“تحت رحمة البركان”.. حياة على الحافة في سفوح العملاق النائم
نحن نعيش في منطقة يخيم عليها وجود بركان “فيزوف”، كثيرون يسمونه وحشا، أما أنا فأسميه “العملاق النائم”، لأنه حتى لو بدا الآن هادئا، فإنه بركان نشط وخطير بالنسبة لنا جميعا.
هذا الجبل مليء بالسحر والحكايات أيضا، ويوجد فيه شيء كالمغناطيس يجذبنا إليه، لكن الذين لا يعيشون هنا لا يستطيعون فهم ذلك. ولذلك فمن الصعب الرد على سؤال: كيف تعيشون في مثل هذا المكان الخطر؟
يقع بركان “فيزوف” في أقصى جنوب إيطاليا قريبا من مدينة نابولي الشهيرة، وقد تطوعت مجموعة من السكان القاطنين هناك لتصوير فيلم عن منطقة البركان، واستطلعوا فيه آراء السكان هناك، وكيف تأقلمت حياتهم وأعمالهم قرب ذلك البركان الخطير. وقامت الجزيرة الوثائقية بإنتاج الفيلم وبثه فيما بعد بعنوان “تحت رحمة البركان”.
“حياتي مرهونة برحمة هذا البركان”.. حوار جيران النار
– مرحبا يا “لويجي”، كيف تسير الأمور؟
– أهلا “فينشنسو”، أنا بخير، كل شيء على ما يرام.
– هل يصل السياح إلى هذه النقطة ليستمتعوا بالمكان؟
– بالتأكيد، خاصة عندما يكون الطقس مناسبا كما هو اليوم.
– هل هذه المعدات الموضوعة عند فوهة البركان خاصة بمركز المراقبة؟
– نعم، إنها من المعدات التي تراقب نشاط البركان على مدار الساعة، وهي متصلة بأقمار صناعية تبث إشارات إلى مركز المراقبة الرئيسي، ويستند إليها العلماء في تنبؤاتهم عن نشاط البركان.
– إذن فنحن مدينون لهذه المعدات، لعلها تحذرنا قبل حدوث الثوران، لنستعد لذلك.
– نعم، هناك احتمال ثوران قادم بمجرد ظهور علامات معينة، حيث يقوم المركز بإعلام السلطات، لتقوم بإخلاء المناطق السكانية الكثيفة.
– إنها منطقة مكتظة بالسكان.
– بالفعل، وهذا ما يميز بركان “فيزوف” عن غيره، باعتباره من أخطر براكين العالم، استنادا إلى كمية الخسائر بالأرواح التي يتسبب فيها، فنحن على بعد 7 كيلومترات فقط من البحر، في قرى مأهولة بالكامل. وعلى الجانب الآخر تقع نابولي على بعد 12 كيلومترا، وهي في مرمى النيران كذلك.
– هل تعتقد بأن برنامج الإخلاء ناجع؟ وهل بمقدور السكان التفاعل معه؟
– نحن نتحدث عن 300 ألف نسمة، وهذا ما يزيد الأمور صعوبة. ولكننا معروفون بصلابتنا وقدرتنا على مواجهة الصعوبات، وسنبقى كذلك.
– أنا كذلك أعيش هنا، وحياتي مرهونة برحمة هذا البركان.
– يكفي أن نكون على دراية بالخطر، وعلى استعداد تام لمواجهته.
سكان النطاق الأحمر.. أرشيف البركان منذ ظهور آلة التصوير
يقول “فينشنسو”: نحن نعيش في النطاق الأحمر شديد الخطورة، نظرا لوقوعنا تحت سفح الجبل، وإذا قرر البركان استئناف نشاطه التفجيري فستكون قريتنا أول من يتلقى نيرانه.
أنا “فينشنسو” جزء من هذا الواقع، وأكرس اهتمامي لدراسة هذا المكان والتعريف به، وأهدف إلى استكشاف أركانه والدفاع عنه من انتهاكات الآخرين، فكثير من الناس ينظرون إليه كمكان خطر، دون التعرف على مميزاته.
قادني تعمقي بالدراسة إلى التعرف على تاريخي وتاريخ عائلتي، فالصور الفوتوغرافية القديمة التي أحرص على اقتنائها هي من أهم مصادري، ولدي صور عن البركان منذ اختراع آلة التصوير، وهي من مصادر شتى، إذ يوجد في مكتبتي أكثر من 3000 صورة، وكل صورة بمثابة تاريخ، ومعاينتي لها تكشف أسرارا جديدة. وأتواصل مع الخبراء لفهم الجوانب العلمية للبركان.
مشمش البركان.. فاكهة بنكهة الرماد البركاني
– صباح الخير “سيلفانو”، كيف حالك؟
– مرحبا “فينشنسو”، أنا بخير.
– ماذا تفعل اليوم؟
– أقوم بتهذيب سيقان العنب، الطقس مناسب اليوم.
– معك حق، جميعها ساقط على الأرض.
– وماذا عنك؟
– أنا بخير، أتجول في المزارع القريبة.
– اجلس لنشرب سويا، أنا متعب من العمل، فهذا موسم الحصاد، وهي مرحلة تتطلب جهدا.
– نحن في موسم الصيف، والسماء ملبدة بالغيوم.
– إذا أمطرت فسيفيدنا ذلك في الأرض، أخبرني كيف حال أولادك.
– لقد انتهوا من الدراسة وبدأت عطلتهم الصيفية.
– سأقطف لك بعض الثمار ليتذوقوها.
– ما أجمل ألوانها، هل هي حصاد هذا الموسم؟
– نعم، وهي ناضجة تماما، ولا سيما الطماطم والمشمش.
– كم هي لذيذة، منذ زمن لم أتذوق طعما طيبا كهذا.
– يسميه الناس مشمش البركان.
– أشكرك يا “سيلفانو” على هذه الهدية الرائعة، وداعا.
– شكرا “فينشنسو”، أراك قريبا.
يتابع “سيلفانو”: البركان والطقس الجاف لهما فضل كبير على تربتنا الخصبة، فالرماد البركاني غني بالمعادن التي لها دور في جودة الثمار، والتربة في الأصل هي حجارة بركانية تحتوي عناصر طبيعية، تتشبع منها جذور النباتات ذاتيا، خلافا للأساليب الزراعية الأخرى. نشأت على حب هذه الأرض، وتعلمت منذ الصغر العناية بها، أنا ابن سفح هذا الجبل وعائلتي كذلك منذ الجد الخامس.
“نعتبره الحامي ورمز الهوية والانتماء”.. حب من طرف واحد
يقول “سيلفانو”: أثق في العلم، وأعرف نشاط هذا البركان وخطورته، لكن حياتي تحت سفحه جعلتني أتعايش معه، ونادرا ما أتذكر بأنه سيثور يوما ما، قد يكون السبب هو ارتباطي به منذ الميلاد، الأمر الذي يجعلني أتناسى خطره، وأتذكر حسناته فقط. لو أردنا تحكيم المنطق فقط، فسنحزم أمتعتنا ونغادر، لكن عشقنا للبركان جعلنا نستطيب العيش في ظله. حب من طرف واحد ولكنه جميل، إذا اختار القلب فلا تسأل العقل.
يحمل “سيلفانو” بعض الثمار في سيارته، وينقلها من المزرعة إلى أحد المتاجر في القرية المجاورة، ليبيعها لمريم التي كانت تنتظره.
– مرحبا مريم.
– مرحبا “سيلفانو”، أنا بانتظارك، هناك إقبال كبير على منتجاتك، لدينا طلبات كثيرة.
– كم أنا سعيد لسماع ذلك.
– الكمية التي أحضرتَها بالأمس بيعت جميعها، ولم يبق منها شيء، إنها تروق للزبائن، ومذاقها رائع.
– البركان بالنسبة لنا بيت وسكن، عندما نعود من سفر بعيد يتراءى لنا كأنه ينتظرنا، وعندما نستيقظ في الصباح يكون أول شيء نراه، إنه يمثل لنا مصدرا للطمأنينة لا للخوف، نعتبره الحامي ورمز الهوية والانتماء، إنه كالأب، حازم بقسوة، ولكنه كريم معطاء، ونحن أبناءه تعودنا على ذلك. إذا سألت الابن عن شعوره تجاه أبيه سيصعب عليه التعبير، لكن كلمة “حب” هي الملخص لجميع مشاعره.
“أنهار مشتعلة تفوق حرارتها 300 درجة مئوية”
تقول “فرانشيسكا بيانكو” من مركز مراقبة البركان: بركان “فيزوف” بركان نشط شديد الخطورة، وتنبع خطورته من قوته التدميرية المحتملة إذا ثار، ولا نعلم متى سيكون هذا، نحن في مركز المراقبة نتابع تحركات البركان وما يصدر من إشارات، لدينا عدد من أجهزة الرصد، أكثرها مزروع في باطن الأرض. من الصعوبة تحديد وقت ثورة البركان، لكن هناك إشارات تساعد العلماء في تنبؤاتهم.
تاريخ بركان “فيزوف” حمل لنا نوعين من الثوران؛ أولهما الانبعاث الغازي والثاني الانفجار البركاني، وهو أخطرها عندما تتحرر الصخور المنصهرة بفعل الضغط الشديد، حاملة الكثير من الغازات المذابة، وتخرج متفجرة على شكل عمود حلزوني، وترتفع في الهواء لعدة كيلومترات، ثم تنزل على الأرض على شكل رماد بركاني بفعل الجاذبية، وينحدر الرماد على شكل أنهار مشتعلة تفوق حرارتها 300 درجة مئوية.
يكون السائل خليطا من شظايا صخرية وكرات ملتهبة تحمل بداخلها غازات كبريتية سامة، تتدحرج بسرعة هائلة وتبتلع كل ما في طريقها، والحل الوحيد لمواجهة هذا الجبروت هو الابتعاد عن طريقه.
تكافل السكان والمهاجرين.. لحمة في حضرة البركان
لدى السكان ذاكرة فوتوغرافية عن الانفجارين الأخيرين عامي 1905 و1944، وهناك كثير من آثار الانفجارات السابقة التي دمرت بلدات تحت سفح البركان، لكن ذلك لم يمنع هذا السكان من إعادة استخدام هذه الآثار والمخلفات في بناء المنازل والطرق، لقد صاغ بركان “فيزوف” شخصية شعبه وجعلهم أكثر صلابة وتلاحما.
– مرحبا نور الدين، كيف حالك.
– أهلا “فينشنسو”، أنا بخير.
– أحضرت لك أغراضا، لعلها مفيدة لك بحيث يمكنك توزيعها على المحتاجين.
– شكرا لك، تعال لكي أريك بعض الأغراض التي جمعتها من أجل توزيعها كذلك.
– هذا رائع، أهنئك على هذا العمل الخيري من أجل الآخرين.
– المتبرعون هم الكرماء الخيّرون، أنا فقط أجمع ما يجودون به.
– أعتذر لك، هذه أحذية تبدو قديمة.
– لا عليك، إنها مفيدة، بعض الفلاحين الذين يعملون في سفح البركان أحذيتهم بالية، وهذه ستكون مفيدة لهم وسيفرحون كثيرا، هناك من يحتاج أغطية وملابس، أنا أعطي كل من يحتاج، سواء كان أجنبيا أم إيطاليا.
– أرى أنكم -مجتمع المهاجرين- قد اكتسبتم صفات سكان البركان من التلاحم والتراحم. البركان عامل يتوحد حوله ساكنوه.
– هذا صحيح، تعال لكي أريك الحقل الذي أعمل به، الأرض مثل الأم، برعايتها يتحقق لك الرضى والسعادة.
“أستشعر فيه عظمة الخالق سبحانه وتعالى”
يقول نور الدين: أنا اسمي نور الدين، مغربي الأصل من مدينة خريبكة، أتيت إلى إيطاليا سنة 1990، أحببت هذا المكان، إنه يشعرك بالقوة والتحدي، فالوقوف في وجه ثورة البركان يشعر الإنسان بقوته ومكانته على هذه الأرض. أحب جبل البركان ولا أخاف منه، وأستشعر فيه عظمة الخالق سبحانه وتعالى.
يفرض بركان “فيزوف” تأثيره على السكان حوله من الأجانب والإيطاليين، ويشعر الإنسان بضعفه، فلا ينبغي لأحد منا أن يتكبر على الآخر، ما دامت هناك قوة إلهية واحدة تتحكم في الطبيعة والإنسان على حد سواء، وهي قدرة الله.
– مرحبا نور الدين.
– أهلا “جيوفاني”.
– هل انتهيت من تقطيع الحشائش؟
– ليس بعد، سترى كم ستكون التربة جميلة بعد تنظيفها، سأنتهي منها ثم نشرب الشاي معا.
– اتفقنا، سأذهب لمكتب البريد، ثم أعود إليك لنشرب الشاي.
– أهلا بك ثانية يا “جيوفاني”، الشاي جاهز.
– شكرا، إنه لذيذ في هذا الوقت. أخبرني، كيف تسير أمور جمع المساعدات؟
– ما زلنا بحاجة للمزيد، هناك الكثير من المحتاجين.
– وكيف تسير أحوال أهلك في المغرب؟
– إنهم بخير والحمد لله، أتواصل معهم ومع الأصدقاء باستمرار.
– يبدو أنهم لم يعودوا بحاجة إليك هناك، يجب أن تبقى معنا هنا.
قنابل الأمريكيين.. كارثة أخرى من جرائم الحرب العالمية
يعود “فينشنسو” إلى أولاده “فرانشيسكو” و”سيرينا”، ليريهما أنواعا من الصخور جلبها من قمة البركان، بعضها تجمع من تراكم الرماد البركاني، وتبدو فيها حبيبات كريستالية لامعة. وهذه صخرة يبدو أنها من الحمم البركانية التي تجمدت، “انظروا إلى باطنها الأسود”، هذه ثقيلة وتلك خفيفة، هذه سوداء والأخرى حمراء، إنها أنواع مختلفة.
ثم يتوجه “فينشنسو” إلى مزرعة قريبة، ويعرض صورا فوتوغرافية على صاحبها، وذلك بغرض تصميم نشرة دعائية عن مزرعته للزوار، هنالك صور عن حجم الدمار الذي خلفه البركان على مزارع العنب، وصور أخرى تُظهر بعض الطقوس الدينية التي كان الناس يمارسونها للحماية من البركان.
حظي زلزال 1944 بكثير من التغطية الصحفية، لأن الأمريكيين ساهموا في ذلك بكثرة أثناء اشتراكهم وتغطيتهم للحرب العالمية الثانية. وتروج حكاية في المكان أن القوات الأمريكية هي التي أيقظت البركان، فالطائرات الأمريكية المحملة بالقنابل الثقيلة لم تكن لتعود بها، فكانت تلقيها على فوهة البركان، مما أدى إلى ثورانه. وقد وثقت هذه الحكاية بصور عدة.
وهناك صور مروعة عن هياكل عظمية لبشر يقال إنهم هلكوا في ثورة البركان عام 79 م، ويقال إن البركان دمّر بالكامل مدينتي أوركيلانو وبومبيني، وأحرق جميع سكانهما.
هزة أرضية.. “سآخذ الأولاد ونهرب إلى مكان آمن”
جمع “فينشنسو” صوره وعاد إلى البيت، وحين فتح حاسوبه الشخصي رأى تسجيل هزات أرضية في منطقة البركان، فهرع ليخبر زوجته “أنجيلا”.
– “أنجيلا”، لاحظت أن هنالك هزات أرضية في منطقة البركان.
– ما شدتها؟ وهل يتوجب علينا الفرار للنجاة؟
– لا تخافي، إنها هزات بسيطة لا تذكر.
– سآخذ الأولاد ونهرب إلى مكان آمن، وأنت بإمكانك البقاء هنا.
– عن أي ثوران تتحدثين؟ قلت لك إنها هزات بسيطة، لا داعي للقلق.
وفي مدينة بوتينسا بوسط إيطاليا، كنا على موعد مع “ريجينا كونسيليا” شقيقة “فينشنسو”، وكانت للتو تتحدث مع أخيها عبر الهاتف عن الهزات التي سجلت في منطقة البركان، وبعد أن اطمأنت وتأكدت من عدم خطورتها، حدّثتنا كيف كانت تسكن قرب الجبل، وكيف كان خوفها الشديد المستمر من ثوران البركان، إلى أن تمكنت في النهاية من إقناع زوجها والهرب إلى وسط إيطاليا، قرب العاصمة روما.
وتتذكر “ريجينا” التدريبات التي كانوا يشتركون فيها لإخلاء المنطقة في حالة الطوارئ، وكيف كان ينتابها الخوف بينما كان الآخرون يشعرون أنهم في نزهة. ثم تتذكر كيف أن الحكومة حاولت مرارا إغراء السكان بترك المنطقة مقابل تعويضات مالية ومساكن بعيدة، ولكنهم كانوا يبدون إصرارا على البقاء قرب الجبل، فارتباطاتهم العائلية ومعايشهم وزراعتهم كانت أقوى من إغراءات الحكومة.
ما زال بركان “فيزوف” شامخا، ويبدو كمن تحدثه نفسه بالغضب والثورة أحيانا، عندما يرى بني البشر من السكان حوله يتظالمون، ويتكبر بعضهم على بعض، ويتنكر كثير منهم للنعم التي أنعمها الله عليهم. ولكنه يكظم غيظه عندما يرى براءة الأطفال وضعف النساء والشيوخ، وهمة المزارعين ونشاطهم، فيهمس في آذانهم: لا تخافوا، فإنما أنا عبد لله مثلكم، أغضب بعلمه ثم أهدأ بحلمه.