أفغانستان.. مصارع الغزاة وصراعات الممالك على مر التاريخ
منذ قرابة نصف قرن من الزمن، أصبح اسم أفغانستان مرتبطا بصور الحروب والوجوه القاسية لقادة الكتائب والجبال الجرداء والبؤس وصنوف المعاناة، حتى يكاد من لا يشاهد سوى نشرات الأخبار في القنوات الفضائية، أن يخال الأمر متعلقا بأمة طارئة في سجل الحضارة، بينما تكاد الدراسات التاريخية والأبحاث الأثرية، أن تعيد أصل الوجود البشري إلى “أرض الأفغان” كما يعني اسم الدولة بلغتها المحلية.
فالحضور الكثيف لأفغانستان في الحدث الدولي والانتشار الواسع لاسمها عبر أنحاء العالم، لا ترافقه معرفة حقيقية بالغنى التاريخي والحضاري لهذا البلد، حيث تتوقف جل السرديات المتداولة حوله عند مرحلة الحرب السوفياتية وبروز الظاهرة الجهادية.. وهو ما يحجب الحمولة الحضارية الكبيرة لهذه الرقعة من العالم، التي طمسها الوجود الاستعماري البريطاني في شبه الجزيرة الهندية، ثم التنافس الأمريكي السوفياتي في وقت لاحق، ليطوي النسيان ذكرى أفغانستان التي حكمت جوارها الإقليمي لفترات طويلة وانبثقت منها امبراطوريات وحضارات، كما يوشك أن ينبثق منها اليوم نظام عالمي جديد إثر الانسحاب الأمريكي من البلاد.
فعلى مدى الألف عام الماضية، كانت أفغانستان تعتبر البلد الوحيد في العالم الذي لم يستسلم لسيطرة قوة أجنبية (إلى جانب اليابان إذا ما استثنيت فترة خضوعها للسيطرة الأمريكية بين 1945 و1953). وكل القوى التي حاولت غزوه انتهى بها الأمر منهزمة.[1]
ملتقى طرق الحضارات.. جغرافيا محاصرة ومناخ قاس
تقع أفغانستان في منطقة آسيا الوسطى، حيث تفتقر إلى أي منفذ بحري، وتحيط ست دول بأراضيها التي تفوق مساحتها الأراضي الفرنسية، ويجثم فوق أنفاسها مناخ قاري قاس، حيث الحرارة المفرطة صيفا والبرد القارس شتاء.
وتعتبر أفغانستان من الناحية الجغرافية هضبة مرتفعة تقع إلى الشمال من الهضبة الإيرانية، وتحدها من الشمال جمهوريات ما يعرف بآسيا الوسطى السوفياتية سابقا، ومن الغرب إيران ومن الجنوب والشرق باكستان، كما تتصل أفغانستان بحدود برية مشتركة مع الصين على طول 150 كم من الجهة الشمالية الشرقية. ويعود أصل هذه الحدود السياسية التي تجعل الأراضي الأفغانية تبدو في شكل ورقة شجرة إلى قرن واحد، بناء على الاتفاقيات الروسية البريطانية.[2]
يكتسي الموقع الجغرافي لأفغانستان أهميته الاستراتيجية لوجوده في مفترق طرق حضاري، فمن جهة هناك حضارات الشرق الأوسط، ومن جهة ثانية حضارات الهند، ومن الشمال تطل حضارات آسيا الوسطى.[3]
وقد ظلت أفغانستان معبرا لا محيد عنه لكل من كان يتخذ وجهة الصين سالكا طريق الحرير القديمة، وتعتبر أفغانستان بالتالي ملتقى للعصور والأماكن والحضارات.
شعوب الأفغان.. تنوع عرقي في أعلى دول العالم خصوبة
تقطن بأفغانستان ساكنة تتسم باعتمادها نمط الترحال، وهي موزعة بين 15 لغة وثقافية مختلفة، مع غالبية بشتونية بالأساس، إلى جانب قومية الهزارة المضطهدة تاريخيا، رغم ما تقوله بعض المصادر من كونهم شكلوا القوة الضاربة في جيش القائد المغولي جنكيز خان.[4]
ونظرا لغياب المعطيات الإحصائية الدقيقة والموثوقة يقدر تعداد سكان أفغانستان بحوالي 37 مليونا تقريبا، وتتسم البنية الديمغرافية لأفغانستان بتغيرها السريع، حيث تسجل من جهة أعلى نسب الخصوبة والنمو الديمغرافي في العالم، وفي الوقت نفسه نزيف بشري لا يتوقف بسبب الهجرات والنزوح تحت ضغط الحروب والفقر.
وتعود أقدم العناصر البشرية في أفغانستان إلى الجنس القوقازي، حيث توافدت هذه العناصر في العصور القديمة على المنطقة واستقرت فيها، كما تعود أصول بعض المكونات العرقية إلى الأجناس التترية والمغولية والتركية.
يشكل البشتون أكبر مكون بشري للبلاد حاليا، حيث يمثلون ما بين 40% و60% من مجموع السكان، بحسب تقديرات مختلفة، ومنهم ينحدر جل الملوك والسلاطين والقادة عبر التاريخ الأفغاني، ويشبه البشتون سكان بعض المناطق المتوسطية.
بعد ذلك يأتي الطاجيك ثانيا، ويمثلون ما يناهز ربع أو ثلث مجموع سكان البلاد، وهم ينحدرون من أصول قوقازية، ويختلفون عن البشتون الرحل بميلهم إلى الاستقرار والزراعة. أما النسبة الباقية من الأفغان فتتوزع بين أوزبك وهزارة ونسب قليلة جدا من التركمان والقرغيز والبامير وأصول عرقية أخرى متنوعة.[5]
كهوف إنسان ما قبل التاريخ.. آثار الحضارة البشرية
أثبتت أبحاث العلماء السوفيات في وقت مبكر أن أفغانستان تضم عددا من كهوف إنسان ما قبل التاريخ، كما توجد آثار تدل على استيطان الإنسان لضفاف بعض الأنهار الكبرى مند ما يزيد عن 3 آلاف سنة قبل الميلاد، بينما أعادت بعض الدراسات الأمريكية عمر الحضارة الإنسانية في أفغانستان إلى حوالي 20 ألف سنة.[6]
وتعتبر الفترة الأكثر توثيقا هي التي تعود إلى القرن الرابع قبل الميلاد، حين غزا الإسكندر الأكبر منطقة آسيا الوسطى، فكان ذلك أول اتصال مباشر بين آسيا الوسطى والقسم الغربي من العالم القديم، وتأسس عدد من المراكز الحضارية التي كانت نواة لجل المدن الأفغانية الحالية، وانتقل كثير من خصائص الثقافة اليونانية إلى أفغانستان الحالية.[7]
كان من نتائج اللقاح الإغريقي لأفغانستان في القرنين الثالث والثاني قبل الميلاد؛ ظهور إمبراطورية “باكتريا” الأفغانية التي انتفضت ضد الهيمنة الهندية وباتت قوة إقليمية وقتها، قبل أن يضمحل حكم الإغريق الباكتريا ويقتصر سلطانهم على منطقة كابل وجرديز في السنوات الأخيرة قبل الميلاد.
مملكة الإسكندر الأكبر.. بلاد الشعب المحارب منذ فجر التاريخ
خضعت أفغانستان قبل نحو خمسة قرون من الميلاد للحكم الفارسي، قبل أن تلحق كباقي أراضي فارس بحكم الإسكندر الأكبر القائد المقدوني الشهير، وقبل أن تتأرجح بين سيطرة القبائل الهندوسية والفارسية والتركية والعربية إلى غاية العصر الإسلامي.
ويرى بعض المؤرخين أن القبائل الأفغانية تكتسي صبغة محاربة فطرية، حيث يغلب عليها الطابع القتالي، بل وترى في حالة السلم والهدوء نوعا من الخطر وانعدام الاستقرار. وهو رأي يوضح أن تفكير الولايات المتحدة الأمريكية في تحويل أفغانستان إلى سويسرا جديدة، هو ضرب من السير ضد مجرى التاريخ ومنطقه، ويعتبر المؤرخ المختص في منطقة أسيا الوسطى، أن اضطرابات هده المنطقة تتصل تاريخيا بالنبض الأول للتاريخ البشري، أي حين كان البدو المغول والأتراك ينقلون الحديد إلى أقصى أطراف العالم المعروف وقتها.[8]
وقد تعاقب على حكم أراضي أفغانستان كثير من الأسر والعرقيات بحسب موازين القوى، ما بين هنود وصينيين وتركمان شرقيين، إلى أن وصل الفتح الإسلامي عمليا إلى قلب أفغانستان في عهد الخليفة عثمان بن عفان.
وبعد اعتناقهم الإسلام، اتجه الأفغان تحت قيادة محمد الغوري نحو غزو الهند، حيث أسسوا إمارة دلهي، قبل أن تنشأ تدريجيا مملكة عاصمتها كابول، وهي التي ستشكل مصدرا لقوة دولة السلاطين المغول. ومن أعماق أفغانستان نفسها، سوف تبرز قوة قبلية قادها أحمد شاه أواسط القرن الـ18، فوجهت ضربات موجعة للدولة المغولية، وساهمت دون وعي منها في تسهيل مهمة الغزو البريطاني لشبه الجزيرة الهندية.[9]
سقوط فارس.. بداية معركة الفتح الإسلامي العسير
تعاقبت على أفغانستان ديانات مختلفة، منها الزرادشتية والبوذية ثم الإسلام الذي بات دين الغالبية الساحقة من السكان، بالرغم من استمرار وجود بعض الأقليات الدينية مثل اليهودية والبوذية، وتوجد في بعض المناطق أضرحة ومواسم دينية خاصة بتلك الأقليات.
يعود أصل الوجود الإسلامي في أفغانستان إلى الربع الأول من القرن السابع للميلاد، وتحديدا إلى معركة نهاوند الفاصلة بين الجيشين الإسلامي والفارسي، حيث انتصر المسلمون بشكل كاسح، ورغم أن نهاوند مدينة إيرانية وتقع جنوب سلسلة جبال زاغروس التي أمر الخليفة عمر بن الخطاب بعدم تجاوزها، فإن ارتباك فتح أفغانستان بهذه المعركة يعود إلى كون يزدجرد ملك الفرس وقتها، استنفر المقاتلين من جميع أنحاء مملكته بما فيها خراسان (الاسم القديم لأفغانستان)، بهدف وقف الزحف الإسلامي على بلاد فارس والانتقام لهزيمة القادسية، لكن النتيجة كانت انهزام الفرس رغم أعدادهم وعتادهم في تلك المعركة الفاصلة.[10]
وبينما اكتسح المسلمون بلاد فارس بسهولة كبيرة، فإن المصادر التاريخية تؤكد أنهم واجهوا مقاومة شرسة في أفغانستان، حيث تطلب انقياد المنطقة للفاتحين المسلمين عشرات السنين، وما إن تحقق ذلك في نهاية القرن الثامن للميلاد وبداية القرن التاسع، حتى كان الوهن قد أصاب الدولة العباسية وبرزت القوميات المحلية بشكل كبير على حساب ضعف الخلافة المركزية، مما جعل أفغانستان تعيش أزهى حقبها التاريخية في عهد حكم التيموريين (سلالة تركمانية حكمت المنطقة بين القرنين 14 و16) الذي سينتهي منتصف القرن 16 للميلاد.[11]
أصبحت أفغانستان في عصر الازدهار الإسلامي (العصور الوسطى في التأريخ الأوربي)، موضوع صراع بين ثلاث قوى أساسية، وهي الدولة العثمانية والدولة الصفوية والدولة المغولية.
كما كانت أفغانستان بفعل موقعها الجغرافي تتوسط هذه القوى الثلاث المتنافسة سياسيا والمختلفة مذهبيا، وقد استغل المغول الضربات التي كان العثمانيون يوجهونها للدولة الصفوية في إيران، كي يزحفوا على أفغانستان أواسط القرن الـ17، وسيطروا على قسم منها، خاصة منه كابول وغزنة، بينما كانت قندهار تحت سيطرة الإيرانيين الصفويين.[12]
رجال العلم.. ثمار أفغانستان في حدائق العلوم العربية
يأخذ بعض الأفغان على العرب اهتمامهم الشحيح بالثقافة واللغات الأفغانية، في مقابل الاحتفاء والاحتضان الكبيرين من جانب أفغانستان باللغة والثقافة العربيين. وتعتبر اللغة العربية مصدرا أساسيا للمثقفين والأدباء الأفغان، بالنظر لارتباطها الوثيق بالقرآن الكريم وتعاليم الإسلام.
ويقدّر بعض الباحثين أعداد العرب الذين استقروا في أفغانستان خلال فترة الفتوحات الإسلامية الأولى، بنحو نصف مليون عربي بين مقاتلين وأفراد أسرهم، وهو ما ساهم في التمكين للغة العربية في أفغانستان، سواء لدى المثقفين أو في اللغات المحلية التي تستلهم الكثير من ألفاظها من اللغة العربية.[13]
الصورة المبتورة عن أفغانستان في أذهان غالبية المسلمين، تُنسي كثيرين الدور المركزي الذي لعبه هذا البلد في حقب تاريخية، والأسماء التي ولدت من رحمها، فمنهم الإمام أبو حنيفة النعمان، أحد أكبر فقهاء الإسلام وواحد من أصحاب المذاهب الرئيسية الأربعة في الإسلام، وكذلك أبو مسلم الخرساني، القائد الإسلامي الذي يعتبر من مؤسسي الدولة العباسية منتصف القرن الثامن للميلاد، وفيها ولد جلال الدين الرومي، أحد أكبر شعراء الصوفية باللغة الفارسية.
كما كان من ثمار أفغانستان كوكبة من علماء اللغة والفقه والأدب والبلاغة مثل الزمخشري والسكاكي والتفتازاني، وشهد العصر الحديث بروز شخصيات وازنة انطلاقا من أفغانستان، مثل الداعية جمال الدين الأفغاني الذي درس في كابول قبل أن ينتقل إلى مصر.[14]
خراسان.. بلاد المشرق التي لا تعرف الاستقرار
كانت أفغانستان قديما تقع على طريق تجارة الحرير نحو الصين، قبل أن تتحول إلى منطقة عازلة بين الإمبراطورية الروسية والمستعمرة البريطانية في شبه الجزيرة الهندية. وفي عهد حاكم الدولة التركية داخل الخلافة العباسية محمود الغزنوي، تحولت أفغانستان إلى مركز ثقل العالم الإسلامي، قبل أن يصبح سقوطها في يد المغول مقدمة لغزو عاصمة الخلافة، بغداد وإسقاطها.[15]
ولقد استعمل اسم “أفغانستان” لأول مرة في منتصف القرن الـ18، وذلك من طرف أسرة درني التي بسطت حكمها على البلاد وقتها، بينما كان يطلق على المنطقة في العصور السابقة اسم “أريانا” نسبة إلى الشعب الآري، وأطلق اليونانيون على أفغانستان اسم “باتريا” قبل أن يأتي المسلمون العرب ويطلقوا عليها اسم خراسان الذي يعني بلغة البشتون “بلاد المشرق”.[16]
أولى الإمبراطوريات الأفغانية المستقلة ستظهر بداية القرن الـ18، وكانت البداية مع دولة البشتون التي أقامها أحمد خان منتصف ذلك القرن، قبل أن تزيحها دولة أفغانية ثانية أسسها أمير كابول دوست محمد خان، بينما كان عبد الرحمن خان أول من بسط سلطته على كامل الأرض الأفغانية، حين حكم البلاد في العشرين سنة الأخيرة من القرن الـ19.[17]
الحروب الثلاث.. لعنة الاستعمار تحل في الديار الأفغانية
مع حلول القرن الـ19 للميلاد، دخلت أفغانستان لعبة الأمم والإمبراطوريات الكبرى، حيث باتت منطقة عازلة يلتقي عندها نفوذ روسيا وبريطانيا، بعد مجيء الإنجليز إلى آسيا واحتلالهم الهند. وقد تحوّل هذا الموقع الجغرافي إلى لعنة على الأفغان، حيث توالت سلسلة الحروب البريطانية الشهيرة في أفغانستان، وكانت الحرب الأولى بين 1838-1842، وقد انتهت بثورة شعبية عارمة أجبرت الجيش البريطاني على الاندحار، والحرب الثانية هي حرب 1878-1880 التي عادت فيها بريطانيا لتغزو كابول وقندهار، قبل أن تأتي الحرب الأفغانية الثالثة عام 1919، لتخرج البريطانيين مجددا وتمنح أفغانستان استقلالها رسميا.[18]
فبعد تمكنها من فرض حمايتها على الهند الشرقية، سعت بريطانيا إلى احتلال أفغانستان لما كانت تمثله من تهديد لمنطقة نفوذها في الهند، وهو ما سيجر عليها أقسى هزيمة عسكرية في تاريخها، حيث أبيد أحد جيوشها الموجهة نحو المنطقة بالكامل.
انتهت المواجهة العسكرية الطاحنة بين الإمبراطورية التي لا تغرب عنها الشمس وقبائل أفغانستان، بتوقيع اتفاقية “جانداماك”، وقعها من جنب أفغانستان الملك محمد يعقوب خان، وعن بريطانيا السير كافاناري بيار، حيث حصلت بريطانيا على حق مراقبة ممر خيبر الجبلي الرابط بين أفغانستان وباكستان، وحق التدخل في السياسة الخارجية لأفغانستان، وهو ما أدخل البلاد في مرحلة الحياد والفصل بين القوى الدولية الكبرى مع الاحتفاظ بالاستقلال.
في سبعينيات القرن الـ19، كانت روسيا تتمدد في آسيا الوسطى مهددة المجال الحيوي لبريطانيا، مما دفع بريطانيا إلى إعلان حربها الثانية على أفغانستان، وتمكنوا من احتلالها للمرة الثانية بعد مقاومة شديدة من جانب الأفغان، لينتهي الأمر بتوقيع اتفاقية غانداماك الشهيرة.
روسيا.. ميل الأخ الأكبر إلى عرق الطاجيك
اعتبر البريطانيون منذ البداية أن بقاء أفغانستان دولة قوية ومستقلة يشكل خطرا على حكمهم في الهند، ووضعوا سياسة ترمي إلى تمزيق البلاد وإشغالها بالحروب الداخلية والخارجية مع جيرانها، خاصة الفرس، وعندما كانت هذه المخططات لا تفي بالغرض، كانت بريطانيا تعمد إلى شن الحرب مباشرة على أفغانستان، كما كان الشأن في 1839 حين قامت بغزو البلاد.[19]
من جانبها تولي روسيا تاريخيا اهتماما خاصا بعرقية الطاجيك، باعتبارها مختلفة عن شعوب آسيا الوسطى وأقرب إليها من الناحية الأنثروبولوجية، كما يقول التفكير الاستراتيجي الروسي، على اعتبار أن اعتداء تاريخيا طال الطاجيك منتصف القرن الـ18 حين استولت قبائل أفغانية على قسم من أراضيهم. ولعب الصراع الروسي البريطاني دورا في رسم الحدود المعاصرة لأفغانستان، حيث استعادت روسيا أراضي تعتبرها طاجكية لصالح طاجكستان في الشمال، بينما قسمت بريطانيا البشتون برسمها الحدود بين باكستان وأفغانستان.[20]
كانت روسيا أول دولة تعترف بدولة أفغانستان عام 1919، مثلما كانت أفغانستان أول دولة تعترف بروسيا السوفياتية سنة 1921، فقد كانت العلاقة بين البلدين ممتازة، وكانت الحدود الشمالية لأفغانستان تتصل كلها بالمجال الترابي للاتحاد السوفياتي، مقابل إيران غربا والصين شرقا وباكستان جنوبا.[21]
تجاذبات محاور القرن الـ20.. مملكة الحياد والتوازن
تأسست المملكة الأفغانية الجديدة منتصف عشرينيات القرن العشرين على يد الأمير أمان الله، قبل أن يتنازل عن الحكم عام 1929، تاركا السلطة لقادة تقليديين وتناوب القادة العسكريين على الحكم. وانطلاقا من موقعها ودورها التاريخي كمنطقة عازلة، فقد حافظت أفغانستان على حيادها خلال الحرب العالمية الثانية، قبل أن تدخل خلال الخمسينيات في عهد حاول فيه محمد داود -ابن عم الملك ووزيره الأول- تنفيذ عملية تحديث شاملة للبلاد، قبل أن ترغمه المعارضة على الاستقالة، مع تصاعد المد الشيوعي داخل البلاد.
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، انضمت أفغانستان إلى هيئة الأمم المتحدة سنة 1946، وبعد إعلان استقلال باكستان سنة 1947، أبدت أفغانستان قلقا كبيرا حول مصير قبائل البشتون، حيث طرحت فوق الطاولة فكرة تأسيس دولة بشتونستان المستقلة في الحدود بين البلدين، ليبقى الخلاف بين البلدين قائما.
حرصت أفغانستان على التزام مبدأ الحياد في سياساتها الخارجية، وتمتعت بأهمية كبيرة على الصعيد الدولي، حيث زارها الرئيس الأمريكي “دوايت إيزنهاور” سنة 1959، وقبله الرئيس المصري جمال عبد الناصر، والرئيس السوفياتي “نيكيتا خروتشوف” سنة 1955.
كما وقعت أفغانستان اتفاقية حدودية جديدة مع الاتحاد السوفياتي، بينما صدر دستور جديد لأفغانستان سنة 1965 أقام نظاما ديمقراطيا (ملكية دستورية) وفصلا بين السلطات، ودخلت البلاد مرحلة ازدهار اقتصادي.. لكن سرعان ما سينهار كل شيء بحدوث انقلاب عسكري في السبعينيات.[22]
لعنة الانقلاب الشيوعي.. بداية الكابوس
كانت أفغانستان في النصف الأول من القرن العشرين دولة صاعدة بنهج تحرري بقيادة داود خان، ذي العلاقات الوثيقة مع الاتحاد السوفياتي الذي كان يبعث مئات المستشارين لمساعدة أفغانستان في إقامة المشاريع والبنيات الأساسية، لكن حبل الود بين الطرفين انقطع مع ثورة أبريل/نيسان 1978 التي قام بها الشيوعيون في أفغانستان، حيث لم يشفع الانتماء الشيوعي لمنفذي الانقلاب أو الثورة لدى الاتحاد السوفياتي، فلم يعترف بالنظام الجديد إلا بعد عدة شهور.[23]
كانت لحظة التحول الكبرى في التاريخ الحديث لأفغانستان في نهاية عقد السبعينيات، حين وقع انقلاب قاده الحزب الشيوعي (الحزب الديمقراطي للشعب الأفغاني)، وقتل الرئيس محمد داود الذي كان قد قاد انقلابا عام 1973 ضد ابن عمه الملك بدعم من روسيا. وجاء الحكام الجدد لأفغانستان ببرنامج إصلاح مستلهم من التجربة الكمالية في تركيا، وأساسه العلمانية. وبعد اغتيال رئيس البلاد الجديد المدعوم سوفياتيا، اجتاح الجيش الروسي أفغانستان لإعادة حلفائه إلى الحكم.
في نهاية 1979 شهدت أفغانستان انقلابا عسكريا جديدا أعاد الحلفاء الشيوعيين للاتحاد السوفياتي إلى الحكم، وذلك بفعل غزو الجيش السوفياتي لجل مناطق البلاد لمحاربة خصومها، وهو ما أثار حملة تضامن إسلامي غير مسبوقة عالميا، نتج عنها إطلاق المقاومة المسلحة ضد الوجود السوفياتي في أفغانستان.
ورغم توقيع اتفاق ضم الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة الامريكية والحكومة الأفغانية وباكستان سنة 1988، فإن البلاد أصبحت ساحة لحرب أهلية مفتوحة سرعان ما أسقطت الحكومة الشيوعية عام 1992، واستمرت الحرب الداخلية إلى غاية 1996، حين تمكنت حركة طالبان -مدعومة من باكستان- من السيطرة على جل مناطق البلاد.[24]
برج النبي سليمان.. رحلة الرحالة المغربي ابن بطوطة
تعتبر كابل التي تصدرت أخبار العالم منذ منتصف آب/أغسطس 2021 حين دخلها مقاتلو طالبان آمنين بعد عشرين عاما من الاحتلال الأمريكي؛ أكثر من مجرد عاصمة سياسية لأفغانستان، بل هي نقطة لقاء تاريخي بين أهم وأكبر الحضارات التي عرفتها الإنسانية، بما فيها الحضارات اليونانية، ففي هذه المدينة آثار تدل على وصول الثقافات القديمة للهند والصين واليونان، ومنها انتقلت الثقافتان العربية والفارسية إلى الهند والصين..
أما قندهار فهي ثاني أهم مدينة أفغانية، وكانت عاصمة للبلاد في عهد أحمد شاه دراني في القرن الـ18، وتتميز بجغرافيتها الأكثر انبساطا وسهولة في الاستغلال مقارنة بكابل، بينما تعتبر مدينة هرات العاصمة الثقافية لأفغانستان، وتقع بالقرب من الحدود الإيرانية، وتحتفظ بكثير من الآثار والأضرحة التي تدل على عراقتها وتنوع حضاراتها عبر التاريخ.[25]
قام الرحالة المغربي محمد بن عبد الله الطنجي المعروف بلقب ابن بطوطة، بزيارة أفغانستان منتصف القرن 14 للميلاد. ومما قاله هذا الشاهد على عصره نقرأ هذه الفقرة التي يتحدث فيها عن دخوله بلاد الأفغان: “مدينة نيسابور، وهي إحدى المدن الأربع التي هي قواعد خراسان، ويقال لها دمشق الصغيرة لكثرة فواكهها وبساتينها ومياهها وحسنها، ويخترقها أربعة من الأنهار، وأسواقها حسنة متسعة ومسجدها بديع، وهو في وسط السوق، ويليه أربع من المدارس يجري بها الماء الغزير، وفيها من الطلبة خلق كثير يقرأون القرآن والفقه، وهي من حسان مدارس تلك البلاد”.[26]
ويعود المؤرخ المغربي في فقرة أخرى ليتحدث عن عاصمة أفغانستان الحالية: “ثم سافرنا إلى كابل، وكانت فيما سلف مدينة عظيمة، وبها الآن قرية يسكنها طائفة من الأعاجم يقال لهم الأفغان، ولهم جبال وشعاب وشوكة قوية، وأكثرهم قطّاع الطريق، وجبلهم الكبير يسمى كوه سليمان، ويذكر أن نبي الله سليمان عليه السلام صعد ذلك الجبل، فنظر إلى أرض الهند وهي مظلمة فرجع ولم يدخلها فسمي الجبل به، وفيه يسكن ملك الأفغان”.
المصادر
[1] https://www.herodote.net/Un_rude_et_vieux_pays_au_coeur_du_monde-synthese-170.php
[2] سالم أحمد سليمان، الجغرافيا الطبيعية والبشرية لأفغانستان، الكويت، 1999
[3] سيد إسماعيل يوسفي، الأبعاد الاستراتيجية للعلاقات الأمريكية الأفغانية 2001-2014،رسالة ماجستير في العلوم السياسية، جامعة الشرق الأوسط، الأردن 2014
[4] https://www.herodote.net/Un_rude_et_vieux_pays_au_coeur_du_monde-synthese-170.php
[5] صلاح عبود العامري، تاريخ أفغانستان وتطورها السياسي، العربي للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 2012
[6] خليل السردين، آثار أفغانستان وحضارتها، إسلام أباد، 2001
[7] صلاح عبود العامري، تاريخ أفغانستان وتطورها السياسي، العربي للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 2012
[8] https://www.herodote.net/Un_rude_et_vieux_pays_au_coeur_du_monde-synthese-170.php
[9] https://www.herodote.net/Un_rude_et_vieux_pays_au_coeur_du_monde-synthese-170.php
[10] https://www.aljazeera.net/blogs/2019/11/25/معركة-نهاوند-من-روائع-التكتيك-الحربي
[11] صلاح عبود العامري، تاريخ أفغانستان وتطورها السياسي، العربي للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 2012
[12] محمد حسن العيلة، الحرب الأفغانية الأولى 1838-1842 هزيمة بريطانيا العظمى وانتصار الأفغان، دار الثقافة الدوحة
[13] https://www.reuters.com/article/oegen-afghanistan-writer-mn3-idARAKCN0SK0QZ201510
[14] سيد إسماعيل يوسفي، الأبعاد الاستراتيجية للعلاقات الأمريكية الأفغانية 2001-2014،رسالة ماجستير في العلوم السياسية، جامعة الشرق الأوسط، الأردن 2014
[15] http://www.thucydide.com/realisations/utiliser/chronos/afghanistan.htm
[16] صلاح عبود العامري، تاريخ أفغانستان وتطورها السياسي، العربي للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 2012
[17] http://www.thucydide.com/realisations/utiliser/chronos/afghanistan.htm
[18] http://www.thucydide.com/realisations/utiliser/chronos/afghanistan.htm
[19] صلاح عبود العامري، تاريخ أفغانستان وتطورها السياسي، العربي للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 2012
[20] صلاح عبود العامري، تاريخ أفغانستان وتطورها السياسي، العربي للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 2012
[21] https://www.youtube.com/watch?v=6ZSbdn46wiU
[22] صلاح عبود العامري، تاريخ أفغانستان وتطورها السياسي، العربي للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 2012
[23] https://www.youtube.com/watch?v=6ZSbdn46wiU
[24] http://www.thucydide.com/realisations/utiliser/chronos/afghanistan.htm
[25] صلاح عبود العامري، تاريخ أفغانستان وتطورها السياسي، العربي للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 2012
[26] محمد بن عبد الله بن محمد بن إبراهيم ابن بطوطة ، تحفة النظار في غرائب الامصار وعجائب الأسفار، مطبوعات أكاديمية المملكة المغربية، سلسلة التراث، الجزء الثالث 1997