تحمُّض المحيطات.. آفة تهدد حياة الإنسان والكائنات البحرية
لم تسلم أعالي البحار والمحيطات من أذى البشر، وحتى الكائنات البحرية التي تستوطن قعر المياه العميقة بلغها نصيبها من الضرر والتلوث الذي يعيشه كوكب الأرض. وعندما نقول إن الغابات هي رئة الكوكب، فإن المحيطات والبحار هي الرئة الثانية التي نتنفس بها يوميا، فهذه المياه تمتص ما يقرب من 26٪ من ثاني أوكسيد الكربون الذي ينفثه النشاط البشري في الغلاف الجوي كل عام، بحسب تقديرات الأمم المتحدة.
لكن المحيطات والبحار التي تغطي أكثر من 70% من سطح الأرض، أصبحت تتعرض لتغيرات مستمرة في التركيبة الكيميائية والمعدنية لمياهها في السنوات الأخيرة، إذ أصبحت أكثر حموضة بسبب امتصاصها لكميات كبيرة من ثاني أوكسيد الكربون الموجود في الغلاف الجوي، فقد ازدادت نسبته بفعل الأنشطة البشرية المعتمدة على الوقود الأحفوري المسببة للاحتباس الحراري.
ويؤثر هذا الوضع مباشرة على الأحياء البحرية، خصوصا الشعاب المرجانية والطحالب الصغيرة المعروفة باسم “الدياتومات” التي تعتبر أشهر أنواع العوالق النباتية، وتسهم بنحو 45% من إجمالي الإنتاج الغذائي في المحيطات، وتمنحنا نسبة مهمة من الأوكسيجين الذي نستنشقه كل يوم. ويتوقع علماء أن تصبح بحارنا ومحيطاتنا في أفق سنة 2050 أكثر سخونة وحموضة مقارنة بأي وقت مضى.
فكيف تحدث إذن “ظاهرة تحمض المحيطات”؟ وما هي أسبابها المباشرة؟ وكيف تؤثر على التنوع البيولوجي البحري؟ وما علاقة ارتفاع حموضة المياه بارتفاع نسبة ثاني أوكسيد الكربون في الغلاف الجوي؟ وما مدى انعكاس كل ذلك على سلاسل الغذاء داخل البحار والمحيطات؟
تشبع العوالق البحرية والطحالب.. كارثة تقلب المناخ
قد يستهين البعض بالمشاكل التي تتعرض لها المحيطات والبحار، ويظن أن التغيرات التي تطرأ على مياهها لن تؤثر بشكل مباشر على الإنسان، لكن العكس هو الصحيح، فالمحيطات والبحار والأشجار والغابات هي أساس عيش البشر فوق الكوكب، بفضل توفيرها للأوكسيجين الضروري للحياة.
تجري العملية بالطريقة نفسها التي تجري فيها على اليابسة، أي أن النباتات تمتص ثاني أوكسيد الكربون، وتطرح الأوكسيجين بفضل عملية التركيب الضوئي، وهي عملية تقوم بها الطحالب والعوالق النباتية وعلى رأسها “الدياتومات” التي تحتوي على “الكلوروفيل”. وقد كشفت الإدارة الوطنية للمحيطات والغلاف الجوي في الولايات المتحدة مؤخرا أن بحار العالم ومحيطاته خلصت الكوكب من أكثر من 150 مليار طن متري من الكربون الناتج عن الأنشطة البشرية على مدى 200 عام الماضية.
وباتت هذه العملية مع الأسف مهددة في السنوات الأخيرة، نتيجة امتصاص هذه النباتات البحرية لكميات أكبر من ثاني أوكسيد الكربون الذي ارتفعت نسبته في الغلاف الجوي، مما يجعلها مشبعة وغير قادرة على القيام بعملها على النحو المطلوب.
ويؤثر هذا الوضع مباشرة على المحيطات التي يرتفع فيها تركيز الكربون، وتتغير تركيبتها الكيميائية لتصبح أكثر حموضة. كما يتأثر الغلاف الجوي بسبب عدم قدرة المحيطات على امتصاص ثاني أوكسيد الكربون، مما يزيد ارتفاع درجة الحرارة على الأرض، وهي السبب الرئيس لتغير المناخ الذي أصبح يهدد الوجود البشري فوق سطح الأرض.
مستوى الأس الهيدروجيني.. انخفاض يرفع الحموضة بنسبة مخيفة
يؤدي ارتفاع تركيز ثاني أوكسيد الكربون في البحار والمحيطات إلى تفاعلات كيميائية ينتج عنها حمض الكربونيك الذي يؤدي إلى انخفاض مستوى الأس الهيدروجيني “بي إتش” (ph) في المياه لتصبح أكثر حموضة. وتتوقع دراسة أعدتها مجلة “ساينس نيوز” الأمريكية أن ينخفض متوسط الرقم الهيدروجيني في المحيطات من حوالي 8.1 حاليا إلى حوالي 7.8 بحلول عام 2100، وهو ما يعادل ارتفاعا للحموضة بـ150%.
ويعتبر مؤشر “بي إتش” (ph) معيارا عالميا لقياس نسبة الحموضة، فإذا كانت قيمته أقل من 7 يكون الوسط حمضيا، ويصبح قاعديا فوق عتبة 7، مما يعني أن مياه البحار والمحيطات حاليا هي قاعدية، لكنها بدأت في فقدان هذه الخاصية بشكل تدريجي، منذ بداية الثورة الصناعية.
وتقول دراسات في هذا المجال إن الأس الهيدروجيني للمحيطات انخفض بنسبة 0.1 نقطة منذ سنة 1850، وهو تغير قد يبدو في الوهلة الأولى ضعيفا، لكنه يعادل ارتفاعا في الحموضة بحوالي 30%، وهو أسرع تحول يسجل مقارنة بالفترات السابقة من تاريخ الكوكب.
“الدياتومات”.. وحش يلتهم مذوبات الكربون في قعر المحيطات
يعود الفضل في إنتاج نسبة كبيرة من الأوكسيجين الذي نتنفسه يوميا إلى كائنات مائية دقيقة تسمى “الدياتومات”، نجدها أساسا في البحار والمحيطات، وتتفوق حتى على أشجار الغابات المطيرة في إنتاج الأوكسيجين، وتقوم هذه الطحالب المتناهية الصغر بعمل جبّار لتوفر لنا ما يكفي من الأوكسيجين من أجل عملية التنفس، رغم أن حجمها أقل بخمسين مرة من طول بعوضة واحدة.
لكن هذه الكائنات الدقيقة تتأثر بالزيادة المستمرة في ثاني أوكسيد الكربون في الهواء، إذ يؤدي إلى إضعاف قدرتها على بناء جدران خلاياها من مادة “السيليكا”، ويجعل وزنها أخف، فتصبح غير قادرة بالتالي على ترسيب الكربون في أعماق المحيطات بعد موتها. وهذه الخلاصة أكدتها دراسة نشرتها مجلة “نيتشر كلايمت تشينج” (Nature Climate Change)، مشيرة إلى أن زيادة حموضة المحيطات تسبب تآكل الطبقة الصلبة لـ”الدياتومات”، وتباطؤ معدل بناء هذه الطحالب الصغيرة لجدران خلاياها.
وتتمتع “الدياتومات” بقدرة كبيرة على التحمل وتعيش في جميع أنواع المياه، بما فيها الينابيع الساخنة وتحت جليد البحار والمحيطات المتجمدة، وتشكل الوجبة المفضلة لعدد من الكائنات البحرية الأخرى، مثل القواقع والمحار. وينعكس انخفاض عددها أو تراجع أنواعها المختلفة على مجمل السلسلة الغذائية في البحار والمحيطات، فأي انخفاض في وفرة أحد الأنواع قد يكون تأثيره مضاعفا على الأنواع الأخرى. وتؤكد أرقام نشرتها الإدارة الوطنية للمحيطات والغلاف الجوي في الولايات المتحدة أن ما بين 10-15% من الأنواع البحرية معرضة بالفعل لخطر الانقراض.
الشعاب المرجانية.. خطر الانقراض قبل نهاية القرن
يهدد تحمُّض المحيطات الشعاب المرجانية التي تواجه خطر الاندثار قبل نهاية القرن الحالي، نتيجة حساسيتها تجاه حموضة المياه بعشر مرات أكثر، مقارنة بالنباتات البحرية الصغيرة الأخرى. ويضاف هذا التهديد إلى مشاكل أخرى تترصد هذه الشعاب المرجانية، مثل الابيضاض الناتج عن ارتفاع درجات حرارة المياه، والتلوث، والإفراط في صيد الأسماك.
وكان البحث الذي أشرفت عليه أكاديمية كاليفورنيا للعلوم عام 2016، من أبرز المبادرات التي دقت ناقوس الخطر الذي يهدد الشعاب المرجانية، وأظهر أن المياه السطحية فقدت 25% منها حتى الآن، وتوقع أن يستمر النزيف بفقدان 30% من الشعاب المرجانية خلال السنوات الثلاثين القادمة إذا استمر التلوث الكربوني في مستوياته الحالية.
ويهدد هذا التدهور مصدر الغذاء لنحو 25% من المخلوقات البحرية، كالمحار وسرطان البحر ونجم البحر وقنافذ البحر وغيرها من الأنواع الأخرى، فهي تتخذ من الشعاب المرجانية موطن عيش لها، يوفر لها الحماية والعناصر اللازمة للنمو.
وقد تأكدت التأثيرات السلبية لظاهرة تحمض المحيطات على الشعاب المرجانية في دراسات ميدانية عدة، وعلى رأسها تلك التي نشرت تفاصيلها دورية “نيتشر” البريطانية في 2016، وقام خلالها فريق من الباحثين بتزويد هذه الشعاب بمضادات للحموضة، لتوفير الظروف المواتية لنموها كما كانت عليه قبل مئة عام، وهو ما انعكس إيجابا على قدرتها على النمو بشكل أفضل.
امتصاص الكوبالت.. تسمم الرخويات يهدد مليارات البشر
يشكل عنصر “الكالسيوم” المكون الرئيسي لكل القواقع والهياكل والقشريات التي نجدها لدى عدد من الرخويات والأنواع البحرية كالمحار وبلح البحر والحلزونات وحتى سرطانات البحر وغيرها، فهو معدن أساسي لبناء هياكلها الصلبة التي تحميها وتمكنها من البقاء على قيد الحياة. وتبني هذه الكائنات هياكلها اعتمادا على تراكُم “كربونات الكالسيوم”، وهو مادة معدنية طبيعية موجودة في المحيط، لكن العملية أصبحت تتأثر سلبا بالحموضة المتزايدة للمياه.
ويبدو أن بعض القواقع البحرية الصغيرة والحلزونات وبلح البحر حساسة بدرجة خاصة لتآكل “كربونات الكالسيوم”، اللبنة الأساسية لتشكيل أصدافها وهياكلها العظمية. وقد اكتشف مؤخرا علماء في مختبر “الإيكولوجيا الإشعاعية” بجامعة إسطنبول، أن حلزون البحر مثلا عند وجوده في مياه ذات حمضية طفيفة، يقوم في المقابل بامتصاص ضعف كمية الكوبالت مقارنة بالظروف العادية للمياه الغنية بالكالسيوم، بينما أظهرت كائنات أخرى مثل المحار مستوى أعلى من الصمود.
ويؤدي ذلك إلى تشبع هذه الرخويات بمعدن الكوبالت، مما يشكل خطرا على الإنسان عند تناوله، على اعتبار أن هذا المعدن ثقيل، ولا يحتاجه البشر بكميات كبيرة، ويمكن أن يصبح ساما عند استهلاكه في مستويات تركيز مرتفعة. ولا شك أن أي اختلال من هذا النوع، ستكون له آثار اقتصادية وخيمة على المجتمعات الساحلية، وأيضا على التوازن الغذائي للإنسان. خصوصا إذا تأثرت أسماك أخرى بطريقة مماثلة، فالأسماك والرخويات تسهم بحوالي 15% من حاجيات البروتين الحيواني لثلاثة مليارات نسمة حول العالم.
كائنات تصمد في وجه أمواج الحموضة.. دراسات مثيرة
ليست آثار ارتفاع نسبة ثاني أوكسيد الكربون على المحيطات سلبية دائما، إذ تؤدي لدى بعض الطحالب والحيوانات البحرية إلى زيادة عمليات البناء والتركيب الضوئي، رغم أن علماء يحذرون من أن ذلك يبقى محدودا مقارنة بالأضرار التي يسببها تحمض المياه، خاصة لدى بعض الأسماك الصغيرة والرخويات والمحار.
ووفقا لدراسة حديثة لمعهد البحث من أجل التنمية الفرنسي، فإن الإسفنج البحري -وهو حيوان مائي بسيط متعدد الخلايا موجود بكثرة في المحيطين الهندي والهادئ- شهد طفرة رغم وجوده في مياه تتميز بنسبة حموضة عالية قرب غينيا الجديدة، وتقارب مستوياتها تلك المتوقعة مع نهاية القرن بسبب وجود انبعاثات بركانية لثاني أوكسيد الكربون. وتوصل الباحثون الفرنسيون إلى أن تأقلم إسفنج البحر مع حمضية المياه لا يرجع إلى نجاحه في عملية التركيب الضوئي، بل يعود إلى نشاط قوي لنسيج الميكروبات المتنوعة المعايشة مع هذا الحيوان البحري.
وقبل ذلك توصل فريق من الباحثين الدوليين من كندا وأستراليا والنرويج وسويسرا، إلى أن الأسماك التي تعيش على الشعاب المرجانية لا تتأثر إطلاقا بظاهرة تحمض المحيطات. وخلقت هذه الدراسة -التي نشرت نتائجها في يناير/كانون الثاني 2020 في دورية “نيتشر”- جدلا واسع النطاق. إذ خلص الباحثون، بعد مراقبة سلوك أسماك الشعاب المرجانية في مناطق عدة من العالم وعلى رأسها أستراليا، إلى أن التركيز المرتفع لثاني أوكسيد الكربون لا يؤدي إلى تغيير مستويات النشاط أو الاتجاه السلوكي لهذه الأسماك. مما يستلزم القيام بأبحاث إضافية، للتأكد من تأثير الاحتباس الحراري على سلوك الأسماك الاستوائية التي تعيش في الشعاب المرجانية.
أعالي البحار.. فشل دولي في حماية القلب الأزرق للكوكب
لا شك أن ظاهرة تحمض المحيطات والاحتباس الحراري عموما، تضر بالطبيعة والإنسان بكل حال من الأحوال، فالاحترار المناخي أصبحت اليوم آثاره جلية بسبب ارتفاع نسبة ثاني أوكسيد الكربون، وأي اختلال آخر في مصادر امتصاص هذه الغازات الدفيئة سيكون مدمرا للكوكب. دون أن ننسى أن النظم البحرية تشكل مصدر عيش لملايين الأشخاص حول العالم، سواء من خلال صيد الأسماك، وتربية المحار، واستغلال الشعاب المرجانية، أو حتى السياحة البيئية التي تعمد على التنوع البيولوجي للمحيطات.
ورغم أن هذه الظواهر المترابطة أصبحت مصدر قلق للمجتمع الدولي، فإن الدول الأعضاء في الأمم المتحدة لم تتمكن حتى الآن من اعتماد اتفاقية دولية لحماية المحيطات والحياة المائية في العالم، وتعود آخر اتفاقية إلى 40 سنة خلت، وهي “اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار”، التي وقعت عام 1982. وفي أغسطس/ آب 2022، فشلت المحاولة الخامسة لإقرار “معاهدة الأمم المتحدة لأعالي البحار” بعد مناقشات استمرت أسبوعين في نيويورك.
وتستفيد فقط نسبة 1.2% من أعالي البحار من الحماية في الوقت الراهن، مع أن المياه الدولية تمثل تقريبا ثلثي مياه المحيطات. وكان أكثر من 70 دولة وافقت مبدئيا على تحويل 30% من محيطات العالم إلى مناطق محمية وفق نص المعاهدة الأممية. وهو ما سيضع نوعا من القيود على الكميات المسموح بصيدها، وممرات سفن الشحن وأنشطة التعدين واستكشاف أعماق البحر وغيرها من الأنشطة البشرية التي تؤثر على الحياة البحرية وتزيد التلوث وارتفاع حرارة المياه وحموضتها.
ولا شك أن تجاوز الخلافات وزيادة التمويلات أصبح حتميا اليوم أكثر من أي وقت مضى من أجل إنعاش القلب الأزرق الحيوي لكوكب الأرض.