“فنون البقاء”.. كائنات حية تتنبأ بالكوارث وتستغلها لصالحها

الأعاصير والزلازل والحرائق والبراكين تضرب في كل مكان من العالم، فما مصير الحيوانات والنباتات في مواجهة تلك الكوارث الطبيعية؟

قد يستشعر البعض الكارثة الوشيكة، فيفر قبل فوات الأمان، ينما يضطر البعض الآخر لمواجهة هذه الكوارث من أجل البقاء.

الروايات التاريخية والموروث الشعبي مليء بالقصص المثيرة عن سعة حيلة الطبيعة في مواجهة الكوارث والصراع من أجل البقاء، واليوم يقوم العلماء بدراسات لفهم سلوك الكائنات الحية إزاء الكوارث وطرقها في النجاة، فكم ستصمد هذه الكائنات أمام غضب الأرض؟ هذا ما يجيب عليه الفيلم الممتع الذي عرضته الجزيرة الوثائقية بعنوان “فنون البقاء”.

زلزال إندونيسيا.. إشعار يصل إلى السواحل السريلانكية

تقع سريلانكا في المحيط الهندي، وتعتبر مقصدا سياحيا بسبب مناظرها الخلابة ونظمها البيئية الغنية، وبعد متنزه يالا الوطني في الجنوب مستقرا لمجموعة متنوعة من الثدييات والزواحف والطيور.

في صبيحة 26 ديسمبر/كانون أول 2004 لم يكن لدى المرشد السياحي “توشارا” وفريقه أدنى فكرة عن ما ينتظرهم، ولكنهم لاحظوا أن معظم الحيوانات لم تكن موجودة ذلك الصباح، يبدو أنها خائفة من شيء ما نجهله.

في عام 2004، أمواج تسونامي عاتية ضربت سواحل إندونيسيا وتايلاند والهند وسيريلانكا وقتلت 230 ألفا

أدركت الحيوانات ما هو خارج عن نطاق الاستشعار البشري، فقد ضرب أحد أقوى الزلازل على الإطلاق سواحل إندونيسيا مدة 10 دقائق كاملة، وكانت سريلانكا بعيدة عن مركز الزلزال بما يكفي لعدم الشعور بالهزة، ولكن هذا الزلزال ولّد أمواج تسونامي عاتية ضربت سواحل إندونيسيا وتايلاند والهند وسيريلانكا، وأوقعت أكثر من 230 ألف قتيل.

وقد لاحظ الصيادون أن أفواج الأسماك المختلفة التي كانوا يرونها قبل تسونامي، قد اختفت تماما بعد أيام من الإعصار، وحتى سرطان البحر الذي كان يرى بكثرة على الصخور قد اختفى أيضا، وكذلك السلاحف والقريدس.

فمنذ القدم تروى الحكايات عن حيوانات تحذر البشر من خطر وشك قبل وقوعه، وقد نسب الفضل إلى الزواحف والإوز والكلاب في إنقاذنا من كوارث عدة، لكن الدراسات عن هذه الظاهرة ما زالت شحيحة.

جبل إتنا.. قطعان الماعز تتنبأ بفوران البركان

في 2011 بدأ الدكتورُ “مارتن ويكلسكي” دراسةَ قطعان الماعز التي تجوب منحدرات جبل إتنا في إيطاليا، الذي يبلغ ارتفاعه 3352 مترا فوق سطح البحر، وهو الجبل الذي يحوي أحد أنشط براكين أوروبا، لكن معظم ثوراته لا تؤثر إلا على المناطق القريبة حول فوهته، ولا تشكل خطرا على السكان وحيواناتهم.

وعلى مدى عامين وضع “ويكلسكي” أجهزة تعقُّب على عدد من الماعز والأغنام التي تعيش على منحدرات البركان، وراقب عن كثب تصرفاتها، وبجمع البيانات استطاع فهم تغير سلوكها تبعا لنشاط البركان، فقد كان سلوكها مضطربا متوترا وعنيفا قبل أي ثوران، مما يعني أنها تحس بالخطر القادم، بينما نحن نعجز عن ذلك.

أجهزة تعقُّب على الماعز والأغنام التي تعيش على منحدرات البركان لمراقبة تصرفاتها قبيل ثوران البركان

يقول الدكتور “ويكلسكي”: لا نعرف على وجه التحديد العامل الذي يدعو الماعز للتصرف على هذا النحو، هل هو بسبب رائحة الحمم البركانية، أم غاز ثاني أوكسيد الكربون، كل ما نعرفه هو أن الماعز يبدأ نشاطه الاستثنائي قبل ثلاث أو أربع ساعات من ثوران البركان.

أما الخطوة التالية فكانت زيارة أماكن مختلفة من العالم وسؤال الناس عن حيوانات تتنبأ بخطر الكوارث قبل وقوعها، فهناك منظمة “أو- سيرتش” تساعد العلماء على جمع البيانات من أعماق المحيطات التي ما زالت مجهولة لكثير منهم.

أعاصير المحيط.. أسماك القرش تهاجر قبل وقوع الكارثة

يضع الدكتور “هيوتر” أجهزة تنصت على أنواع مختلفة من أسماك القرش منذ 35 عاما، وفي 2001 وضع مع زميلته “ميشيل” علامات على مجموعة من أسماك القرش اليافعة ذات الرأس الأسود في خليج تامبا بفلوريدا، وعندما هاجم إعصار غابريل سواحل فلوريدا برياح سرعتها 110كم/ساعة وأمطار غزيرة، اكتشف “هيوتر” أن الأسماك غادرت أماكنها الآمنة إلى أماكن أكثر خطرا، هربا من العاصفة.

وقد أظهر رسم بياني أن القروش غادرت الخليج عندما بدأ الضغط الجوي بالانخفاض، وغادر آخرها قبل أن يصل الضغط إلى أخفض نقطة، ويبدو أنها تستشعر فرق الضغط بواسطة آذانها، وهناك تفاوت في الاستجابة بين مختلف الحيوانات.

أجهزة تنصت توضع فوق أنواع مختلفة من أسماك القرش لمراقبة سلوكها أثناء العواصف

وبعد 20 عاما انطلقت بعثة من منظمة “أوسيرتش”، لتتبع أسماك القرش البيضاء الكبيرة في مقاطعة نوفا سكوشا، كان ذلك في سبتمبر/أيلول 2020، وكان الجو مناسبا للعثور على مجموعة كبيرة منها، لكن الغريب أنه لم يعثر على أي من هذه القروش، يبدو أنها شعرت بشيء ما، وهذا ما تأكد بعد فترة قصيرة، فقد ضرب إعصار “تيدي” سواحل نوفا سكوشا، وتحول البحر الهادئ إلى أمواج عاتية بارتفاع 10 أمتار.

لقد غادرت الأسماك الساحل بسبب الإعصار إلى المياه العميقة، وبعد أيام من الهدوء شوهدت الأسماك عند الساحل ثانية، وكان الدكتور يتتبع “هيوتر” 70 قرشا أبيض بالغا في الوقت الفعلي، ويمكنه ملاحظة سلوكها مع تغير الضغط الجوي واضطرابات الطقس القادمة.

فطيرة النمل.. خدعة فطرية لتجنب الاستئصال

تقع بورتوريكو في البحر الكاريبي على بعد 1600 كم من سواحل الولايات المتحدة، وهي منطقة ذات جمال ساحر بجبالها وشلالاتها وغاباتها، وعلى جانبها الشرقي تقع غابة إليونكي المدارية المطيرة التي يبلغ معدل هطول الأمطار فيها ثلاثة أمتار سنويا، وتشتهر بنظامها البيئي المتنوع، وهي موطن لِطيف ثري من الثدييات والطيور، بالإضافة لكائنات أكثر هشاشة من الحشرات والعوالق.

وتقع بورتوريكو في ممر عواصف هائلة تتكون في الأطلسي وتضرب منطقة الكاريبي، وتحمل أمطارا غزيرة تهطل على الجزيرة في فترات متقاربة. ومع ارتفاع منسوب المياه تنجرف كمية من الرواسب إلى الأنهار في غضون ساعات، وتهدد الأمطار قاطني الغابة ذوي الحجم الضئيل.

شبكة ضخمة من النمل تطفو على الماء أثناء المطر الشديد، إلى أن يهدأ الطقس فتبدأ ببناء مستعمرتها الجديدة

وهناك الروبيان الذي لا يتضرر من تدفق الأنهار، بل يسير معها ويطهرها من كثير من أوراق الأشجار المتساقطة والقش والنفايات العضوية الأخرى. أما النمل الناري فيتصدى للأخطار بأساليب مدهشة، إنه يشكل جزيرة متشابكة من مئات آلاف النملات، تتشابك فيما بينها بأيديها وأرجلها لتبدو مثل جزيرة عائمة من النمل، وتترك بينها فجوات للهواء كيلا تغرق.

وتوضع الملكة واليرقات في الوسط، وهو المكان الأكثر جفافا وأمانا في هذه الفطيرة المائية، ويمكن للنمل الناري النجاة بهذه الطريقة لأسابيع، وعندما تنحسر المياه أو يواجه اليابسة فإنه يعود لبناء مستعمرته من جديد.

طيور الكروان.. كائنات تتحدى أعاصير الأطلسي

رغم الخدع وخطط الإخلاء التي تمارسها الحيوانات في سبيل البقاء، فإن بعض الكائنات تختار مواجهة الخطر، ففي الساحل الشرقي لفرجينيا هنالك سلسلة من الجزر الحاجزة باتت مخزنا لطعام أحد أنواع الطيور المهاجرة، قبل بداية رحلته الأسطورية التي أثارت فضول العلماء منذ مئات السنين.

يتتبع الدكتور “براين واتس” مدير مركز علم الحفظ الحيوي طيور الكروان ويدرس هجرتها. ويقول: سنحت لنا فرصة تثبيت أجهزة بث بالأقمار الصناعية على الطيور، وخلال 10 أعوام تتبعنا 50 طائرا أثناء عبورها المحيط الأطلسي، وجمعنا بيانات عن كيفية تفاعلها مع العواصف.

طيور الكروان تسلك خطين في هجرتها نحو الجنوب، ويسلك سرب “خليج هدسون” مسار الأعاصير

هناك مجموعتان رئيسيتان من الكروان في أمريكا الشمالية، تبدو كلتاهما متشابهة من حيث قضاء شتائها في البرازيل، لكنهما تتبعان حلولا مختلفة تجاه الأعاصير، فسرب “دلتا ماكنزي” يحلق فوق المياه الأكثر برودة، حيث لا تتشكل العواصف، أما سرب “خليج هدسون” فيحلق مباشرة عبر مسار الأعاصير، لكنه يسلك مسار الجزر التي يهبط فيها للتزود بالطعام والراحة واتقاء الأعاصير.

ومن خلال متابعته، اكتشف “واتس” أن الخطر لا يتعلق بالطقس دائما، فقد أبدت هذه الطيور مهارة فائقة في التكيف مع الظروف الجوية والكوارث الطبيعية، ولكنها فشلت مع الإنسان الذي ينتظر هبوطها على الجزر ليصطادها.

رماد البراكين الساخن.. حاضنة بيض الشقبان

في جزيرة بريطانيا الجديدة في بابوا غينيا الجديدة، يثور بركانان بشكل متقطع منذ 1994، مما اضطر سكان القرى المجاورة لفوهة البركان إلى هجرها، وهو ما أتاح الفرصة لساكن جديد ليستوطنها، إنه طائر الشقبان البولونيزي، فهو يدفن بيضه على عمق مترين في الرماد البركاني الساخن، ويترك للأرض مهمة حضانة البيض حتى يفقس.

طائر الشقبان البولونيزي يدفن بيضه على عمق مترين في الرماد البركاني الساخن

وفي أحيان كثيرة يثور البركان، مفوتا على الطيور فرصة دفن بيضها، ما يجعله عرضة لأنواع الزواحف لالتهامه، أما الذي يكون مدفونا في التراب الدافئ فيفقس في غياب الأبوين، ويتولى الكتكوت الصغير أمر نفسه ويطير لوحده من أول يوم.

حدأة النار.. طيور تشب النار لاصطياد الزواحف الهاربة

في شمال أستراليا تسخر بعض أنواع الطيور عناصر الطبيعة لصالحها، فعند اشتعال النيران تحوم طيور حدأة النار حولها، لتصطاد الحشرات والزواحف والقوارض الهاربة من اللهب، بل إن الحكايات تذهب إلى أبعد من ذلك، فبعض هذه الطيور شوهدت وهي تحمل الأعواد المشتعلة وتلقيها في أماكن أخرى لتوسيع مساحة النيران.

عند اشتعال النيران تحوم طيور حدأة النار حولها لتصطاد الحشرات والزواحف والقوارض الهاربة من اللهب

وأما في قبالة الساحل الجنوبي لأستراليا، فتشتهر جزيرة كانغارو بنظامها البيئي الفريد، لكن في عامَيْ 2019 و2020 تأثر هذا الملاذ البري بشدة عندما التهمت حرائق الغابات أكثر من نصف مساحته، مما دعا الناس والعلماء للقلق على الثروة الحيوية فيها.

النمل الأبيض.. تلال الخشب والطين تحمي الملكة والبيض

أظهرت بعض الكائنات أساليب مدهشة في كيفية التعامل مع الحرائق، فهنالك نوع خاص من النمل الأبيض يقوم ببناء تلال مرتفعة لحماية سراديبه التي تحت الأرض، وتتكون هذه التلال من نشارة الخشب التي يمضغها النمل ثم يلفظها، وكذلك من الطين الذي يجذبه النمل من التربة المجاورة، بل إنه يستخدم كذلك نوعا من المعادن لتحصين بيوته ضد الحرائق.

نوع خاص من النمل الأبيض يقوم ببناء تلال مرتفعة لحماية سراديبه التي تحت الأرض

يمكن أن تتأثر هذه التلال بالنار، فتهدم بعضا منها، ولكن السراديب تحت الأرض لا تتأثر، والملكة وبيوض النمل في أمان هناك حتى ينجلي الخطر، وحينها تعيد النملات العاملات بناء ما تهدم من مملكتها.

وهنالك بعض آكلات النمل من القنافذ تستفيد من تلال النمل الأبيض، لتضع بيضها في مأمن من النيران، كما أنها تحمي أجسادها من الحريق بواسطة نثر التراب بين أشواكها، مما يعطيها حماية إضافية، ثم تدخل في نوبة فتور تخفض فيها استهلاك الطاقة ريثما يزول تهديد الحرائق.

أوكاليبتوس.. أشجار أستراليا الزيتية تتكاثر بالنار

تنتشر أشجار أوكاليبتوس في معظم أرجاء أستراليا، وهي مغطاة بلحاء مشبع بالزيت، مما يساعد على تعاظم الحرائق إذا اشتعلت فيها، ولكن تبين أن هذه الأشجار تستفيد من النار في تكاثرها، فهي تحتفظ ببذورها في مخاريط مغطاة بالصمغ، ولا يمكن تحرير البذور إلا بالحرارة التي تصهر الطبقة الواقية، فتتساقط البذور على أرض رمادية خصبة بالمواد العضوية لتنمو أشجارا من جديد.

لا يمكن تحرير بذور أشجار أوكاليبتوس إلا بالحرارة التي تصهر طبقة المخاريط المغطاة بالصمغ

وليست أشجار أوكاليبتوس هي وحدها المستفيدة من النيران، فقد أودع الخالق سبحانه مهارات البقاء والتكيف مع الحرائق، وحتى الاستفادة منها في كثير من نباتات جزيرة كنغارو، مثل النباتات المصفرة طويلة البقاء التي تتعدى أعمار بعضها 400 سنة، وهي تعد مصدرا لغذاء كثير من الحشرات والطيور التي تمتص رحيقها وتأكل بذورها.

استغلال الكوارث.. كائنات تستفيد من الزلازل والأعاصير

تستفيد بعض أنواع القردة في النيبال من الزلازل المدمرة، فبينما يموت آلاف البشر، ويسوى كثير من المدن بالأرض، فإن قردة الماكاك الريسوسية تستفيد من هذه الكوارث في “سرقة” أكبر كمية ممكنة من الطعام الذي خلفه البشر من ورائهم.

بعض أنواع القردة في نيبال تستفيد من الزلازل المدمرة في “سرقة” أكبر كمية ممكنة من الطعام من البيوت المهدمة

وتعد كواي إحدى أكبر جز هاواي، وتشتهر بغاباتها الاستوائية وجبالها الشاهقة وأنهارها الصافية وشواطئها الرملية، ولكن رغم بيئتها الساحرة فإنها تتعرض لعواصف عاتية، وقد جلب أحد هذه الأعاصير -وهو إعصار إينيكي 1992- أنواعا من الدجاج، ثم تزاوجت مع دجاج الجزيرة، فأنتجت أعدادا كبيرة من “الدجاج الوحشي”، تعيش جنبا إلى جنب مع البشر على الجزيرة.

وفي هذا الوقت الذي تزداد فيه الكوارث الطبيعية، وتتعرض فيه التجمعات البشرية لخطر الفناء، بسبب ما اكتسبت أيدي البشر من التسبب بالاحتباس الحراري وإطلاق الغازات الدفيئة، فالأحرى بالإنسان أن يتعلم من الكائنات الأخرى مهارات البقاء، والتكيف مع الكوارث، وتسخيرها لخدمته والحفاظ على النوع البشري من الفناء.