“الحكواتية الفلسطينية”.. حكايات تحفظ التاريخ والجغرافيا وقصة الإنسان
كالنساء اللواتي يجمعن الثمار من حقولهن الخضراء، تدور دنيس أسعد في شوارع فلسطين لتجمع الحكايات، فتدخل البيوت وتجلس بجوار الجدات الكبيرات تسمع منهن الحكايات القديمة عن البيوت والأرض، وما يحفظنه من ذكريات عن الآباء والأجداد، وتجمع الحكايات الشفوية في ثوبها، وتتنقل بين البيوت والساحات والحدائق الواسعة، لتجمع حولها الأطفال والكبار، فتحكي لهم حكايات الأجداد الفلسطينية. وهكذا إلى ما لا نهاية تُتوارث الحكايات وتزدهر ولا تموت.
“أنا اسمي دينيس، ودينيس اسم سمكة والسمكة وين بتعيش؟ بالبحر..
وأنا عايشة جنب البحر ببلد اسمها حيفا..
حدا منكم بيعرف حيفا؟ حيفا بفلسطين”
في فيلم “الحكواتية.. فلسطين” للمخرج محمد مصطفى الصواف تُعرِّف دينيس أسعد نفسها بأنها “حكواتية حيفاوية”، احترفت فن الحكي منذ سنوات طويلة، وتعلمت الحكي من أبيها الذي كان يحكي لهاوهي صغيرة لتسكت وتنام. وتصف أباها بأنه “حكواتي بالفطرة”، وهكذا زُرعت جذور حكاياته في قلبها الصغير.
“كل شيء فلسطيني بيسرقوه ويحولوه لإسرائيلي”
تمر السنين ويتغير معنى الحكايات عند دينيس، فتمنحها قوة هائلة وتثبت أقدامها على أرض أجدادها، وتتذكر ما قاله أبوها لها “حكاياتنا الفلسطينية زيها زي كل شيء فلسطيني اللي عم بيسرقوه ويحولوه لإسرائيلي، بالظبط زي التراث اللي عم ينسرق.. تطريز أتوابنا، أكلاتنا، الحمص اللي صار -خُمُس أحلى- وبلادنا اللي أغلبها انسرقت وبعدها عم تنسرق”.
تذهب دينيس إلى قرية قيسارية التي ولد فيها أبوها، ولم يعد للقرية القديمة وجود الآن على الخريطة، فقد أصبحت ضمن القطاع المحتل من الكيان الإسرائيلي، فقد هدمت البيوت الفلسطينية في قيسارية ولم يبق لها وجود.
لكن دينيس تعرف حكاية قرية أجدادها وبيوتهم، وتملك بطاقة هوية أهلها المدوّن فيها قيسارية، ولو ضاعت الهوية وتهدمت معالم قيسارية، فإن الحكاية التي تحفظها دينيس عن قيسارية ستخلدها إلى الأبد.
تشتبك دينيس بالحديث مع الموظفة الإسرائيلية التي منعتها من الدخول إلى قيسارية، فالموظفة لا تعرف عن تاريخ الأرض التي احتلتها شيئا، بينما دينيس تملك أصل الحكاية كلها. وكان المشهد قويا في تأثيره عندما تحول لصراع هوية بين دينيس والموظفة الغاضبة، لكن حكايات دينيس تجعلنا نفكر: ما قيمة أن يملك الإنسان حكايات ليحكيها؟
دراسة الفلكلور.. حماية المخيلة البشرية من الاندثار
يرى شوقي عبد الحكيم -وهو كاتب مسرحي وروائي- أن الهدف من دراسة الفلكلور الشعبي من حكايات وأساطير وخرافات، هو إعادة التعرف على تطور وتحولات المخيلة البشرية، وإعادة تعريف صياغة الإنسان العربي المتشكل عبر إرثه الثقافي.[1]
فالحكايات الشعبية تُقرأ في سياقات بعيدة عن كونها وسيلة لهدهدة الأطفال قبل النوم، أو للتسلية في المجالس النسائية أو الرجالية بغرائب وطرائف حكايات الزمن القديم. فللحكايات جذور أوسع كثيرا من كونها محض حكاية لتمضية الوقت، وهو شيء لا ينقص من قيمة الحكاية، بقدر ما يضعها في إطار آخر يكملها، بوصفها وسيلة لتأريخ الماضي وقراءته المستمرة، وتثبيت جذوره في اللحظة الحالية وعلى امتداد الأيام.
وعلى جانب آخر يمكننا تحليل الحكايات التي نتوارثها من الأجداد، فتكشف لنا عما كان يؤمن به أهلنا السابقون، من معرفة عاداتهم، وعلاقتهم بالطبيعة وتعاملاتهم الاجتماعية، وكيف سخّروا الحكايات لانتقاد واقعهم، أو حتى السلوكيات المنتشرة بينهم. ولأن التاريخ لا يحكي كل شيء فالحكي الشعبي هو سرد موازٍ للتاريخ، لا يكتبه الحكام والملوك، بل يكتبه الشعب، ومنه يبقى أثرهم حيا لا يزول، ومن هنا يتشكل التراث.
“جاي على بالي أجمع كل الحكايات”
يعود أصل كلمة “التراث” إلى “الميراث”، ويستدل على ذلك التفسير بالآية القرآنية في سورة الفجر ﴿وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا﴾، والمقصود بأكل التراث هنا أكل الميراث.
وهكذا تعمل المخيلة الذهنية التي تعتبر التراث إرثا. وإذا كانت الحكايات الشعبية الفلسطينية تراثا وطنيا، فإن توريثه هو الطريقة التي يجب التعامل على أساسها، وهو تماما ما تفعله الحكواتية الفلسطينية.
“كل واحد منا بقلبه حكاية، جاي على بالي أجمع كل الحكايات ومخليش ولا حكاية، حكايات من الجليل، جنين، النقب، من أريحا، من القدس، من رام الله”
ذاكرة الجغرافيا.. حكايات تؤرخ لجذور وتاريخ الأرض
يأخذنا فيلم الحكواتية في رحلتين متوازيتين: رحلة دينيس في سرد الحكايات على الأطفال الصغار، ورحلتها في الاستماع إلى الحكايات من الأجداد الكبار، وهي رحلة لا نستمع فيها إلى الحكايات فحسب، بل تأخذنا كاميرا الفيلم معها في رحلة عبر الطرق الفلسطينية، فتتأمل الماضي أو بالأحرى ترسم خريطة شفهية لما كان موجودا هنا قديما، ولكن لم يعد له وجود الآن، أو مُحي تماما من الجغرافيا على يد الاحتلال، ليزرع على تلال الماضي الفلسطيني أرضا.
لذلك فإن الذاكرة البشرية لها جغرافيتها البديلة التي تؤرخ لجذور وتاريخ الأرض، وكأن الحكاية هنا تقاوم الأمر الواقع وسياسة الاحتلال.
وتتمسك النساء الفلسطينيات بأكلاتهن الشعبية، وطرقهن في تطريز الأثواب الفلسطينية، فكل تطريزة تحمل معنى ما ولها طريقة معينة لا يعرفها إلا نساء أرض فلسطين، حتى أسماء القرى والمدن والشوارع هي تاريخ أرض فلسطين.
“هاد مش اسم حارتنا”.. مقاومة السرد التاريخي
تمر دينيس بالسيارة على لوحة كتب عليها “عين هيام” بالعربية والعبرية، وقد أخرجت دينيس من حقيبتها ورقة وثبتتها فوقها مكتوب عليها “واد جمال”. تقول دينيس “هاد مش اسم حارتنا، هما فرضوه علينا”.
بهذا الفعل البسيط بدلت دينيس المشهد وأزاحت زيف الواقع لتثبت تاريخية حارتها، فلن يفهم المارّون من أهل الاحتلال ما هو وادي جمال، لكن دينيس لديها تاريخ الاسم والأرض، والقوة تكمن في الحكايات التي لا تزال تحفظها من أهلها، وتورثها للأجيال القادمة كي لا ينسوها، وهي قوة لا تزال تشغل الآخرين وتهدد وجودهم.
الحكي مقاومة، واستمرار الحكي وتوارثها مقاومة شعبية، ليستمر التاريخ الفلسطيني محفوظا ولا يمحى، ولا يمكن أن نغفل قوة الحكي التراثي، خاصة حين نعلم أن كيان الاحتلال يسرق التراث الفلسطيني، وينسبه لدولته المحتلة، لأنه ببساطة لا يملك تاريخا، لكنه يستطيع سرقته.
“نفسي شي يوم أوقف هيك، وأجمع الناس وأحكيلهم حكايتي مع رام الله، حكاية جدتي نور الشامية اللي خِلقت في رام الله وبفتخر كتير إنها انولدت في رام الله”
“أبدا لا نترك بيتنا وأرضنا”.. رحلة داخل الجدار العازل
تعيش دينيس في داخل فلسطين، ومثل غيرها من عرب الداخل، يفصلها عن الأراضي المحتلة سياج حديدي ومسافة صغيرة، لكن الواقع بالداخل معقد، والوصول إلى موقع يفصلك عنه 100 متر يحتاج إلى ساعة كاملة، وتعقيدات كبيرة وإذن من قوات الاحتلال وبوابات حديدية، وغالبا سوف تتعرض لمضايقات كبيرة.
وفي رحلة دينيس لتحكي إلى أطفال جدد، تأخذنا في رحلة داخلية مع معلمة الأطفال التي تستقبلنا في بيتها، وتعرفنا على السياج الحديدي الذي تحاوط به شرفاتها الواسعة ونوافذ بيتها، فتصف بيتها بالقفص، وتقول “نحن من صنعناه لأنفسنا”.
فحياة الفلسطينيين بالداخل كالسجن، فهم ممنوعون من ممارسة حياتهم الطبيعية أو حتى السير بحرية في الشوارع، وفوق كل هذا عليهم أن يتحملوا مضايقات الإسرائيليين الذين لا يجدون حرجا في رشق البيوت بالحجارة، وهدف هذه المضايقات أن يترك الفلسطينيون بيوتهم، أو أن يصبحوا غرباء على أرضهم، لكن الفلسطينيين يعلموننا من حكاياتهم درسا أصيلا: “أبدا لا نترك بيتنا وأرضنا”.
قطع اتصالات غزة.. حكايات يريد الاحتلال وأدها في المهد
وفي اللحظة التي انقطعت فيها الاتصالات عن غزة قبل أيام، قلنا إن الحكاية قد انقطعت ولم نعد نعرف ما يحدث فيها من جديد، فأصبحت كاميرات الهاتف مصدرا للحكي، لكنها هذه المرة مختلفة، لأنها حكايات مباشرة، تحدث حالا، ونهايتها لم تحسم بعد وكلنا ننتظرها.
ويرصد الصحافيون حكايات الأطفال والنساء والرجال، فيمشون بين الركام ليفتشوا عن حكايات صغيرة تتفرع من حكاية المعركة الكبرى.
فلماذا تُقطع الاتصالات؟ لأن العدو تزعجه الحكاية، ويريدها أن تتوقف ولا تصل لمستمعيها.