“ارتفاع عميق”.. جشع التنقيب عن المعادن يفسد ألوان الحياة البحرية

يجمع الوثائقي الأمريكي “ارتفاع عميق” (Deep Rising) بين الجماليات وبين الأفكار الداعية لتنبيه العالم إلى الأخطار الجديدة المتأتية من المشاريع الربحية، التي تهدف إلى استغلال الكامن من معادن في أعماق البحار لأغراض تجارية، يتستر أصحاب شركات التنقيب عن الإعلان عنها، بالادعاء أن ما هو موجود منها في تربة البحار وصخورها، سيستثمر لدعم الصناعات المخففة للاحتباس الحراري والصديقة للبيئة، مثل تلك التي تدخل في صناعة بطاريات السيارات أو المراوح الهوائية المولدة للطاقة الكهربائية، بدلا من طاقة النفط وغيرها.
ولعرض ما تشكله عمليات التنقيب من خطر على البيئة البحرية ثم على الإنسان في اليابسة، تغوص الكاميرا عميقا في البحار، لتصور التناغم الذي تعيش فيه الكائنات الموجودة فيها منذ ملايين السنين، وجمالها الأخاذ المهدد بالزوال.
ضوابط التنقيب البحري.. قواعد تضرب بها الشركات عرض الحائط
يوكل صانع الفيلم “ماثيو ريتز” للممثل الأمريكي “جيسون موموا” مهمة التعليق على مشاهد من الفيلم بصوته الرخيم، ليضفي به بُعدا شاعريا على ما تعرضه الكاميرا من جمال طبيعي يملأ أعماق البحار. وللكشف عن الأخطار الملازمة للمشاريع الجديدة، يستعين الوثائقي بخبراء بيئة ومختصين في عالم البحار إلى جانب تسجيلات (فيديو) لها صلة بالبحث التوثيقي.

وفي مفتتحه، يقدم للمُشاهد لقطة يظهر فيها الرئيس الأمريكي السابق “جون كينيدي” في عام 1963 وهو يلقي كلمة متلفزة يشير فيها إلى أهمية العناية بالثروة البحرية، وخلال التسجيل يبدو عليه الارتباك، وهو يقرأ من ورقة أمامه وصاياه وإشاراته إلى أهمية أن يشترك العالم بأسره في حماية البحار من الانتهاك والاستغلال.
ولاحقا سيرى المُشاهد أن الولايات المتحدة الأمريكية وقفت ضد هذا التوجه وأصرت على استثمار البحار وفق مصالحها ومصالح شركاتها العملاقة، فالحديث عن وضع ضوابط دولية للمسموح باستغلاله وغير المسموح به، لا تعيره شركات التنقيب اهتماما.
وللتأكيد على توجهها، يأخذنا الوثائقي منذ وقت مبكر من مساره إلى مناطق تجري فيها عمليات التنقيب عن المعادن في أعماق البحار، حيث تظهر سفن عملاقة عائمة في منطقة “كلاريون – كليبرتون” البحرية الواقعة بين هاواي والمكسيك.

ويبين مشهد إنزالها لآلات حفر متطورة قادرة على الوصل إلى عمق أكثر من 4 كيلومترات، أن المشاريع المروجة لفكرة التنقيب واستخراج الصخور الغنية بالمعادن لم تعد نظرية فحسب، بل أضحت تطبق عمليا أمام دهشة العالم والمنظمات الدولية المعنية بحماية البيئة البحرية ودعواتها المتكررة إلى عدم استغلال معادن البحار لأغراض ربحية أو التصرف بها، من دون موافقة الدول القريبة من مناطق استخراجها.
استبدال معدن بآخر.. ما وراء خدعة المنقبين الدعائية
لمعرفة الذرائع والحجج التي يسوقها أصحاب شركات التنقيب، يلاحق الوثائقي “جيرارد بارون” المدير التنفيذي لمشروع شركة “ذا ميتال كومبني” والمشرف على تطبيقه في الواقع، ويدخل معه إلى المؤتمرات الدولية التي يحضرها ويؤثر في قراراتها، ويسجل كلماته أثناء مقابلاته مع مديري شركات ضخمة في أنحاء متفرقة من العالم.

ونسمعه يكرر نفس الكلام عن ضمانات مشروع الشركة الجديد المسمى “ديب غرين ريسورشز”، ومنها عدم استثمار الثروات المعدنية البحرية لأغراض ربحية، وأن هاجس شركته الوحيد هو حماية البيئة، وحرصها الشديد على عيش الأجيال القادمة في بيئة نظيفة خالية من التلوث.
لكن حديثه عن الطاقة الخضراء والبديلة لا يجد فيه العلماء صحة، ولا سيما حين يتعلق الأمر بالتنقيب عنها في أعماق البحار، لأنهم يعرفون حقيقة توجه الشركات، والتجربة التاريخية تعينهم على ذلك، فقد ادعت كل المشاريع السابقة أنها أفضل من غيرها، لكنها في النهاية صبّت في صالح الشركات الرأسمالية.

ومن بين العلماء الناشطين في كشف الأخطار الجدية للمشاريع الربحية الجديدة البروفسور التشيلي المختص في علم البحار “ساندور مولسو” الذي يؤكد أن الكلام الترويجي عن صناعة السيارات الكهربائية المتحركة بقوة البطاريات، لا يمثل حلا مثاليا للبيئة، لأنها في النهاية تعتمد على بطاريات تدخل في تركيبها المعادن، ولذلك فإن البشرية أمام عملية استبدال معدن بآخر، والمحصلة واحدة، وهي تدمير البيئة.
خلخلة التوازن الطبيعي.. دمار بيئي يهدد الكائنات الحية
ينبه العالِم “ساندور مولسو” إلى الخطر الناجم عن إزالة القشرة الأرضية للبحار وتفريغها من الصخور المعدنية، لأن تلك الصخور تسهم منذ ملايين السنين في تنقية هواء كوكب الأرض، من خلال عملية مركبة ومعقدة، تنتج عنها كميات هائلة من الأوكسجين الذي يأخذ طريقه إلى الخارج نحو الأرض، وأن أي تلاعب فيها سيؤدي إلى زيادة تلوث المناخ، ولهذا يدعو إلى عدم المساس بها، خوفا من يكون مصيرها مثل سابقاتها.

وللتذكير يقدم مثالا تاريخيا يشير فيه إلى نهاية أنواع كثيرة من الحيتان، بسبب صيدها من أجل الحصول على زيوتها المستخدمة في إنارة المنازل، وكان هذا التوجه وحده كفيلا بإبادة أنواع منها، بسبب انعدام الضوابط الحقيقية التي تنظم عملية صيدها، ونتج عن ذلك خلل بيئي كبير.
واليوم ربما تعود الشركات بنفس الذرائع القديمة لاستغلال معادن قاع البحار، بوصفها مصدرا نظيفا للطاقة، في حين أن الواقع يشير إلى أن محاولة استخراجها نابع من الرغبة في الحصول على الكنوز المعدنية فيها، ومن بينها الحديد والكوبالت والنحاس وغيرها.
“السلطة الدولية لقاع البحار”.. هيئة تعرقلها الدول والشركات العظمى
يحذر العالِم “ساندور مولسو” من محاولات شركات التنقيب الأمريكية العملاقة للاستحواذ على مصادر الطاقة البحرية، ويتساءل: هل تسمح البشرية لدولة واحدة للعمل بحرية وفق أهوائها ومصالحها المتعارضة مع مصالح دول أخرى تعجز بسبب ضعفها عن منعها من المضي في مشاريعها الهادفة إلى السيطرة على موارد الأرض، إلى جانب قدرتها على السيطرة السياسية والجغرافية على مساحات هائلة من البحار؟

وللتحري عن دقة وصفه، يراجع الوثائقي توصيات المؤتمرات الدولية وقرارات الأمم المتحدة حول التنقيب في البحار، فقد دعت كلها الدول الغنية ذات الإمكانات التكنولوجية المتطورة، إلى مساعدة الدول النامية والفقيرة، في الحصول على نسبة من الثروات البحرية، بما لا يضر بالأرض والبحار.
ويلاحظ الوثائقي في مراجعته التاريخية أن موقف الحكومة الأمريكية في عهد الرئيس “ريغان” الرافض لقانون البحار الذي أقرته الأمم المتحدة عام 1982، جعلها الدولة العظمى الوحيدة التي تقف ضده، في حين وافق عليه حوالي 98٪ من دول العالم.

ويتوقف الوثائقي عند المعنى التاريخي لتأسيس “السلطة الدولية لقاع البحار” التي تأسست في عام 1994، بوصفها هيئة دولية تتخذ مقرها من كينغستون في جامايكا مقرا لها، ولها حق اتخاذ القرارات الحامية للثروات البحرية.
لكن من خلال رصد تحركات المدير التنفيذي للمشروع الجديد “جيرارد بارون”، يلاحظ الوثائقي قوة تأثيره على عمل الهيئة، وقدرته على تعطيل بعض قراراتها، بقوة نفوذ شركته المالي وتنسيقها مع أكبر شركات التنقيب عن المعادن في العالم، إلى جانب المنافسة الجديدة التي تسمح للصين بالدخول على خطها، ولذلك تتقلص قدرة حكومات الدول النامية على فرض سياساتها البحرية عمليا.
“أعطونا النيكل، كل النيكل!”.. سباق على استنزاف الموارد
بينما يرصد الوثائقي الرائع مشاهد ساحرة للحياة البحرية الطبيعية، تواصل الشركات عمليات الحفر بمنطقة “كلاريون – كليبرتون” في المحيط الهادي عن المعادن التي تريد استثمارها في صناعة بطاريات السيارات، وتقدر مساحة التنقيب فيها بما يزيد على مساحة القارة الأوروبية بأكملها.

وتظهر لقطات مصورة ما تحدثه آلات الحفر في التربة البحرية والخلل الذي يطال توازنها الطبيعي. ويحذر العلماء الذين يستعين بهم الوثائقي من موت وتدمير البيئة البحرية الخام، كما دمرت الشركات العملاقة مثل “شيل” البريطانية وغيرها البيئة البرية سابقا، من خلال تنقيبها عن المعادن الداخلة في صناعة البطاريات، في الكثير من الدول الفقيرة.
كما يشير الوثائقي إلى الدمار الذي أحدثته في جزيرة أوبي الإندونيسية، فعمليات الحفر والتنقيب في مساحات كبيرة منها أدت إلى زوال الغابات المطيرة فيها، لذلك أضر بها وبالإنسان المعتمد في عيشه عليها، ودفع سكانها للهجرة منها، بعد أن استولت الشركات على أهم المعادن فيها، ولا سيما الفحم الداخل في تركيب البطاريات.

ويسرب الوثائقي تسجيلا صوتيا لصاحب شركة “تسلا” لصناعة السيارات المشتغلة بالطاقة الكهربائية “إيلون ماسك” مع مسؤولين حكوميين في الفلبين، يدعوهم صراحة لمنحه حق استثمار مناجم النيكل له وحده. فيقول لهم: “أعطونا النيكل، كل النيكل!” ومثلها في تشيلي إذ يزداد الطلب على معدن الليثيوم، وفي بوليفيا وزمبابوي أيضا، أما مدغشقر فقد استنفد مخزونها الطبيعي من النيكل بالكامل.
سكان السواحل.. تيار شعبي مناهض للاستغلال
مقابل كل هذا، يظهر تيار معارض لتوجهات الشركات، فمثلا في تشيلي يسعى البروفسور “ساندور مولسو” إلى زيادة الوعي العام بالأخطار الناجمة عن توجهات شركات التنقيب الغربية في بلاده وبقية العالم، وينظم محاضرات دراسية مجانية، يؤهل الدارسين فيها لنشرها على الطلاب في المدارس.

وفي جزيرة “بابوا نيو غويانا”، يخرج الناس في مظاهرات سلمية، تحذر الحكومة من التورط في منح الشركات حق التنقيب في المناطق القريبة من سواحلها.
وتوافقا مع المخاوف المشروعة لسكان السواحل البحرية، يدعو علماء البحار إلى نبذ فكرة صناعة بطاريات للسيارات تدخل في تركيبتها المعادن، لأنهم لا يريدون استبدال نوع من المعادن بنوع آخر، بل يطمحون لإيجاد بدائل طبيعية حقيقية.

وذلك على الضد مما يبيت أصحاب شركات التنقيب من أهداف نهائية، يلخصها المدير التنفيذي لشركة “ذا ميتال كومبني” وهو يعلن فرحا في مؤتمر صحفي حصولها في عام 2021 على موافقات رسمية للتنقيب عن المعادن واستخراجها في مناطق بحرية مختلفة بقوله: “المستقبل معدن”!