حي الشيخ جراح.. وقف الأمير الأيوبي الصامد في وجه الذئاب

بين أحياء المدينة المقدسة أرحام موصولة ووشائج لا تنقطع، وبينها وبين سكانها ومن عمروها طيلة قرون، ممن يسير على أديمها الطاهر، أو من يحتويهم بطنها المفعم بالعبر والثروات ومكنونات الأيام؛ علائق حب لا انقطاع لها.
وكأنها اختارتهم من بين البرايا ليكونوا أهلها وأحق الناس بها، كما اختاروها بين الأراضي لتكون مسقط رؤوسهم، ومثوى قبورهم، وميدان علمهم ونضالهم، يسقونها بالعرق والدم والمداد والتاريخ، ومن أجلها يحيون وعليها يموتون.
تتعدد المسميات تعدد أبناء الرحم المقدسية الواحدة، ومن بين آثارها في نفوس المقادسة، وأكثرها قربا من قلوبهم، حي الشيخ جراح الذي تحول من حي هادئ مفعم بالقداسة، إلى عنوان بارز لأسطورة نضال لا سقف لها، وممانعة لا مستقر لها دون التحرير الكامل.
حسام الدين الجراحي.. حي باسم طبيب صلاح الدين
نشأ حي الشيخ جراح أول مرة خارج أسوار البلدة القديمة، قبل أكثر من تسعة قرون، وتوسع في آماد الزمان والتاريخ، وعلى آفاق مساحة جغرافية غير كبيرة، لكنها عميقة التأثير في حاضر ومستقبل المسجد الأقصى.
وتعود تسمية الحي إلى الأمير حسام الدين بن شرف الدين عيسى الجراحي، وهو طبيب صلاح الدين الأيوبي الذي كتب اسمه بحروف التضحية والفداء في تاريخ القدس القديم وأملها المعاصر الساعي إلى كسر أغلال الاحتلال.
ينتصب ضريح الأمير الطبيب في المدينة، ويحمل اسمه بعد أن حورته الأيام قليلا إلى حي الشيخ جراح، وتحيط بالضريح زاوية تعبدية قديمة اسمها الزاوية الجراحية.
وقد كان الطبيب الجراح أحد أركان حكم الأمير صلاح الدين الأيوبي، وتولى تجديد باب الناظر في المسجد الأقصى في عهد الأمير المعظم عيسى بن العادل. وقد ربطت الأمير الطبيب بالقدس علاقة حب ووفاء، فأخلص للمدينة ومسجدها الأقصى باقي حياته، حتى توفاه الموت سنة 598 هجرية، ودفن في الجهة الجنوبية من المدينة، على طريق مدينة نابلس.
“هذا قبر الأمير حسام الدين”.. نتف التاريخ العاطر
في حقائب الذكرى نُتف عاطرة من تاريخ الأمير الجراحي، منها ما يذكره المؤرخ عبد الغني النابلسي في كتابه “الحضرة الأنسية في الرحلة المقدسية” متحدثا عن الزاوية الجراحية قائلا: فوصلنا إلى مزار الشيخ جراح وهذا في المدرسة الجراحية، قال الحنبلي: وهي بظاهر القدس من جهة الشمال، ولها وقف ووظائف مرتبة، نسبتها لواقفها الأمير حسام الدين بن شرف الدين عيسى الجراحي، أحد أمراء الملك صلاح الدين يوسف بن أيوب، توفي في صفر سنة 598 هجرية، ودفن بزاويته بالمدرسة المذكورة.

ويحمل ضريح الأمير الجراحي لوحة عريضة كتب عليها: هذا قبر الأمير حسام الدين الحسين بن عيسى الجراحي رحمه الله ورحم من ترحم عليه، توفي إلى رحمة الله تعالى في صفر سنة 598.
وإلى رحمة الله ترجل الشيخ جراح، تاركا وراءه أرضا كانت شاسعة عامرة بالغيطان والحدائق والقصور والمساكن والعائلات التاريخية ذات الأثر الحميد في تاريخ الأقصى، قبل أن تجرف كثيرا من ذلك سطوة الاحتلال الصهيوني، ورغبته المستمرة في التوسع وهتك حمى التاريخ وتقطيع أوصال الجغرافيا.
سرة المدينة المقدسة.. سوسة النكسة تلتهم مرتفعات الحي
يحتل حي الشيخ الجراح أهمية قصوى للمدينة المقدسة، وللمسجد الأقصى، ويقع من المدينة المقدسة موقع السرة من الجسد، رابطا بين شرقي القدس وغربها، كما يتميز بمرتفعاته البالغة الأهمية التي حولتها قوات الاحتلال إلى منصة رصد لكامل المدينة، عبر الجامعة العبرية الواقعة على مرتفعات جبل المشارف في القدس الشريفة.
ولم تتمكن قوات الاحتلال من السيطرة الكاملة على حي الشيخ جراح إلا بعد نكسة 1967، حين بدأ مسلسل تهجير السكان واحتلال أرضهم، ليتراجع بذلك الحي العربي في الشيخ جراح إلى أقل من ألف دونم، وحوالي ثلاثة آلاف ساكن، بعد أن كان لقرون ممتدا على آلاف الدونمات، ويجول بين حدائقه وحواريه ومساكنه عشرات الآلاف من المقادسة الأبطال.

ويستهدف الاحتلال الإسرائيلي منذ عقود كرم الجاعوني في حي الشيخ جراح لقربها من المسجد الأقصى، وهي الحارة التي تقطنها عشرات الأسر منذ العام 1956 ضمن اتفاق بين الأردن ووكالة الأونروا يقضي ببناء 28 وحدة سكنية، وتمليكها لبعض اللاجئين الفلسطينيين بعد ثلاث سنوات، وجاءت بعد ذلك صروف متعددة من زمن الاحتلال الدموي، وأصبح ملك التمليك ورقة دعوى تدور عقودا طويلة بين طاولات وأدراج المحاكم الإسرائيلية التي قضت قبل سنوات بملكية جمعيات استيطانية لأراضي الحي، واشتعلت المقاومة من جديد، وهي التي لم تخمد في نفوس المقدسيين أصلا.
“نحلات شمعون”.. ذراع استيطانية لقضم الشيخ جراح
تمثل جمعية “نحلات شمعون إنترناشيونال” الذراع الإسرائيلية التنفيذية لقضم حي كرم الجاعوني ومساكنه، وإخراج أهله من ديارهم وتشريدهم، حيث تعمل بكل الوسائل، وبدعم سياسي وأمني وقضائي إسرائيلي لهدم الحي وبناء مستوطنة جديدة، لكي تفصل أحياء القدس العربية عن البلدة القديمة، وتربط بين المستوطنات في القدس المحتلة.
لكن جهود “نحلات شمعون” ليست وليدة سنوات قليلة، بل تعود إلى العام 1970 عندما صادق البرلمان الإسرائيلي على قانون يسمح لليهود باستعادة الأراضي التي كانوا يملكونها قبل قيام الدولة.

وعلى ضوء ذلك نشطت جمعيات استيطانية تتحدث عن ملكية يهود لأراضي الحي المذكور، منذ أواخر القرن التاسع عشر، عبر تأجير منته بالملكية في ظل الدولة العثمانية، وقد قدمت هذه الجمعيات أوراقا مزيفة تزعم تلك الملكية للمحاكم الإسرائيلية التي ظلت تنحاز لدعاوى الجمعيات الاستيطانية، مقابل رفض البينات والوثائق التي قدمها المقادسة، رغم أنها تحمل كل الوثائق والملكيات الثابتة الحاملة لعبق التاريخ، وتوقيعات السلطات الأردنية التي كانت تتولى السيادة على القدس.
أسرة الغاوي.. ترحيل قسري لقرون من التاريخ
مع مطلع ثمانينيات القرن الماضي، بدأت الجمعيات الاستيطانية في رفع الدعاوى رسميا أمام القضاء الإسرائيلي؛ حيث رفعت في العام 1982 أولى الدعاوى على 28 أسرة فلسطينية طالبتها الجمعيات الاستيطانية بإخلاء منازلها وتسليمها لهم، وقد صدر أول قرار إخلاء رسمي بحق أسرتين فلسطينيتين عام 2002.
وفي نوفمبر/تشرين الثاني من عام 2008، دخلت مأساة سكان الحي فصلا جديدا حين بدأ الترحيل القسري، وقامت سلطات الاحتلال بطرد أولى الأسر أسرة الغاوي، وسلمت بيتهم لعائلة يهودية، أما أسرة الغاوي التي طردت من بيتها بعد أن سكنته لعقود من الزمن، فقد عانت نكبة ثانية، وأصبحت مشردة تبحث عن مأوى جديد، في استعادة لذكريات حرب النكبة التي ظلت تعيشها واقعا ملموسا.

وبطرد وتشريد أولى الأسر من سكان الحي المقدسي خطت الجمعيات الاستيطانية في تحقيق هدفها الكبير بترحيل جميع السكان، أما داخل الحي وبين سكانه، فقد انطلقت الشرارة من جديد مقاومة ودفاعا عن فلسطينية حي الشيخ جراح، وعن الأرض التي سقاها المقادسة تسعة قرون بالعرق والدماء والوضوء ودموع المحاريب، وإشراقات المنابر، واخضلالات الزيتون والياسمين.
تهديدات القسام.. غزة تخوض الحرب فداء للشيخ جراح
عادت ملحمة الشيخ جراح إلى الواجهة من جديد وبقوة في العام الجاري 2021، مع استلام عدد من الأسر في حي الشيخ جراح قرارات بالإخلاء لمنازلهم.
بدأ سكان الحي وبمؤازرة من المقادسة حراكا شعبيا واسعا لمواجهة تلك القرارات، وهو الحراك الذي نال دعما عربيا ودوليا كبيرا على منصات التواصل الاجتماعي، وسرعان ما تفاعلت معه حركة المقاومة الإسلامية (حماس) وفصائل المقاومة في غزة التي أمطرت عددا من المدن الإسرائيلية بوابل من الصواريخ، بعد أن تجاهلت إسرائيل إنذارا لكتائب القسام بسحب جنودها من الأقصى، وإطلاق سراح المعتقلين على خلفية الاحتجاجات ضد قرارات التهجير.

تحول التوتر في القدس وحي الشيخ جراح إلى حرب مدمرة على قطاع غزة، استمرت 11 يوما، وأدت إلى دمار واسع في القطاع، ولكنها كما يقول خبراء ومحللون- أحدثت مستويات عالية من توازن الرعب، وربطت للمرة الأولى -في الأسباب المباشرة للحرب على الأقل- بين القدس وغزة، وبين أجزاء فلسطين المحتلة، بعد تأكيد القسام لسكان الحي أن المقاومة لن تترك الاحتلال يتفرد بهم بعد اليوم.
محاكم الاحتلال.. رعب الحرب يؤجل الحكم بالقضية
لقد كانت نيران اللهب المقاوم كفيلة بأن تفتح عيون جيش الاحتلال الإسرائيلي -ولو إلى حين- على المتغيرات الجديدة على أرض الواقع، ومقابل ذلك أعاد الاحتلال إبطاء الملف القضائي، فما تزال المحكمة العليا ترجئ كل حين البت في قضية الدعوى القضائية التي رفعتها أسر جراحية مهددة بإخلاء موقعها.
ويطالب قضاة المحكمة العليا الإسرائيلية بمزيد من الوقت، ومزيد من الوثائق والإثباتات، لمعرفة على أي جانبي اللهب سيميل الحكم القضائي المتوقع صدوره من المحكمة العليا.

وفي انتظار ذلك ينام المقادسة ويصبحون كل يوم على ترقب مؤلم، واستعداد نبيل لبذل الدم فداء لحي الشيخ جراح، ويعيش التاريخ رحلة أخرى مع الأرق، وهو يكتب قصصا لا تنتهي من يوميات المقاومة في حي الشيخ جراح، الذي يقضم جسده منذ عقود بمِبضَع إسرائيلي لا يؤمن بغير الألم سبيلا وحيدا لتحقيق مطامح الاحتلال، ولو أدى ذلك إلى إجهاض الحياة، وتقطيع أوصال الحضارة، وحرق أغصان الحياة في أرض لا تزال ولن تزال عصية على الذوبان، وكيف وهي حجارة وحديد، وباسقات من أشجار الزيتون، وسواعد مقدسية الإصرار، جراحية العزيمة.