الأراضي الرطبة.. مرشحات طبيعية تحافظ على نقاء الكوكب

تحظى الأراضي الرطبة الموجودة على سطح الكوكب بأهمية كبرى في الحفاظ على التنوع البيولوجي، فرغم أنها تغطي 6% فقط من المساحة الإجمالية للكرة الأرضية، فإن 40% من جميع أنواع النباتات والحيوانات، تعيش أو تتكاثر في هذه الأراضي الرطبة.

ونعني بالأراضي الرطبة كل الأنظمة البيئية التي يشكل فيها الماء العامل الأساسي للحياة النباتية والحيوانية، وتشمل البحيرات والأنهار والمستنقعات والواحات ومصاب الأنهار والمناطق الساحلية والشعاب المرجانية وغيرها، وتوصف بأنها “كُلى الأرض” التي تخلص الكوكب من الغازات المسببة للاحتباس الحراري.

ووعيا منها بالأهمية الكبرى لهذه الفضاءات الطبيعية المميزة، اعتمدت عدة دول منذ العام 1971 اتفاقية “رامسار” للاستخدام المستدام والحفاظ على المناطق الرطبة، مما مكن اليوم من تصنيف أكثر من 2400 موقع حول العالم ضمن المناطق المحمية، وفق هذه الاتفاقية التي صادق عليها أكثر من 90% من الدول الأعضاء في الأمم المتحدة.

كما تخلد المنظمة الأممية في الثاني من فبراير/شباط من كل سنة “اليوم العالمي للأراضي الرطبة”، لإذكاء الوعي بأهمية وقف التدهور المتسارع لهذه الأراضي، وتعزيز صونها واستعادة ما فُقد منها.

فما هي إذن أبرز التحديات التي تواجهها الأراضي الرطبة حول العالم؟ وكيف تراجعت مساحتها في السنوات الأخيرة؟ وما هي الجهود المبذولة لإنقاذ ما بقي منها؟ وهل تستطيع البشرية استعادة المناطق الرطبة التي فقدت بفعل هذا التدهور الطبيعي المخيف؟

تقلص الأراضي الرطبة.. تدهور بفعل المناخ وبطش الإنسان

تمر جميع المناطق الرطبة حول العالم بفترة صعبة، بسبب التغيرات المناخية التي يشهدها الكوكب، فقد أدت إلى تراجع حجم التساقطات المطرية، وارتفاع درجات الحرارة، وتسارع وتيرة تبخر البحيرات والأنهار وغيرها، فالأراضي الرطبة هي كل وسط تغمره المياه كليا أو جزئيا سواء كان ذلك بصفة دائمة أو مؤقتة، وهو ما يجعل هذه الأراضي تفقد جميع خاصياتها في غياب الماء.

وتكشف الدراسات العلمية والأرقام الرسمية حجم الضرر الذي لحق هذه الأراضي الرطبة على مر السنين، فهي تختفي بوتيرة أسرع بثلاثة أضعاف مقارنة بالغابات، ويقدر برنامج “تقييم النظم البيئية للألفية” التابع للأمم المتحدة أن الأرض فقدت حوالي نصف مساحتها من الأراضي الرطبة على مدار القرن العشرين.

أراض رطبة موسمية (روضات) في دولة قطر تظهر بعيد المطر في بقاع كثيرة شمالا وجنوبا

فمع حلول عام 2000 كانت الأرض قد خسرت حوالي 85% من الأراضي الرطبة التي كانت موجودة سنة 1700. وتشير أرقام مؤتمر الأطراف المتعاقدة في اتفاقية “رامسار” إلى أن الأراضي الرطبة الطبيعية انخفضت في العالم بنسبة 35% منذ دخول الاتفاقية حيز التنفيذ قبل نحو خمسة عقود.

فقد تعرضت مثلا محمية “بانتانال” -حيث أكبر الأراضي الرطبة للمياه العذبة في العالم وأجملها وأغناها بأنواع الأحياء النادرة- لضغط كبير في السنوات الأخيرة، نتيجة النشاط البشري المكثف وتغير المناخ. كما فقدت هذه الأراضي -التي تغطي مساحات شاسعة من غرب البرازيل امتدادا إلى أجزاء من بوليفيا وباراغواي- أكثر من 55% من أشجار مناطقها المرتفعة، والتهمت الحرائق الهائلة سنة 2020 ما يقارب ثلث مساحتها، وقضت على عدد من الأصناف الحيوانية.

وأصبح اليوم مستقبل البشرية مرهونا بحماية موارد المياه العذبة المحدودة، وهي تشكل 2.5% فقط من إجمالي حجم المياه على كوكب الأرض، فهذه الموارد المهددة بالجفاف والتغيرات المناخية، ما زالت تتعرض لاستغلال مفرط، يضع مستقبل البشرية على المحك.

“رامسار”.. اتفاقية الحفاظ على المناطق الرطبة

أدى التدهور السريع للأراضي الرطبة إلى ارتفاع الأصوات المطالبة بالتدخل العاجل لإنقاذ الوضع، خصوصا مع بداية سبعينيات القرن الماضي، حين بدأ هذا التدهور يأخذ منحى خطيرا، سبق التغيرات المناخية والارتفاع الحاد لدرجات الحرارة الذي يعيشه الكوكب في الوقت الراهن.

وقد توجت الجهود العالمية في هذا الإطار سنة 1971، بتوقيع اتفاقية “رامسار” نسبة إلى المدينة الإيرانية الواقعة على شواطئ بحر قزوين، وكان ذلك بحضور ممثلي 18 دولة، واعتبرت الخطوة بداية التحرك بشكل رسمي للحفاظ على المناطق الرطبة والموارد المائية المرتبطة بها.

وقبل توقيع الاتفاقية، كانت الجهود في البداية موجهة بالتحديد نحو الحفاظ على الطيور المائية من خلال إنشاء شبكة من الملاجئ، ثم توسعت لتشمل حفظ جميع موائل الأراضي الرطبة، عوض التركيز على الفصائل.

وفي غضون 50 عاما ارتفع عدد الأطراف الموقعة على المعاهدة الدولية إلى 170 دولة، تضم 428 موقعا مصنفا وفق معايير “رامسار”، وتمتد على أكثر من 2.5 مليون كيلومتر مربع، أي ما يعادل مساحة أكبر من مساحة دولة المكسيك.

وتشمل شبكةُ مواقع المعاهدة الدولية جميعَ الأراضي الرطبة الساحلية والداخلية بجميع أنواعها، من بحيرات وأنهار، إلى أراضي العشب الرطبة والخث والواحات، وحتى المواقع الصناعية مثل أحواض السمك وحقول الأرز. وتنص مجالات تدخلها على العمل من أجل الاستخدام الرشيد لجميع الأراضي الرطبة المندرجة في القائمة الدولية، وضمان الإدارة الفعالة لها، وتعزيز التعاون على المستوى الدولي.

شبح الانقراض.. ثمار التلوث والجفاف وجور الاستغلال

تعد الأرض الرطبة السليمة من أكثر الأماكن وفرة من الناحية البيئية على سطح الكوكب، وتشكل موطن عيش مناسب لأكثر من 140 ألف نوع حي، أو ما يعادل أكثر من 40% من الأصناف الموجودة على الكوكب، و12% تقريبا من جميع الأصناف الحيوانية، خصوصا منها الأسماك التي توفر لها المياه العذبة ظروف نمو مواتية كالغذاء الكافي والأوكسجين ودرجات الحرارة الملائمة.

الأراضي الرطبة موئل الطيور المهاجرة عبر العالم

لكن هذه الأصناف الحيوانية والنباتية التي تعيش في المياه العذبة تعاني بسبب تدهور موائلها الطبيعية، وتتعرض للانقراض بسرعة أكبر، مقارنة بنظيرتها التي تستوطن اليابسة أو حتى البحار والمحيطات. وتشير مجموعة من الدراسات العلمية إلى أن ثلث التنوع البيولوجي في أراضي المياه العذبة يواجه خطر الزوال بصفة نهائية، نتيجة التلوث والجفاف والإفراط في الاستغلال، إضافة إلى المنافسة التي أصبحت تشكلها بعض الطفيليات والحيوانات التي تغزو الموائل الطبيعية وتلحق بها الأضرار.

فقد أصبحت أعداد من الحشرات مثل بعض أنواع الذباب واليعسوب، تواجه خطر الانقراض، وفق تصنيف “القائمة الحمراء للأنواع المهددة بالانقراض” الصادرة عن “الاتحاد الدولي للحفاظ على الطبيعة”.

وتشكل هذه الأراضي الرطبة أيضا مصدرا لغذاء الإنسان، من خلال زراعة الأرز التي تمتد على مساحات شاسعة، ويعتمد عليها مئات الملايين من الأشخاص حول العالم بوصفها طعاما رئيسيا، إضافة إلى استغلال النباتات التي تعيش فيها في الصناعة الطبية، فجزء مهم من النباتات الطبية المستخدمة حاليا -البالغة أكثر من 20 ألف نوع- يأتي من الأراضي الرطبة.

امتصاص الكربون.. أراضي الخث تتفوق على الغابات

توصف الأراضي الرطبة بأنها “كلى الأرض”، لأنها تلعب دورا رئيسيا في تخليص الكوكب من الكربون، وتساعد في مكافحة تغير المناخ الذي يؤرق بال العالم.

ووفق “برنامج الأمم المتحدة للبيئة” فإن الأراضي الرطبة قادرة على امتصاص الكربون أكثر من أي نظام بيئي آخر، وذلك بمعدل أسرع 50 مرة من الغابات الاستوائية، فالنباتات الموجودة مثلا في البحيرات، تمتص ثاني أوكسيد الكربون في الغلاف الجوي، ثم تقوم بعد ذلك بغمره في المياه الغنية بالرواسب، بينما تعمل الجذور على دفنه في الوحل بشكل أعمق.

وسلط تقريرُ “التوقعات العالمية للأراضي الرطبة” -الذي نشرته اتفاقية “رامسار”- أيضا الضوءَ على أهمية “أراضي الخث”، وهي عبارة عن ترب مشبعة بالمياه تضم مواد نباتية منحلة تراكمت على مدى فترات طويلة.

فهذه الأراضي الرطبة قادرة على تخزين ما لا يقل عن 30 % من الكربون الموجود في الأرض، وهو ضعف ما تخزنه جميع غابات العالم مجتمعة. ويتسبب جفاف “الأراضي الخثية” وتحويلها إلى الزراعة بشكل حصري، في انبعاث ما بين 5-10% من الغازات الدفيئة حول العالم.

وقد زاد هذا الدور المهم للأراضي الرطبة من ارتفاع الأصوات المنادية بإنقاذ ما بقي منها، لأن الكوكب مهدد باختلال توازناته وفقدان عنصر أساسي من وسائل الحفاظ على ظروف الحياة الطبيعية.

ورغم الجهود المبذولة في السنوات الماضية لتوفير مساحات جديدة من هذه الأراضي، فإن حماية تلك الباقية ذات الجودة العالية، يبقى أمرا أساسيا لقدراتها الكبيرة على خفض مستوى الكربون، وهو دور قد لا تلعبه الأراضي الرطبة المستعادة، إلا بعد مرور عقود من الزمن.

الأراضي الرطبة.. خط الدفاع أمام الفيضانات وأمواج تسونامي

لا تقتصر أدوار المناطق الرطبة على امتصاص الكربون، وتصفية الهواء من هذا العنصر المتسبب في الاحتباس الحراري فسحب، فهذه النظم البيئية للأراضي الرطبة تقوم بامتصاص المياه الزائدة، وتساعد على الوقاية من الفيضانات، كما تساهم في الوقت ذاته في الحد من تداعيات الجفاف، بفضل قدراتها على تخزين الماء.

دلتا النيل أرض رطبة مهددة بالجفاف

ويلعب الغطاء النباتي للأراضي الرطبة دورا رئيسيا في الحماية من الفيضانات، فأشجار “المانغروف” مثلا المعروفة بجذورها الرقيقة والطويلة تُتخذ حواجز ضد التعرية وتسرب المياه المالحة وانجراف التربة. وتعزز أيضا هذه الأشجارُ وغيرها من أنواع الغطاء النباتي في الأراضي الرطبة تماسكَ ضفاف البحيرات والأنهار والشواطئ. ولكن هذه الخاصيات تراجعت مع الأسف في السنوات الماضية بسبب تدهور الأراضي الرطبة، وتشير دراسات علمية إلى أن قدرة هذه الأراضي في بعض بلدان البحر الأبيض المتوسط على الحماية من الفيضانات، انخفضت بحوالي 20% بين 1987-2016.

ويمكن أيضا للأراضي الرطبة وغطائها النباتي أن يشكلا حاجزا أمام العواصف والرياح، وحتى أمواج “التسونامي” التي يمكن أن تضرب السواحل نتيجة الزلازل، بفضل أشجار “المانغروف”، وهي تعتبر من الأشجار النادرة التي تنمو حتى في المياه المالحة، بالإضافة إلى الشعاب المرجانية التي تشكل خطوط الدفاع الأولى للسواحل.

اتفاق مونتريال.. معاهدة السلام مع الطبيعة

ما زالت الآمال معقودة في الوقت الراهن على تحرك عالمي لإنقاذ الأراضي الرطبة ومعها التنوع البيولوجي الذي توفره. فقد أعطى التوقيعُ نهاية سنة 2022 في مونتريال بكندا على الاتفاق الذي توصل إليه المؤتمر الـ15 للأطراف حول التنوع البيئي؛ جرعةً أخرى من التفاؤل بمستقبل أفضل.

أشجار “المانغروف”ذات الجذور الرقيقة والطويلة والتي تعمل كحواجز ضد التعرية وتسرب المياه المالحة وانجراف التربة

وقد وُصف اتفاق “كونمينغ-مونتريال” الذي وقعت عليه 190 دولة بالاتفاق التاريخي؛ فهو بمثابة “معاهدة سلام مع الطبيعة”، ويضاهي من حيث أهدافه اتفاق باريس للمناخ، فهو يطمح لحماية 30% من أراضي الكوكب ومحيطاته بحلول العام 2030، مقابل فقط 17% من الأراضي و8% من البحار، تحظى بالحماية حاليا.

وستخصص لهذا الغرض 20 مليار دولار على الأقل من المساعدات للدول النامية بحلول 2025، و30 مليار دولار في أفق 2030، لدعم جهودها في صون المحيطات والأراضي، وعلى رأسها المناطق الرطبة.

جائزة الأراضي الرطبة.. مكافأة تحفيزية للمحافظين على البيئة

وضع مؤتمر الأطراف المتعاقدة في اتفاقية “رامسار” بشأن الأراضي الرطبة جائزة منذ 2018، لتشجيع المدن في جميع أنحاء العالم على العمل الجاد، للحفاظ على المناطق الرطبة الموجودة على أراضيها والتعامل معها بشكل مستدام، ويُشرط من أجل الحصول على الاعتماد، أن تزيد نسبة الأراضي الرطبة عن 10٪ في المنطقة، وأن لا يقل معدل حماية الأراضي الرطبة عن 50٪ في المدينة المعنية.

وتضم اليوم قائمة المدن التي حصلت على جائزة الأراضي الرطبة 43 مدينة حول العالم، من بينها 13 مدينة صينية، انضمت منها 7 مدن دفعة واحدة في التصنيف الماضي الذي أعلن عنه تشرين الثاني/نوفمبر 2022، لتصبح بذلك الصين الأولى عالميا.

وتمتلك الصين حاليا 64 منطقة رطبة ذات أهمية دولية، وأكثر من 1600 متنزه للأراضي الرطبة. وتحتل مدينة سوتشو بمقاطعة جيانغسو المركز الأول، وتشتهر بتوفرها على أكثر من 300 بحيرة وعشرات الأنهار.

غار الملح وإفران.. مدائن العرب في المعاهدة الدولة

في العالم العربي نجد مدينتين فقط ضمن هذا النادي الضيق لمدن الأراضي الرطبة، وهما مدينة إفران المغربية وغار الملح التونسية.

فقد حصلت إفران الواقعة في قلب جبال الأطلس المتوسط ​​بالمغرب، على الجائزة في تصنيف العام 2022، اعترافا بالتزامها بحماية أراضيها الرطبة الحضرية، خصوصا منها الأنهار والبحيرات، علما أنها تحتوي على 300 هكتار من الأراضي الرطبة الطبيعية، بما في ذلك 4 أراض مصنفة دوليا كمواقع “رامسار”.

الصين صاحبة أكبر عدد من الأراضي الرطبة ذات الأهمية الإيكولوجية

وقد أصبحت إفران بذلك ثاني مدينة عربية وشمال أفريقية تدخل قائمة مدن الأراضي الرطبة، بعد مدينة غار الملح بولاية بنزرت شمال العاصمة تونس، التي أدرجت في القائمة منذ عام 2018.

وتحظى هذه المدينة التونسية بإرث ثقافي وطبيعي مهم، وتحتوي على بحيرة غار الملح الساحلية المصنفة دوليا، ويقود فيها الصندوق العالمي لحماية الطبيعة مشروعا كبيرا لإنشاء نظام متكامل لإدارة الموارد، وتدبيرها بشكل فعال، من أجل المساهمة في التنمية الاجتماعية والثقافية والبيئية للمنطقة.