “مروي” في دفن ملوكهم في أهرامات، لكن تحتها، وليس بداخلها كما يقوم بذلك الفراعنة.

كما تميزت أهراماتهم بانحدارها الشديد، وبصغر حجمها مقارنة بمثيلاتها المصرية، فأكبرها طوله 30 مترا، بينما يبلغ ارتفاع الهرم الاكبر في الجيزة 146 مترا، ونجد أيضا تشابها في اسلوب النقوش مع التراث الفرعوني، مع وجود اختلاف في الكتابات، فاللغة “المروية” تأثرت بالهيروغليفية المصرية، لكنها مختلفة ولم تفك جميع شفراتها ورموزها حتى الآن، بالرغم من تمكن باحثين وعلماء آثار من قراءة بعض أسماء ملوك وملكات، ووظائف أو رتب اجتماعية وأمنيات للموتى منقوشة على القبور.

الكاندكات.. ملكات استفردن بالحكم في “مروي”

كان للمرأة عموما في الحضارة “الكوشية” القديمة دور بارز في الحكم والسياسة والحرب، واشتهرت بتقلد وظائف رفيعة، بقيت شاهدة عليها، النقوش الرسوم التي تظهر بعض هذه الملكات يقدمن القرابين للالهة، أو يمثلن ابطالا منتصرين.

وفي الدولة “المروية” لعبت المرأة دورا فعالا في حكم البلاد وفق تقاليد راسخة، فكان لقبها “كنداكة” ويعني أيضا في بعض الرويات “الأم العظيمة”، واشتهرت عشر ملكات على الأقل في “موري”، لعل من أبرزهن الملكة “شنكر خيتو”، التي تعتبر أول امرأة تصل إلى العرش بين 165 و145 ق.م. وقد شيد لها معبد في “النقعة” شرق معبد آمون التاريخي، كما اكشف لها نقش جنائزي بارز من الحجر الرملي داخل هرمها بالمقبرة الملكية الشمالية بمروي.

معبد “آمون” بمروي الذي أعادت بناءه الملكة “أماني تيري” وزوجها الملك “نتكاماني”

واشتهرت أيضا بعدها ملكات أخرى ومن بينهن الملكة المحاربة “أماني شاخيتو” التي عثر على اسمها في مخطوطة بمروي، والمعروفة بكنزها ومجوهراتها التي عثر عليها صائد الكنوز الإيطالي “جيوسيبي فيرليني”.

وعرفت أيضا “الكنداكة” “أماني ريناس” التي حكمت لثلاثين سنة، وقادت الجيش بنفسها لتقاتل الرومان على حدود السودان الشمالية. بالإضافة إلى الملكة “أماني تيري” التي شكلت مع زوجها الملك “نتكاماني” ثنائيا متكاملا في الحرب والسلم، واهتما بالمنشآت العمرانية والدينية، وقاما بإعادة ترميم وصيانة معبد “آمون” بمروي.

صناعة المعادن.. عندما يتحول عامل الازدهار إلى سبب للانهيار

عندما اتخذ “الكوشيون” “مروي” عاصمة لهم، لم يكن ذلك اعتباطيا، فهي تعتبر موقعا استراتيجيا يقع على مفترق الطرق التجارية داخل افريقيا، وممرا للقوافل نحو البحر الأحمر، بالإضافة إلى أن أراضي “مروي” تمتاز بخصوبتها في تلك الفترة، وغناها الطبيعي  بموارد مهمة على رأسها الحديد والذهب.

وأكدت الاكتشافات الأثرية في منطقة مروي خصوصا في محيط “المدينة الملكية” التقدم الذي وصلت إليه صناعة صهر وتصنيع الحديد، ووجدت في هذا الموقع بقايا الحديد والمصنوعات الحديدية التي أكد “الكربون 14 المشع” إلى أن تعود إلى القرن السادس قبل الميلاد. وانتشرت مراكز صهر وتصنيع الحديد في مناطق متفرقة من المملكة المروية، واستخدمت هذه المادة أساسا في صناعة الأسلحة والآلات الزراعية.

واستغلت أيضا دولة “كوش” وجود مناجم الذهب في المنطقة، معتمدة على تجربتها في صناعة التعدين، لتصبح أكبر مصدر للذهب إلى بلاد الفراعنة في مصر، واشتهر ب”ذهب كوش” الذي وثقته الوثائق المصرية القديمة.

لكن هذا التطور في صناعة التعدين، سيعجل لاحقا بتدهور الدولة “المروية” وانهيارها، فبحلول القرن الرابع الميلادي، بدأت القوة والنفوذ في التضاؤل، بسبب المجاعة الناتجة عن تدهور الغطاء النباتي وقطع الأشجار لإشعال أفرنة صهر المعادن، وتغير المناخ في هذه المنطقة التي تحولت تدريجيا إلى منطقة صحرواية.

ويقول مؤرخون أيضا إن وفاة الملكة المصرية “كليوباترا” في السنة ال30 قبل الميلاد، وتحول مصر إلى مقاطعة للإمبراطورية الرومانية الناشئة، وضع حدا للهدنة بين “الكوشيين” و”روما”، وبدأت بالتالي الحروب يين الطرفين، وخصوصا في المناطق الحدودية الشمالية قرب مدينة “أسوان” حاليا.

وفي الجنوب شكل ظهور مملكة “أكسوم” الحبشية في منطقة “إثيوبيا” حاليا، ضربة قاضية للدولة “المروية” التي عانت من المنافسة الشرسة، وسيطرة “الحبشيين” على مسارات التجارة عبر شرق افريقيا والبحر الأحمر، قبل قدوم الملك “عيزانا” الحبشي الذي دمر ما تبقى من مملكة مروي العظيمة، منهيا حكما دام لقرون، وخلف آثارا لم تبح بعد بكل أسرارها.


إعلان