“القبعات البرتقالية في تركيا”.. يوميات فريق إنقاذ هولندي بين أنقاض الزلزال

يسأل عضو فريق الإنقاذ الهولندي امرأة كانت تقف بجانبه “هل هذا أخوك؟”، بينما كان يشير في الوقت نفسه إلى فتحة في الأرض فُتحت للتو، وظهر منها كتف ويد غلام صغير عمره أقل من عشر سنوات.

صرخت المرأة باسم الطفل إبراهيم، وسنعرف لاحقا أن هذه المرأة هي جارة للفتى، وأنها فرحت برؤيته حيّا كأنه فرد من عائلتها. يكمل الهولندي الحديث للمرأة إلى جانبه بلغة إنجليزية لم تفهمها: سنحاول أن نخرجه من تحت الدمار، لكنني لا أستبعد أننا سنكون مضطرين لقطع يده لأنها محشورة تحت قطعة خرسانة كبيرة.

هذا واحد من المواقف الحرجة الحاسمة التي نقلها الفيلم الوثائقي الهولندي “القبعات البرتقالية في تركيا” (Oranje Helmen in Turkije)، وهو يتابع فريق إنقاذ هولندي شارك في عمليات الإنقاذ في تركيا، بعد الزلزال المدمر الذي حدث في فجر السادس من فبراير/شباط الجاري.

“أرجوكم اذهبوا في هذا الاتجاه”.. صرخات المنكوبين

لن يكون خيار قطع يد الفتى التركي المذكور أو محاولة إنقاذه بدون قطع اليد هو أصعب مواجهة يواجهها فريق الإنقاذ في مهمتهم التي استمرت بضعة أيام، بل إنهم واجهوا عددا من المعضلات الشديدة الصعوبة، بدأت بمجرد أن حطوا أقدامهم في مدينة هاتاي التركية التي ستكون مركزهم أثناء مهمتهم.

كانت المرأة التركية المفجوعة تصرخ بتوسل على فريق الإنقاذ: “أرجوكم اذهبوا في هذا الاتجاه”، فهي كانت تريدهم أن يذهبوا إلى بيتها المدمر، بيد أن الفريق الهولندي وغيره من فرق الإنقاذ التركية أو الأجنبية التي وصلت إلى تركيا بعد الزلزال كانوا يملكون خططهم الخاصة التي بنيت على معطيات وخبرات سابقة، ولا يمكنهم تغيير وجهاتهم مع كل صرخة توسل، وما أكثرها بعد الزلزال، كما ظهر في الفيلم.

“إنه أمر مؤسف ومزعج أن ننتظر كل هذا الوقت”

يبدأ الفيلم الوثائقي خطا زمنيا تكون بدايته بعد ساعات من سماع خبر الزلزال التركي المدمر الذي سنسمع صوت المذيع التلفزيوني الهولندي يذكره كخبر رئيسي في نشرة الأخبار.

طلبت السلطات التركية مساعدة من دول غربية، كما يخبرنا أحد العاملين في فريق الإنقاذ الهولندي الذي يحمل اسم “القبعات البرتقالية”، بينما لم تطلب الحكومة السورية المساعدة الهولندية، رغم أنها وصل إليها الزلزال المدمر أيضا، وقد كان يمكن لها أن تحصل على المساعدة الغربية -كما يخبرنا العامل نفسه- رغم تعقيد الوضع في سوريا، والعقوبات الدولية المفروضة عليها.

نفهم من افتتاحية الفيلم أن أعضاء فريق الإنقاذ لديهم أعمالهم الأخرى في الحياة اليومية، وأن ما يقومون به في فريق الإنقاذ هو عمل تطوعي، فمنهم من يعمل في المجال الطبي، وهناك من يعمل في البناء، وقد جمعت هؤلاء الهولنديين الرغبة في المساعدة تحت مظلة فريق الإنقاذ الذي أصبح ذا سمعة دولية.

يجتمع الفريق في مدينة إيندهوفن الهولندية للطيران إلى تركيا، بيد أن الفوضى التي سببها الزلزال في تركيا ستجعل رحلة الطيران طويلة ومتطلبة كثيرا.

يحتاج الفريق الهولندي تصريحا خاصا لإدخال معداتهم الخاصة، وهذا سيتأخر كثيرا، كما ستتأخر الطائرة التركية المحلية التي كان يفترض أن تنقلهم من مدينة عدنة إلى وجهتم النهائية في هاتاي.

هولندي من أصول تركية عمل كمترجم في المهمة الإنسانية في تركيا

تمر الكاميرا على فريق الإنقاذ وهو يفترش الأرض في المطار بانتظار رحلته الثانية داخل تركيا، ثم يتحدث أحد العاملين في الفريق قائلا: إنه أمر مؤسف ومزعج أن ننتظر كل هذا الوقت. هناك جوانب سيئة من انتظار طويل كهذا، فالفريق ربما يفقد شيء من حماسه، وهذا يعني عملا أقل جودة.

“عندما لا ينبح الكلب”.. قرارات فريق الإنقاذ الصعبة

يقول عضو من الفريق الهولندي للمرأة التركية الجزعة التي كانت بجانبه: “عندما لا ينبح الكلب، فهذا يعني أن لا أحد على قيد الحياة تحت الأنقاض”، بيد أنها لن ترضى بجوابه، وسترد أن أمها وأباها وعائلتها كلها تحت الأنقاض، وأنها تشعر بأنهم ما زالوا أحياء.

واجه فريق الإنقاذ الهولندي مواقف كهذه طوال فترة وجودهم في المنطقة المنكوبة، إذ يتشبث الناجون بأي أمل، ويتوسلون فرق الإنقاذ للبحث عن أحبائهم، وحتى عندما يتبدى أن هناك أحياء تحت الأنقاض، كان يتوجب على فرق الإنقاذ اتخاذ قرارات حاسمة، إذ عليهم أن يقدروا إمكانية إنقاذ أحياء تحت بنايات هدمت بالكامل، ودراسة ما إذا كانوا يستطيعون في الوقت القصير الذي يملكونه الحفر إلى مكان هؤلاء الناجين الذين هم محصورون تحت أمتار عدة من الخرسانة المسلحة.

ينقل الفيلم في هذا الخصوص حوارا طويلا بين هولنديين كانا ينبطحان على أطراف بناية مدمرة بالكامل، كان الهولنديان يتناقشان حول ما إذا كان من الحكمة صرف ساعات طويلة، وربما أيام لإنقاذ أحياء تحت هذه البناية، أو صرف وقتهم بشكل أفضل، وإنقاذ عدد أكبر من الناجين من الذين لا يتطلب إنقاذهم بذل الكثير من الوقت والجهد.

الفريق الهولندي في طريقه إلى تركيا للمساهمة في إنقاذ الأرواح بسبب الزلزال المدمر

بالتأكيد لم يعجب القرار الذي اتخذه فريق الإنقاذ أهل الضحايا الذين كانوا على مقربة من الهولنديين، وأحسوا أن فريق الإنقاذ سوف يترك بنايتهم، فبدأ البكاء والصراخ.

قصص الإنقاذ.. دموع وصرخات ونهايات غير سعيدة

بينما كانت تناقش زميلها في الحادثة المذكورة آنفا، تقول هولندية تعمل ممرضة في بلدها: سوف أصرخ وأبكي على النحو نفسه، وسوف أغضب من فريق الإنقاذ كما فعل هؤلاء الأتراك إذا كنت مكانهم، إذا كنت أعرف أن هناك فرصة لإنقاذ أهلي من الموت.

تستجيب كاميرا الفيلم لأحداث وتطورات متواصلة على الأرض، فحين ينبح كلب الفريق، يبدأ هولندي من الفريق بحفرة في جدار، والتي ستكون كافية لإخراج أحياء كانوا ينتظرون على الجانب الآخر من الجدار.

لم تنتهِ جميع قصص الإنقاذ بنهايات سعيدة، إذ سجلت الكاميرا مثلا عجز فريق الإنقاذ عن إخراج امرأة حشرت تحت طبقات من الخرسانة، فرغم أن أحد أعضاء الفريق كان يمسك يدها، وبدت قريبة كثيرا، فقد توفيت أمام الكاميرا بسبب الإصابات الكثيرة، ولعدم قدرة جسدها على التحمل.

تتكرر في الفيلم مشاهد لأتراك كانوا يلجؤون إلى الفريق الهولندي وطلب المساعدة في تخليص أحباب لهم من سجون الخرسانة التي كانوا محبوسين بينها أو تحتها، مثل الفتاة الشابة التي كانت تعدد بجزع كبير أفراد عائلتها الذين كانوا تحت الأنقاض، بينما يحاول أحد أعضاء الفريق الشرح لها بأن الأمل في العثور عليهم أحياء شبه معدوم، لأنهم فحصوا الموقع، ولم يعثروا على إشارات للحياة هناك.

“دعوت في صلاتي أن ننقذ اليوم أكبر قدر من الأحياء”

لعل قيمة الفيلم تكمن في التفاصيل التي لم يقترب منها فيلم وثائقي من قبل، فهي تُترك بالعادة للتغطيات التلفزيونية التي تستجيب بشكل أسرع إلى الكوارث والأحداث الكبيرة، إذ يبين الفيلم الصعوبات الجمة التي تواجه فرق إنقاذ بعد كوارث كبيرة، وعندما يكون حجم الكارثة أكبر بكثير من قدرة الدولة أو المؤسسات على التعامل معها.

عمل الفريق الهولندي طوال الليل والنهار للبحث عن أحياء تحت الأنقاض لإنقاذها

يقترب الفيلم من أعضاء فريق الإنقاذ، ويحاول أن ينقل هواجسهم ومشاعرهم، كما يقدم نماذج ملهمة، مثل الهولندي المسلم محمد الذي كان متلهفا جدا للوصول إلى تركيا ومساعدة الناس هناك، ونراه في مشهد جميل وهو يبدأ يومه بالصلاة قرب زملائه بينما يتناولون إفطارهم، ثم يقول لكاميرا الفيلم متأثرا: دعوت في صلاتي أن ننقذ اليوم أكبر قدر من الأحياء، وأن يخفف الله تعالى الآلام على الناس.

عواء الكلاب.. أصوات تبعث الفرحة في القلوب

يحفل الفيلم رغم المأساة باللحظات والمواقف الملهمة، وخاصة عندما ينجح الفريق في إخراج أحياء، فقد بدا بعضهم في صدمة كبيرة، مثل تلك الطفلة التي كانت ترتجف بالكامل من برد المكان، وقلة الغذاء تحت الأنقاض، حيث بقيت ليومين كاملين، وكذلك كانت أمها التي أخرجت حيّة أيضا.

يبرز الفيلم دور الكلاب الخاصة في عمليات إنقاذ الناجين تحت الأنقاض، إذ أنها تشم وتشعر بالأحياء تحت الأنقاض، وتبدأ بالعواء، وهو الصوت الذي صار محببا للجميع، وغياب الصوت يبث القنوط بين الناس الذين كانوا ينتظرون إشارة ما عن أحبابهم.

تخرج عضوة في الفريق الهولندي في جولة مع كلاب الفريق، وتفرح عندما يلعب أطفال من الحي مع الكلاب، كما تضمد الهولندية ذاتها جراح كلاب الإنقاذ، إذ أنها تتعرض هذه حالها حال البشر إلى أخطار الوجود في مواقع مر عليها الزلزال، حيث يمكن أن ينهار البناء المترنح في أي دقيقة، ويقتل أو يجرح الموجدين تحتها أو قربها.

جماليات التصوير.. لحظات إنسانية ولقطات معبرة في وقت قياسي

يشكل الفيلم الذي أنتجه التلفزيون الهولندي الرسمي استجابة وثائقية موفقة لحدث سريع (صُوِّر الفيلم وعُرض خلال أسبوع)، إذ أن الفيلم يذهب أبعد بكثير مما تصل إليه التغطيات التلفزيونية على حدث هائل مثل الزلزال في تركيا وسوريا، وذلك لجهة الوقت الذي يمنحه العمل الوثائقي لشخصياته، والبحث عن نماذج تختزل المأساة التي ينقلها الفيلم.

كما يبحث الفيلم عن جماليات معينة عبر المشاهد التي صُوِرت من الجو، فقد أصبحت ممكنة وسهلة وسريعة بفضل طائرات “الدرون” (بدون طيار)، وأيضا في المشاهد التي تظهر الخراب غير المسبوق.

تتجول الكاميرا في شوارع كانت تنبض بالحياة قبل السادس من فبراير/شباط، لكنها تحولت في ثوان فقط إلى أطلال، وكأن حربا عنيفة مرت عليها ودمرت معمارها وشردت سكانها.

يختم هولندي من فريق الإنقاذ الفيلم الوثائقي بفكرة تشغله وتنغّص وقته، فهو سعيد بعودته إلى بلده وعائلته وحياته المستقرة بعد انتهاء المهمة، لكنه على الجانب الآخر يشعر بالحزن الشديد على مئات الآلاف من الأتراك وربما أكثر، ممن لا يزال مصيرهم مجهولا، أو لا يزالون يبحثون عن ملجئ يأويهم في ظروف جوية قاسية.