“موريتانيا أسياد الرمال”.. تراث بدوي يسامر البحر والصحراء

بين الصحراء والمحيط ولدت موريتانيا من رمل ورياح، وليتمكن أهلها من البقاء فيها اتبعوا طريقة عيش قاسية، وذلك بأن قضوا حياتهم في الترحال فخبروا الصحراء ونقلوا معرفتهم بها إلى جيل بعد جيل.

في هذا الفيلم الذي تبثه الجزيرة الوثائقية نتعرف على جانب من حياة الناس في موريتانيا أرض الرجال السمر المتشبعين بتعاليم الدين وتقاليد الصحراء.

موريتانيا.. لقاء الصحراء الكبرى بالمحيط الأطلسي

تقع موريتانيا في الشمال الغربي من القارة الأفريقية بين الصحراء الكبرى والمحيط الأطلسي، وتشكل الصحراء 75% من مساحتها، أما سكانها فخليط من القبائل الأفريقية المحلية والأمازيغ المسلمين الذي يرجع أصلهم لشمال القارة السمراء، إضافة إلى بني حسان القادمين من الجزيرة العربية، ويعيش معظم السكان على ساحل الأطلسي، ويدين 99% منهم بالإسلام.

عاش أهل البلاد نتيجة لتضاريسها الصحراوية الصعبة حياة ترحال قاسية شكلت هويتهم، ولكن مع مرور الزمن نزع الموريتانيون نحو الاستقرار، واختفى الترحال شيئا فشيئا.

يعيش ربع سكان موريتانيا اليوم البالغ عددهم أربعة ملايين ونصف المليون في نواكشوط العاصمة التي تأسست في خمسينيات القرن المنصرم إبان الاستعمار الفرنسي، وازدهرت المدينة في الستينيات بعد الاستقلال، حين تعرضت البلاد للجفاف فانتقل الكثير من البدو الرحل لها.

لكن أجزاء المدينة لم تقض على روح البداوة  فيهم، حيث يوجد في نواكشوط سوق الإبل الذي يبقيهم على صلة مع ماضيهم وثقافتهم .

حوض آرغين.. هجرة إلى موطن الإيمراغن

على شواطئ المحيط صورة أخرى لموريتانيا غير صورة الصحراء، فهناك أصوات البحارة والقوارب وشباك الصيد، وهنا يقف حمادة ابن الـ٢٥ ربيعا، وهو أحد أبناء البدو الذين هاجروا إلى المدنية، ولا يملك المؤهلات التي تمكنه من العثور على وظيفة.

يقول حمادة إن البطالة تزداد، وكثير من الناس يلجؤون إلى أعمال غريبة، لكنه يحمد الله أن هداه وأنار بصيرته ليتمكن من العمل كصياد، فهو يذهب كل يوم إلى البحر يحاول مد يد العون للصيادين مقابل أجر زهيد، ويحاول في ذات الوقت اكتساب مهارات الصيد.

سمع حمادة عن الإيمراغن وهم صيادون مهرة أمضوا جل حياتهم في البحر، فشعر حمادة بالفضول وأراد التعرف على حياتهم عن كثب لذا توجه نحو الشمال ليحقق هدفه، ففي شمال نواكشوط يقع متنزه حوض آرغين الوطني الذي يمتد على مساحة 12 ألف كيلومتر مربع، ويوفر الحوض الطعام والسكن للطيور المهاجرة، وهو عالم فسيح من الرمال ومساكن الطين.

في حوض آرغين يسكن 1500 شخص في ثمانية قرى بدائية وحرفتهم الوحيدة هي الصيد

هنا موطن الإيمراغن، حيث يعيش هذا المجتمع المنعزل جغرافيا وثقافيا على البحر، فهم يفهمونه جيدا ويخبرون تقلباته ويعرفون كيف يخرجون كنوزه من الثروات السمكية، ويتعايشون مع قسوة هذه الظروف بكل صبر وعزم.

يسكن في حوض آرغين 1500 شخص في  ثمانية قرى بدائية، ويسمح مجتمع الإيمراغن للغرباء بالدخول إلى عالمهم وتعلم أساليب عيشهم وحرفة الصيد، وقد ذهب حمادة إلى قرية إيويك ليقابل زعيمها نور الطاعن في السن، وطلب منه نور الانضمام إليهم ليتعلم الصيد، فقال له إنه لا بد له من التعرف عليه في البداية قبل السماح له بالانخراط في مجتمعهم.

ضيافة في خيمة الزعيم.. مرحبا بك في عائلة البحارة

محور حياة الإيمراغن هو الصيد، إذ يقضون معظم وقتهم في تحضير المواد وتجهيز القوارب، وبعد ذلك يقومون برفع السارية.

يعيش نور مع أولاده الأربعة وزوجته، ويبيعون معظم صيدهم إلى تجار السمك في نواكشوط، ويشكل ما بقي غذاءهم الأساسي.

يؤكد حمادة أن ليس لديه أي مشاكل، وأن كل ما يقصده هو التعلم، وأنه جاء إلى هنا لأنه سمع عن براعته وخبرته الكثير، وقد قبل به زعيم البحارة، وأراد أن يعرف كيف سيتصرف مع البحر، فطمأنه حمادة وأخبره أنه سيكون عند حسن ظنه.

سالك شاب قادم إلى أرغين ليتعلم مهنة الصيد من أربابها، فيستقبل استقبالا حسنا هناك

يرحب نور بضيفه للإقامة  في خيمته، وأثناء جلوسهم  يطلب منه أن يخبره بما يعرفه عن صيد السمك، فيخبره حمادة بأنه لم يُسمح له بالإبحار من قبل قط، فيقول له نور: حسنا فلنبدأ بذلك، غدا سيرافقك ابن أخي سالك ويخبرك ببعض تقنيات الإبحار، فهو القبطان وإذا توافقتما فسنعلمك أشياء أخرى.

رحلة بالقارب الشراعي.. درس الصيد الأول

يمتلك نور قاربين شراعيين، وهو أمر رائج في حوض آرغين، حيث يقود هو قاربا، ويبحر سالك بالقارب الآخر، وقد دخلت تلك القوارب الشراعية تاريخيا من قبل الإسبان، فتناقلها السكان المحليون أبا عن جد، ثم عدلوا عليها لتلبي حاجاتهم.

بدأ سالك ابن أخي نور بتعليم حمادة طريقة جر شبكة الصيد ونقلها إلى الشاحنة، وقد انخرط الضيف مع المضيفين بيسر وسهولة تحت إشراف الزعيم. وفي اليوم التالي بدأ سالك بتدريب حمادة على قيادة الدفة والتجديف تماشيا مع حركة الرياح، ويحذره من الاقتراب من الرمال المتحركة داخل المياه لأنه سيحتاج وقتها إلى الانتظار لساعات حتى يأتي المد ويستطيع الخروج.

أول دروس الإبحار التي يتعلمها سالك وهو في رحلته نحو مهنة الصيد الشاقة

يبدأ سالك بتعليم حمادة الصيد وتحريك الشباك، ثم أخبره أنه  قام بعمل جيد هذا اليوم.

يتعلم أبناء هذه البحارة السباحة منذ الطفولة، إذ يقوم الأهل برمي الأطفال في الماء لعدة مرات حتى يتقنوا السباحة، وكذلك الأمر بالنسبة للصيد وإدارة دفة القارب.

يخاطب سالك حمادة ويقول له: هو عمل شاق، لكن في يوم ما سينتهي التعلم وتقوم بتعليم الجيل التالي، ونور بمقام والدي، فقد تعلمت على يديه منذ الصغر، ولغاية اليوم ما زلت أستشيره، لأنه لا يزال لديه الكثير ليعلمني إياه.

كانت انطلاقة جديدة لحمادة ومستقبلا يفتح الأبواب أمامه، لقد تأثر كثيرا بسخائهم وترحيبهم به، وقرر البقاء معهم، مما قد يغير مسار حياته، فمجتمع الإيمراغن يحرص على إدماج الآخرين لضمان استمرارية تقاليدهم.

هضبة آدرار.. آخر معاقل البدو الرحل

في وسط موريتانيا تقع منطقة آدرار بتضاريسها الحجرية وواحاتها الطبيعية، وهي آخر معاقل البدو الرحّل الذين يقطعون الصحراء بحثا عن المراعي والمياه.

نتعرف على يوبا أحد هؤلاء البدو، وهو والد عائلة أصغرهم ديدا البالغ من العمر 17 عاما، فخلال تنقلهم  يستخدمون الجبال والكثبان الرملية للتعرف على الاتجاهات، وهم يستهدون بعلامات توارثوها وتعلموها بالتداول الشفوي.

في هضبة أدرار حيث البدور الرحل الذين عشقوا الترحال بحثا عن الكلأ والماء وصورة جوية لظلال جمالهم

يقول ديدا إن والده أعطاه خارطة ذهنية وجعله يحفظها للتعرف على أماكن الرعي الجيدة والشرب، فالعائلة تسافر مدة شهر يقصدون واحة تونغاد وهي أكبر واحة للنخيل في آدرار، وهناك سيشترك ديدا في سباق الإبل الذي يقام في الواحة.

خلال رحلتهم يتوقفون عدة مرات في مناطق تصلح للتخييم من أجل المبيت ليلا، وعندما يصلون إلى إحداها ينزلون حمولة الجمال أولا ويجدون لها مساحة جيدة لترعى، ثم يشعلون النار ويختارون مكانا للخيمة تكون فيه الرمال ناعمة، ليدكوا أوتادها وتكون في مأمن من هبوب الرياح.

سجالات السمر.. حنين شعبي في بلاد المليون شاعر

بعد أن تنصب الخيام وتثبت الأوتاد يبدأ البدو الرحل بتحضير العشاء، ثم ما إن يفرغوا من وجبة الطعام حتى يحين وقت السمر للحكايات والأشعار ومسابقات السجالات الشعرية، وهي من أقدم عاداتهم الشعبية، وكأنها شكل من أشكال الرياضات الذهنية، حيث يتشارك يوبا وعائلته تلك السجالات كلما سنحت لهم الفرصة.

يقول يوبا إن الشعر الشعبي له مكانة كبيرة في تقاليدنا، ونحن نحاول التفوق من خلال المديح والحنين، فبلادنا هي بلاد المليون شاعر، لكن أسلوب حياتنا البدوي آخذ بالضمور، إذ ينتظر شبابنا شيئا واحدا، وهو توفير ثمن سيارة وحبس أنفسهم بين أربعة جدران، لكني أجد أن أفضل اللحظات في حياتي هي التي أقضيها في الصحراء.

موريتانيا هي بلاد العربية والشعر والثقافة والعلم، وهنا سهرة عائلية شعرية بين الأب وأبنائه

أما بالنسبة لديدا، فالأمر مختلف فهو يحب هذه الحياة ويريد أن يرافق والديه ما داما على قيد الحياة، لكن بعد ذلك لا يعرف ما يخبئه الله له.

في اليوم التالي تكمل العائلة مسيرها تجاه الواحة التي تتحرق فاطمة والدة ديدا شوقا للوصول إليها لتتمكن من شراء القمح والحبوب والدهون لتخزينها.

تونغاد.. واحة وسط الصحراء تتهددها الرمال

تصل العائلة أخيرا إلى تونغاد التي تمتاز بمنازلها الحجرية وتتخللها بعض الخيم، هناك استقر بها البدو تدريجيا، ونلتقي هنا الداه فيداه، فهو زعيم تونغاد ويعمل مزارعا وله عدة فدانات في بستان النخيل المجاور، وفي ظلال النخيل يزرع الجزر والشعير.

يقول داه فيداه إن أكثر ما يحب مشاهدته هو هطول الأمطار لأنها تزيد من المياه الجوفية، مما يمكنهم من ري مزروعاتهم والحفاظ على واحتهم حية، لقد كان بستان النخيل ممتدا للجانب الآخر، لكن مع اتساع الصحراء تقلصت مساحته.

يحاول أهل تونغاد الواحة الواقعة وسط الصحراء إيقاف زحف الكثبان الرملية عن طريق زراعة أشجار النخيل

لا يريد الداه فيداه التخلي عن ميراث أجداده، فالعمال يساعدونه في الحفاظ على البستان، وهم يحاولون إيجاد الحلول لإيقاف زحف الكثبان الرملية الصحراوية ولو قليلا عن طريق زراعة الأشجار، وكذلك يحمي الداه بئر السقاية الذي لا غنى عنه في إبقاء التقاليد البدوية حية في هضبة آدرار.

سباق الإبل.. تقليد بدوي من تراث الصحراء

بدأ سباق الإبل -وهو أحد التقاليد البدوية- في التضاؤل بعد أن هجره القوم بشكل تدريجي، حاله كحال باقي التقاليد، وقد استطاع الداه فيداه جمع بعض الجمّالين لهذا الحدث. وفي يوم السباق، يقف تسعة جمّالين على خط البداية أحدهم ديدا وأخوه الأكبر، لكن ديدا هو الأصغر والأخف وزنا، لذا فإنه يتقدم أخاه، لكنهما يتعاونان معا لسد الثغرات ومنع المتنافسين من التقدم عليهما.

سباق الإبل.. تقليد بدوي من تراث الصحراء تجده في كل الصحارى العربية

يبلغ طول مسار السباق كيلومترين اثنين، وقد بدأ السباق وها هو ديدا يقطع نصف المضمار ويتقدم بفارق يؤهله للفوز والوصول لخط النهاية، وبانتهاء السباق يعلَن فوز ديدا الذي يُحمل على الأكتاف ويُرقص فرحا به.

يتذكر يوبا أيام صباه وأصدقاءه الذين رحلوا، فالأجواء والصرخات هنا حركت السواكن وأججت مشاعره وأعادته سنين بعيدة إلى الوراء، حين كان الناس يهتمون بتلك السباقات ويأتون من جميع أنحاء الصحراء الكبرى للمشاركة. يقول يوبا إنه فخور بابنه، فهو يمثله ويحترمه، وقد جاء إلى الصحراء ليرافقه في أعوامه الأخيرة، وهو بدوره يريد أن ينقل إليه كل خبرته.

شنقيط.. مدينة المكتبات التاريخية المندثرة

تمتد هضبة آدرار حتى الصحراء الكبرى، وهناك تكوين جغرافي يبلغ قطره 50 كيلومترا نتج عن نشاط بركاني جوفي وعمليات نحت وتعرية، يسمى قلب الريشات أو عين الصحراء، وبالقرب منه مركزان تجاريان محصنان هما وادان وشنقيط.

تأسست شنقيط في القرن الثالث عشر وهي ركيزة من ركائز الحضائر الإسلامية، وتعد مركزا معرفيا مهما ومنارة للعلم والعلماء في الإسلام، وقد كان في كل بيت منها مكتبة، لكن لم يبق منها اليوم سوى خمس مكتبات، ثلاث منها فقط مستخدمة.

شنقيط.. المدينة التي بنيت فوق رمال الصحراء فأصبحت مدينة العلم والثقافة والتراث

سيف هو أحد آخر الأمناء الباقين، فهو يذهب في كل صباح لعمله في مكتبة العائلة، وهذا اليوم مميز بالنسبة له إذ سيرافقه ابن أخيه محمد كمتدرب.

يقول محمد إن لكل قبيلة في موريتانيا مهنة، ونحن معشر الزوايا مهنتنا التعليم والتوعية، وأنا أريد الاستمرار بتلك المهنة والتعامل مع المخطوطات.

مكتبة آل محمود.. طقوس تسليم الإرث العائلي

في مكتبة آل أحمد محمود يبدأ سيف بتعليم ابن أخيه وتعريفه على المخطوطات والكتب، وهو سعيد لأن أحدا سيخلفه، وبذلك يضمن الحفاظ على ميراث أجداده .

حُفظت الكتب في جذوع الأشجار والأكياس وأحيانا في ظروف، وجميع المخطوطات مصنفة ومفهرسة، ويقوم سيف بفتح المخطوطات بحذر شديد حتى لا تتلف.

عشرات المكتبات في بيوتات شنقيط تزخر بالكتب والمخطوطات ويفتخر أهلها بوجودها عندهم

وتوجد في المكتبة كتب نادرة عن علم الفلك والرياضيات، بعضها من تأليف أبناء العائلة، وأخرى جلبت أثناء الحج والرحلات التجارية، فقد كانت تُشترى أو تقايض أو تُعطى بدافع الصدقة، كذلك ثمة كتب بعضها إهداءات من بعض سكان شنقيط.

صمدت المخطوطات بفضل أمناء المكتبات، لكن المكتبات في شنقيط مهددة بالخطر بسبب اتساع الصحراء والتغير المناخي، بينما تغرق مدن آدرار بالرمال .

مهرجان المدن القديمة.. رياضات من التراث في وادان

بناء على طلب سيف، يذهب محمد لزيارة مكتبة في وادان التي تبعد ١٣٠ كيلومترا عن شنقيط، وهي مدينة محصنة منذ القرن الخامس عشر، وهي ضمن المواقع التراثية للأمم المتحدة، لكنها تعاني من التصحر وهجرة أهلها.

ومع وصول محمد إلى وادان كان سكان المدينة يستعدون لمهرجان المدن القديمة، وقد انضم محمد ليشاركهم ويتعرف على طريقتهم بالاحتفال، وها هي زائدة تشرح لمحمد الألعاب التي يلعبها الشباب، وهي ألعاب يحاولون إثبات أنفسهم بها في المجتمع، فيها سيعاني الأضعف عند انتقاله من مرحلة الطفولة إلى البلوغ، ومن هذه الألعاب الوثب ولعبة الصائم والحاج ولعبة شد الحبل ووثب العذارى.

أدرك الموريتانيون أن الحفاظ على تراثهم لا بد أن يكون من خلال أبنائهم وتعليمهم وتدريبهم على إكمال المسير

زائدة سعيدة بمحمد واهتمامه بالتراث والعادات والتقاليد، وكذلك اهتمامه بالمخطوطات، وهذا يطمئنها على أن الأجيال القادمة من الشباب ستحمي الكنز الذي ورثته عن أجدادها.

لقد أدرك الموريتانيون أن الحفاظ على تراثهم لا بد أن يكون من خلال أبنائهم وتعليمهم وتدريبهم على إكمال المسير.