“النجوم المتفجرة”.. يابانيون يطاردون أطياف أحبابهم من ضحايا تسونامي

يخرج الياباني الذي تجاوز قليلا منتصف العمر كل يوم تقريبا إلى البحر القريب على بيته، يقف أمام البحر ويتأمله لدقائق قبل أن يلبس بدلة الغطس، ثم ينزل بعدها لأعماق البحر.

هذا الرجل الياباني يقدمه الفيلم الوثائقي “كل دقات قلوبنا متصلة من خلال النجوم المتفجرة” (All of our Heartbeats are Connected Through Exploding Stars)، وليس ما يقوم به في أعماق البحر وظيفة أو شغفا، بل هو يبحث منذ سنين عن زوجته التي اختفت في كارثة تسونامي في عام 2011، فقد أعقب ذلك الزلزال الذي بدأ في البحر، ثم وصلت آثاره أمواجا دمرت مدنا ساحلية يابانية.

ضحية تسونامي.. غوص للبحث عن النصف الآخر

لم يتسلل اليأس بعد إلى روح هذا الزوج المخلص، فبعد أن تبين أن العثور على زوجته التي اختفت مع مئات غيرها في يوم تسونامي أصبح ضربا في المحال، قرر أن يغير دفة حياته كلها، ويتعلم الغطس في البحر، ويخرج كل يوم تقريبا يفتش عن آثار زوجته الحبيبة.

ترافق كاميرا الفيلم الذي أخرجته السويدية “جينيفر رينفورد” الزوج الياباني وهو يغوص في أعماق البحر القريب، ويسجل الفيلمُ في مشاهد مفاجئة في عاطفيتها جسدَ الرجل النحيف وهو يتحرك بين صخور بحرية، أو عندما كان يوجه مصباحه اليدوي على حفر ظلماء.

وعندما يتحدث هذا الزوج المخلص يأتي صوته خافتا كحال عدد من اليابانيين، ويتذكر اليوم الذي سمع فيه بالزلزال ثم تسونامي، ومشاعره عندما شاهد بيته المدمر بالكامل واختفاء الزوجة، وبعدها الفترة التي قضتها فرق الإنقاذ في البحث عن زوجته وغيرها من المفقودين.

يستحضر الزوج ذكريات عن زوجته الطيبة، وقصة حبهما العميقة غير الصاخبة، والعلاقة التي توطدت بينهما إلى الحد الذي لم يعد يمكنهما فيه العيش بعيدا عن بعضهما.

يبدو غطس الزوج المحب بحثا عن زوجته كأنه رحلة إلى جوهر الحب الذي ربطهما يوما، ولم يعد فقط بحثا عن جثة، بل كناية عاطفية تتجدد كل يوم عن الوفاء والإخلاص.

“هناك رائحة غريبة في البحر”.. مأساة ما بعد الكارثة

تبحث المخرجة عن نماذج وظواهر تنسجم مع المقاربة الشاعرية الحسية التي أخذها للفيلم، والتي تقترب من التأمل، وهذا يصل إلى زوايا التصوير غير المألوفة، والمشاهد التي أُبطئت حركتها لتتناغم مع الرؤية التأملية للفيلم، أو تلك المشاهد التي تُصوّر وحدة الشخصيات في حياتها بعد مأساة فقد أحباب لها.

يتوخى هذا العمل الوثائقي أن يربط بين الطبيعة التي نكاد في حياتنا العصرية أن ننساها أو نتعامل معها بلا مبالاة، وبين أرواحنا وقلوبنا، لذلك اختارت المخرجة اسم هذا الفيلم الشاعري الذي ستترجمه كثيرا في مشاهد بروحها وطموحها.

تختار المخرجة يابانيين مروا بكارثة تسونامي، لكنها لا تقارب حياتهم بتقليدية، بل تبحث معهم عن الآفاق والكوابيس التي تكشفت لهم بعد المأساة، ومن شخصيات الفيلم امرأة في نهاية العشرينيات كانت فتاة صغيرة وقت تسونامي، وفقدت صديقات لها كثرا في الكارثة.

الزوج الياباني المخلص يبحث عن زوجته في أعماق البحر

يطارد هذه الفتاة شعور الذنب المتأتي من نجاتها هي، بينما ماتت رفيقات لها، هذا الشعور بالذنب يرافق ناجين كثرا ويربك حياتهم، كما يفعل مع شخصية الفيلم هذه، فقد أصبحت منعزلة لا تكاد تخرج من منزلها.

تقول المرأة اليابانية الشابة “هناك رائحة غريبة في البحر”، وعندما تخرج إلى البحر تبقى قريبة جدا من اليابسة، وبدا أنها ما زالت بعيدة جدا من طي صفحة الكارثة الطبيعية.

“لم تكن هذه الخطة.. كان المفروض أن نشيخ سويا”

يقترب الفيلم من الحزن الدفين الذي يحمله يابانيون فقدوا أحبابا لهم في الكارثة الطبيعية، هناك حزن يلف الحياة اليومية للشخصيات في الفيلم وخاصة النسائية، مثل تلك المرأة التي تجاوزت الستين من العمر، والتي ترافقها الكاميرا وهي تمارس أعمالها اليومية، فتقول وهي تتذكر زوجها من حديقة بيتها الريفي المنعزل “لم تكن هذه الخطة.. كان المفروض أن نشيخ سويا”.

تعلق الزوجة صورا لزوجها على طاولتها الصغيرة، وتتذكر رائحته وطيبته وحياتها الهادئة في القرية.

مرت عشر سنوات على الفاجعة، بيد أن السنين المنقضية زادت من وحدة الشخصيات لغياب شركائها وأزواجها في مجتمع متحفظ بطبعه، ويجد كثير من أفراده صعوبات جمّة في العثور على شريك الحياة المناسب.

نفايات تسونامي.. متطوعون ينظفون ما بعد الزلزال المدمر

يراقب الفيلمُ في مشاهد طويلة العملَ اليومي لفريق دولي جُلُّه من الأوروبيين، ينظفون الشواطئ القريبة من الموقع الذي ضربه تسونامي المدمر. لقد زلزل تسونامي في دقائق قليلة النظام البيئي في المنطقة، وسحبت أمواج البحر أطنانا من المواد المتنوعة من القرى التي دمرها تسونامي إلى داخل البحر. وعلى الرغم من وجود عشر سنوات تفصلنا عن الكارثة الطبيعية، فإن أكوام النفايات ما زالت تطوف في البحر، وأحيانا ترجع إلى اليابسة.

نفايات من تسونامي ما زالت تطوف في البحر

تسجل الكاميرا العمل اليدوي للمتطوعين الذين يعزلون النفايات عن بعضها، ويفكون بصبر كبير النفايات التي التصقت مع بعضها. وكحال عدد من مشاهد هذا الفيلم التأملية، يُغلف الفيلم مشاهد تنظيف الساحل من النفايات بطبقة من العاطفية المؤثرة، خاصة عندما تتنقل الكاميرا على سحنات المتطوعين الآتين من دول متنوعة، وجمعهم حب هذه الأرض التي يقترب بشر آخرين من تدميرها، بسبب جشعهم وأنانيتهم أو عدم مبالاتهم.

عادت الطبيعة بعناد إلى المناطق المتضررة التي ضربها تسونامي، بل إنها تغللت إلى جزر النفايات البلاستكية نفسها التي نمت فيها نباتات، فما إن يتوقف الإنسان عن التدخل، حتى تصلح الطبيعة نفسها وتستعيد هيمنتها.

يحتفل الفيلم بالطبيعة التي يصورها من زوايا مبتكرة أو بتركيز لافت، كحال المشاهد التي صور بها كائنات صغيرة تعيش دورة حياتها على الموقع الذي شهد ثورة الطبيعة قبل 11 عاما.

تحطيم القلب والخرف.. آفات تفتك بضحايا الكوارث

يستعين الفيلم ببحوث علمية سابقة ويوظفها ضمن مناخاته المعبرة، فيتناول البحث العلمي الذي يقول إن هناك عارضا صحيا اسمه “تحطيم القلب” اكتشف عام 1990، ويشيع بين النساء اللواتي يمررن بتجارب عاطفية تعيسة، أو يشهدن على كوارث طبيعية أو حروب.

يتنقل الفيلم في مشاهد بين شخصياته التي ربما تعرضت إلى عارض تحطيم القلب الذي أُثبت علميا. كما يتناول بحثا علميا آخر يقول إن الكوارث الطبيعية تزيد من احتمالات الإصابة بالخرف المبكر، إذ أن الدماغ -في رد فعل طبيعي- يتقلص لكي يساعد صاحبه في نسيان الذكريات المؤلمة التي يشهدها، وهذا قد تكون له نتائج مضاعفة عند بعض الناس، ويزيد من فرص الإصابة بفقدان الذاكرة عندهم.

إحدى شخصيات الفيلم التي فقدت عائلتها خلال الزلزال المدمر الذي ضرب اليابان

يعرض الفيلم مشاهد لدماغ ياباني تحت المجهر الطبي، وكأنه لوحة تشكيلية نابضة بالحياة، ينبض ويتغير ويتقلص مثل خلية تدافع بشراسة عن نفسها.

قاع المحيط.. مشاهد مبهرة بميزانية متواضعة

تملك المخرجة “جينيفر رينفورد” طموحات فنية كبيرة، فتصور في مياه المحيطات، وهو أمر لم تعتده الأفلام الوثائقية ذات الميزانيات الصغيرة كحال هذا الفيلم، فقد اعتدنا أن تقف مؤسسات إعلامية كبيرة وراء أفلام الطبيعة، مثلما تفعل هيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي” في أفلامها الشهيرة.

أنجزت المخرجة وفريق العمل بحوثا معمقة في موضوعة علاقة الطبيعة بالبشر، وكيف أن هذه العلاقة تحدد حالنا اليوم ومستقبلنا. يصور الفيلم في هذا الخصوص كائنات بحرية مجهولة من مكان حياتها تحت مياه المحيط، ويشرح أن هذه النباتات والكائنات تخزن الهواء الذي تحصل عليه، وتعود لبثه مرة أخرى لكي يصل إلينا على اليابسة.

كما تصور كاميرا الفيلم وتقترب كثيرا من قاع المحيط الذي تعيش على سطحه كائنات لا نعرف معظمها حتى اليوم، بيد أن هذه الكائنات تشكل حلقة مهمة في دورة الطبيعة المهمة.

روح الفيلم.. همس حميمي يلامس وجدان الشعب الياباني

تقترب مقاربة الفيلم من الهمس الحميمي الذي ينسجم من جهة مع طبيعة المجتمع الياباني المقتصد بعواطفه وكلماته، فهو لا يبوح بعواطفه بسهولة، فعندما يبوح الرجل الذي تعلم الغطس للبحث بأنه رأى زوجته بالحلم، وأنه عرفها رغم أن الظلام كان يغطي وجهها، فحينها نعرف أن هذا الرجل تمكن منه الحزن والفراق.

وكذلك حال المرأة الشابة التي كشفت أنها أنهت علاقتها مع حبيبها بعد الكارثة الطبيعة، لأن حياتها تزلزلت هي الأخرى، ولم تعد المرأة نفسها التي كانت قبل تسونامي، وأنها تخاف كثيرا من تسونامي جديد ربما يحدث في المستقبل القريب.

ولعل المشاهد العاطفية التي تسجل يوميات فريق متطوع لتصليح الصور الفوتوغرافية القديمة التي وصلتها مياه البحر؛ تختصر بجمال كبير روح هذا العمل الوثائقي الخاصة، إذ تظهر تلك المشاهد نساء يابانيات يعملن بهدوء كبير على تصليح مئات من الصور الفوتوغرافية التي تأثرت بسبب تسونامي.

بصبر كبير تمر أيادي فريق المتطوعات على صور خزّنت ذكريات عزيزة ليابانيين ربما فارقوا الحياة هم أنفسهم، كما سيقابل الفيلم امرأة كانت فرحة للغاية لأن صورة قديمة لها مع زوجها من زيارتها الوحيدة للعاصمة الفرنسية باريس قد أنقذت، وصار بإمكانها تذكر ذلك السفر السعيد.