“الليل القطبي”.. تقنيات الصيد والبقاء في موسم الظلام الدامس

6

تفرض الشمس سطوتها على أقصى شمال أوروبا صيفا، لكن الشتاء طويل ومظلم، ومع ذلك فإن النباتات والحيوانات تتحمل بشجاعة شهور الظلام والبرودة الشديدة، حتى إن بعضها يجد في الشتاء راحته. الخطر المهلك والجمال الجليدي يتجاوران في الليل القطبي.

ضمن سلسلة “في أقاصي الشمال” التي بثتها الجزيرة الوثائقية، نستعرض فيلم “الليل القطبي” الذي يظهر لنا صورة ساحرة للمنطقة القطبية، حيث يتناوب الضوء والظلام الأبديان على تحدي الحياة الحيوانية والنباتية، مما يجعل هذه المنطقة واحدة من أكثر البيئات قسوة على كوكب الأرض.

موسم جمع الزاد.. اعتدال خريفي يعِد بليل طويل

يبدأ الخريف عندما يتساوى الليل والنهار في الطول، وفي أقصى شمال أوروبا تنخفض الشمس في السماء وتتمدد الظلال، ومع مرور الوقت يقصر النهار أكثر فأكثر.

ولكن قبل أن يُخيّم الظلام المطبق على الدائرة القطبية، تجود الطبيعة بثمار النهار الصيفي الطويل. وتأتي وفرة الطعام في الوقت المناسب تماما لحيوانات الغابة؛ فالدبة الأم تحتاج إلى كثير من السعرات الحرارية لتكون قادرة على تزويد صغارها بما يكفي من الحليب، وعليها أن تلتهم المزيد كي يخزن جسمها الدهون اللازمة من أجل السُبات الشتوي الوشيك، فهي تنكب على الأكل بلا هوادة، فتكتسب ما يصل إلى ثلاثة كيلوغرامات في اليوم.

مع حلول الشتاء في نصف الكرة الأرضية الشمالي يوم 21 ديسبمر/كانون أول، يغرق القطب الشمالي في ظلام دامس

وبحماسة تُقلّد الصغار أمها، فتتعلم أثناء ذلك كيفية العثور على طعامها، وتظل بقرب أمها آمنة تحت حمايتها، إذ لم يبق أمامها سوى أسبوعين لتتغير قبل أن تلجأ إلى كهفها للسُبات.

من جهة أخرى، يُخزّن السنجاب مؤونته، لأنه سيظل مستيقظا طوال الشتاء، وسيحتاج إلى الطعام بشكل متكرر. كما يُخزّن الطائر أبو زريق السيبيري (قيق أوراسي) الطعام أيضا، وهو أحد الطيور القليلة التي تقضي الشتاء بأكمله في الشمال.

مراعي الصيف ونباتات الماء.. طعام اللحظات الأخيرة

في آخر شهر سبتمبر/أيلول تتناقص ساعات سطوع الشمس، ويكون الخريف قصيرا في المنطقة القطبية. لقد اقتاتت الرنة جيدا في مراعيها الصيفية، لأن على خيرات الخريف أن تُسهم في ملء ما بقي من مخازن الدهون الشتوية في أجسامها، إذ سيتغير الطقس قريبا، وعندما سينفد كل ما يصلح للأكل في المنطقة، وسيتعين عليها التحرك.

البحيرات الإسكندنافية توفر للبجع الصدّاح الكثير من التوت البري طعاما

وتزخر البحيرات الإسكندنافية أيضا بالطعام، فهي تُوفّر للبجع الصدّاح كل ما يحتاج إليه؛ فعلى شواطئها يمكن إيجاد الكثير من التوت البري.

أما في البحيرات، فالنباتات المائية هي طعام البجع المفضل، ولكن بمجرد أن تتجمد البحيرات تُعزل تلك الطيور عن مصدر غذائها، ويتعين عليها مغادرة مقرها الصيفي، كحال جميع الطيور المتكاثرة في المنطقة القطبية، فتهرب من البرد والظلام، تاركة عالم الشتاء لخبراء البقاء على قيد الحياة في هذه الظروف.

حلول الشتاء.. سبات وظلام مطبق يعم الشمال

في أوائل أكتوبر/تشرين الأول، تنخفض درجات الحرارة إلى نقطة التجمد، ويصل الشتاء سريعا ومبكرا في البلاد القطبية، ومع اقتراب درجات الحرارة من الصفر، تتحول قطرات المطر إلى كرات من الثلج تملأ المكان شيئا فشيئا، لتختفي كل أشكال الحياة.

يسود الغابات الصمت، وتغط الدببة البنية في سُباتها، وتلازم كهوفها نحو 7 أشهر، فتوفر طاقتها عن طريق إبطاء ضربات قلبها وخفض درجة حرارة جسمها، وتتكل حصريا على احتياطات جسمها من الدهون. تلك هي طريقتها في اجتياز الشتاء الشمالي القاسي.

حين يحل الشتاء ويسود الغابات الصمت، تغط الدببة البنية في سُباتها، فتلازم كهوفها نحو 7 أشهر

لكن الفصل البارد ليس كله ظلاما وثلوجا وقسوة؛ ففي أيام الصحو، عندما تلوح شمس الشتاء في الأفق، تتحول المناظر الطبيعية إلى جواهر متلألئة. وقلة قليلة من الطيور المُغرّدة تبقى في الشمال القطبي على مدار العام، من بينها طيور الخداش المبذول الملونة، والحسّون الناري القطبي، إنها قادرة على احتمال المناخ القاسي وإيجاد كفايتها من الغذاء.

وفي أقاصي الشمال، يغرق القطب الشمالي نفسه في ظلام مطبق منذ أواسط شهر أكتوبر/تشرين الأول. لكن باتجاه الجنوب يقصر النهار بسرعة أيضا، أما في الدائرة القطبية فلا تطلع الشمس إلا لمدة 8 ساعات، لقد ولّت أيام الخريف الذهبية، وآن أوان التحولات الجذرية.

حيوانات الرنة تمتلك عيونا حساسة يتغير لونها من البني الفاتح صيفا إلى الأزرق الداكن شتاء

آن للرنة أن تتحرك، فقد تكيفت بشكل مثالي مع الحياة في البرد والظلام، وحتى خلال أشد الشتاءات الإسكندنافية جدبا، يظل بإمكانها إيجاد كفايتها من الغذاء للبقاء على قيد الحياة، ولكن عليها المضي في مسير طويل لتبلغ غايتها. ففي نوفمبر/تشرين الثاني، تحتشد المجموعات المتفرقة مكونة قطعانا ضخمة، وعند لحظة معينة تبدأ الهجرة الجماعية إلى مراعيها الشتوية.

أضواء الشمال.. آخر خيوط الشمس في موسم الظلام

تحدث الظواهر المتطرفة الفصلية في المناطق القطبية على كوكب الأرض جراء ظاهرة فلكية، ففي القطب الشمالي يستمر الليل لمدة 6 أشهر في فصل الشتاء، والسبب هو ميل محور الأرض عن مساره حول الشمس، لذا فعندما تدور الأرض حول الشمس، فإما أن يحصل الشمال أو الجنوب على مزيد من الضوء، وهذا هو سبب تعاقب الفصول.

فعندما يميل محور الأرض مبتعدا عن الشمس، يسود فصل الشتاء في الشمال. وبحلول 21 ديسمبر/كانون الأول، يُخيّم الظلام على الدائرة القطبية بأكملها. ولكن عندما يميل محور الأرض نحو الشمس، يحل فصل الصيف في نصف الكرة الشمالي.

الشمس القطبية صيفا، لا ترتفع كثيرا فوق الأفق بل تدور دورة كاملة فوق الأفق فلا يرى لها مشرق ولا مغرب

وبحلول 21 يونيو/حزيران، يعم ضوء النهار الساطع المنطقة القطبية بأسرها، ليعلن عز الصيف هناك، لكن منذ ذلك الحين فصاعدا يبدأ زحف الظل الليلي بثبات نحو القطب الشمالي حتى قرابة 21 ديسمبر/كانون الأول، حيث يُرخي الظل سدوله على الدائرة القطبية بأكملها.. وهذه هي ذروة الليل القطبي.

عند القطب الشمالي تختفي الشمس لمدة نصف عام، وفي شمال النرويج عند الدائرة القطبية، تغيب ليوم واحد فقط قبل أن تبرز فوق الأفق مرة أخرى. لكن أشعتها غير المباشرة تُضيء السماء بشفق خافت لفترة قصيرة كل يوم. وخلال الأسابيع والأشهر القليلة القادمة ستسود ثنائية الشفق والظلام أقاصي الشمال، فالليل طويل جدا، مما يجعل أضواء الشمال -أو ما يسمى “الشفق القطبي”- واضحة للعيان.

ليالي القمر.. فرصة ذهبية لتحركات أبطال العتمة

هناك في القطب الشمالي، ليس شرطا أن تكون كل ليلة قاتمة الظلام، ففي الليالي الصافية يكون القمر منيرا بما يكفي خبراء البقاء لكي يتجولوا، كما هو حال الثعلب القطبي، فهناك أعداد من الحيوانات تكيّفت أعينها جيدا مع ظروف الظلام، إذ أنها تمتاز ببؤبؤ واسع وشبكية حساسة للغاية.

مع طلوع القمر في ليالي القطب المعتمة، تتاح الفرصة أمام أنواع معينة من الحيوانات لأن تبحث عن طعامها

حيوانات الرنة تمتلك أيضا عيونا حساسة للغاية، ويتغير لونها من البني الفاتح صيفا إلى الأزرق الداكن شتاء، ويؤدي هذا التغيير في اللون إلى توزيع الضوء الساقط على العين نحو مزيد من المستقبلات الضوئية، ولم يُلاحظ هذا التكيف الفريد في أي حيوان ثديي آخر.

والأجواء ليست مظلمة فحسب، فهي أيضا باردة حد التجمد، فمن دون قدرة الشمس على بث الدفء، ستنخفض درجات الحرارة إلى ما دون 20 درجة تحت الصفر بشكل دائم، ومع الرياح الجليدية، لا يمكن للظروف أن تكون أكثر قسوة.

دروع النجاة.. أجساد مصممة لتحدي الشتاء القارس

أهم شيء الآن في هذه الظروف القاسية هو الحفاظ على الدفء، وثيران المسك تتقن ذلك إلى حد الكمال؛ فهي كبيرة الحجم ذات آذان صغيرة وقوائم قصيرة، وهذا يعني أن مساحة جسمها صغيرة نسبيا قياسا بحجمها، وكل ذلك يحول دون تبديد الدفء، كما يكسوها رداء من الشعر الكثيف الطويل له بطانة من الصوف تصل سماكته إلى 10 سنتيمترات، كما أن انتشار الدهون تحت الجلد يوفر دفئا إضافيا، لذا فإن العواصف الشتوية لا تكاد تؤثر عليها إطلاقا.

وقد تكيّفت الرنة بنفس القدر من الفعالية مع أجواء البرودة الشديدة؛ إذ ينمو عليها رداء شتوي سميك كث الشعر، وهو شعر أجوف، لذا فإنه يشكل وسادة هوائية تكون بمثابة عازل للبرودة. يُظهر التصوير الحراري أن رداءها لا تنبعث عنه أي حرارة تقريبا.

بفضل بنيته الداخلية الخاصة، فإن أنف الرنة يقوم بتسخين الهواء المستنشق حتى يصل لدرجة حرارة جسمها قبل أن يبلغ رئتيها

أما أنف الرنة فهو مميز بنفس القدر، فبفضل بنيته الداخلية الخاصة، فإنه يقوم تسخين الهواء المستنشق حتى يصل لدرجة حرارة جسمها قبل أن يبلغ رئتيها، إذ يتدفق الدم في أنفها بغزارة. وفي المقابل، فإن قوائمها باردة، حيث ينقل الدم القادم من الأعضاء الداخلية دفئه إلى الدم البارد العائد من الأعضاء الخارجية، وتعمل هذه الدورة الدموية مبادلا حراريا يحول دون تجمد القوائم وتبريد الجسم. لذلك يمكن للرنة أن تتحمل درجات حرارة تصل إلى 40 درجة تحت الصفر.

دفء المضائق المائية.. ملاذ أسراب الطيور والحيتان

في أشهر الشتاء تتجمد المناطق الداخلية في شمال الدول الإسكندنافية بفعل البرد القارس، لكن المدهش أن الجو يكون معتدلا على الساحل، إذ يضمن تيار الخليج عدم تجمد المضائق المائية النرويجية على مدار السنة، فنادرا ما تكون مياه البحر أبرد من 4 درجات مئوية، وبذلك تبقى المياه دافئة بما يكفي للحيلولة دون تجمدها، مهما انخفضت درجة الحرارة في الجو والمحيط.

مليارات من أسماك الرنجة تقضي الشتاء في مياه المضايق النرويجية الشمالية فتُلاحقها الحيتان النرويجية القاتلة

وبفضل تيار المحيط المعتدل تحتضن المياه تنوعا بيولوجيا عجيبا حتى في أقاصي الشمال، حيث تتجمع الطيور البحرية في الخلجان المحمية قادمة من المناطق النائية المتجمدة؛ فتصل أسراب طائر مالك الحزين (البلشون الأبيض الثلجي)، وهناك يمكنها إيجاد الطعام عندما يكون الضوء كافيا خلال النهار. كما تُحلّق طيور زمّار الرمل الأرجوانية في الأجواء، وتكفيها ساعات الشفق القصيرة باليوم لتأكل حتى الشبع.

وتعتبر مياه المضايق النرويجية الشمالية مصدرا طبيعيا غنيا بالغذاء بشكل يفوق التصور، فمليارات من أسماك الرنجة تقضي الشتاء هناك، بينما تُلاحقها الحيتان النرويجية القاتلة، ورغم أنها تقضي على أطنان من أسماك الرنجة في غاراتها هذه، فإن ما تستهلكه لا يتخطى 1% من كمية السمك المتاحة.

يحول تيار الخليج دون تجمد المحيط الأوروبي الشمالي، حتى فيما بعد الدائرة القطبية الشمالية، لكن ليس لحدود أرخبيل سبيتسبرغن الواقع على بعد أكثر من ألف كيلومتر شمال النرويج، حيث يدوم الليل القطبي 4 أشهر كاملة، وسط ظروف أكثر قسوة مما هي عليه في البر الرئيسي.

الشفق القطبي.. رياح شمسية تصنع عروضا خلابة

إنه الموسم الذي يكون فيه “الدب القطبي” في ملعبه الملائم تماما، ولا يكاد يوجد مخلوق آخر بمثل هذا التكيف المثالي مع هذه البيئة؛ فرداؤه الدافئ لا يغطي جسمه فحسب، بل يكسو أيضا قوائمه وباطن أقدامه العريضة، مما يضمن عدم غوص أقدامه في الثلج، كما يملك طبقة سميكة من الدهون تجعله بمعزل عن البرد، وإن انخفضت الحرارة إلى 40 درجة مئوية تحت الصفر. ويُثير الشتاء القطبي بهجة الحياة لديه، فهو ملك القطب الشمالي بلا منازع.

تتسبب الرياح الشمسية التي تصل المجال المغناطيسي للأرض وتصطدم بذرات الغلاف الجوي العلوي بظهور الشفق القطبي

لا يجلب الليل القطبي البرودة والظلمة فحسب، فهو أيضا يُمهّد الأجواء لظاهرة طبيعية مذهلة، إنها أضواء الشمال (الشفق القطبي) التي تجعل سماء الليل لوحة فنية أخّاذة، في عرض طبيعي ساحر لظاهرة كونية مدهشة سببها الشمس، فرغم أنها تحتجب عن الأنظار، فإنها المُخرج لمشهد الشفق القطبي.

تطلق الشمس باستمرار كميات هائلة من الجسيمات المشحونة نحو الفضاء تُسمى بالرياح الشمسية، وعندما تصل هذه الجسيمات إلى المجال المغناطيسي للأرض تصطدم بالذرات الموجودة في الغلاف الجوي العلوي، وعندها يتشكل الشفق القطبي. لكن بمجرد أن يسطع نور الشمس أو يطلع القمر تتلاشى أضواء الشمال.

تغيير اللون.. فنون الصيد والنجاة عند ملوك التمويه

في شفق الليل القطبي يكون لدى الحيوانات قليل من الوقت للبحث عن الطعام، وأثناء ذلك يكون التمويه أساسيا للبقاء على قيد الحياة. ويكسو الثعلبَ القطبي فراءٌ شتوي أبيض كثيف يجعله غير مرئي لفريسته في المناطق التي تغطيها الثلوج.

الأرانب القطبية تغير لون فرائها من الرمادي والبني إلى الأبيض كي تبقى بعيدة عن أعين الصيادين

وقد غيّرت الأرانب القطبية كذلك لون فرائها من الرمادي والبني إلى الأبيض، ولا يمكن تمييزها تقريبا إلا عندما تتحرك، لكن سيستطيع الثعلب القطبي رصدها، والخطر يتربصها من أعلى أيضا، لكن برغم حدة بصر النسر الذهبي الشهيرة، فلا يمكنه أن يصطاد لفترة طويلة، لأن الشفق يُصعّب عليه رصد فريسته.

أما طيور ترمجان الصخر فهي مموهة بشكل شبه مثالي، فحتى عندما تأكل يصعب جدا تمييزها عن محيطها، فالطبيعة لا تُحابي الصياد دائما.

من دون تمويه تصبح الحياة محفوفة بالخطر، وتكون قوارض اللاموس النرويجي لقمة سائغة، بيد أنها تمتلك استراتيجية أخرى لحماية نفسها؛ فهي تعيش في أنفاق تحت الثلوج في الشتاء، ويُؤمّن لها الغطاء الثلجي السميك عازلا ممتازا وحماية جيدة من أعدائها، وبينما تشتد عواصف الشتاء الثلجية في الأعلى، يمكن للقوارض الصغيرة أن تبحث عن الطعام تحت الثلج دون أن يزعجها شيء.

قوارض اللاموس النرويجي تعيش شتاء تحت الثلوج في أنفاق يتوفر فيها الطعام

ومع أن الغربان ليست متخصصة بالمناطق القطبية، فإنها تعيش أيضا في الدائرة القطبية الشمالية، وغالبا ما تتغذى على جيف الحيوانات النافقة، لا سيما في الشتاء.

أما حيوان الشره فهو صيّاد مرهوب الجانب، ففي ظلام الليل القطبي الطويل ميزة عظيمة له؛ لأنه يتمتع برؤية ليلية ممتازة، على عكس الطيور التي تنحسر رؤيتها عندما يُخيّم الظلام.

تجمد التربة.. جفاف صحراوي يواجه النباتات القطبية

أحدثت تقلبات الحياة القاسية بين الليل القطبي والنهار القطبي تكيفات متخصصة فيما يتعدى عالم الحيوان، إذ تقضي الأشجار النفضية الشتاء في حالة راحة طويلة الأمد، فهي تطرح أوراقها وتستجمع القوة في جذورها، ولذلك تستهلك أقل القليل من الماء، فالتربة المتجمدة تكاد تكون جافة مثل الصحراء، وتُوفر الشجيرات العارية الستر والغذاء لأرانب الثلوج.

في هذه البراري الشمالية المعتمة لا يُكتب البقاء إلا للمقتصد والمتأقلم جيدا، وغزال الرنة بلا شك يستحق لقب المختص البارع في مجال البراري الإسكندنافية، ففي الغابة لا يمكن للرنة إيجاد الطعام على الأرض المكسوة بطبقة سميكة من الثلوج، لكن يستعيض عنه بالعشبيات التي تنمو على الأشجار، وتوفر غابات البتولا بشكل خاص الكثير من الطعام.

الصنوبريات توقف نموها عندما تنخفض الحرارة إلى ما دون الصفر

ينطبق المبدأ نفسه على النباتات؛ إذ توقف الصنوبريات نموها عندما تنخفض الحرارة إلى ما دون الصفر، لكنها لا تخلع رداءها الأخضر، فلديها طريقة مختلفة للحد من استهلاكها للمياه، فمساحة أوراقها الإبرية صغيرة جدا، وتكسو تلك الأوراقَ طبقةٌ من الشمع ذات قشرة خارجية صلبة جدا، ولأن المسام الورقية غائرة، فإن ذلك يحد من تبخر الرطوبة، في حين يرتفع تركيز السكر في الخلايا بشكل ملحوظ، مما يشكل عاملا مضادا للتجمد.

ضباب البحر.. بلورات الجليد الهشة تزين أغصان الشاطئ

تُقدّم الطبيعة عرضا ساحرا من الألوان الخلابة في منتصف يناير/كانون الثاني، حين تكون الشمس تحت خط الأفق في منطقة فارنجر شمالي النرويج، ويستمر الشفق لمدة 6 ساعات.

حين يستقر الهواء الرطب فإنه يتجمد فورا من شدة البرودة فتتزين أغصان الأشجار ببلورات الجليد الهش

ففي نهاية شهر يناير/كانون الثاني، ترتفع الشمس فوق الأفق لفترة تدوم عدة ساعات في مضيق فارنجر، لكن لا يزال الجو شديد البرودة، وعندما تشتد البرودة الصقيعية تنجم عن التأثير الدافئ لتيار الخليج ظاهرة فريدة تعتلي سطح البحر، ولا تحدث هذه الظاهرة -المُسماة ضباب البحر- إلا عند وجود فرق كبير جدا في درجة الحرارة بين سطح الماء الدافئ والهواء البارد.

وعلى منطقة الشاطئ، يستقر الهواء الرطب فيتجمد فورا من شدة البرودة، فتلقي طبقةٌ عجيبة من الصقيع سحرَها على المشهد، إذ تزين بلورات الجليد الهشة أغصان الأشجار وسطح الثلج.

منافسة الطيور.. ظروف قاسية تخبئ أرزاقا كثيرة

في أقصى الشمال تتوقف ديمومة هذه الحلة البيضاء البهية على الطقس الذي يصعب جدا التنبؤ به، ولا تقسو قوى الطبيعة على الخلجان والمرافئ المحمية في منطقة فارنجر كما هو الحال في البحار المفتوحة، لذا تشهد تلك الأماكن إقبالا كبيرا من بط العيدر الملك الذي يقضي عطلته الشتوية فيها، بينما يقضي الصيف على السواحل في القطب الشمالي وشمال سيبيريا.

طيور النورس تراقب بعناية طيورَ البط ومحاولات صيدها الناجحة، فتهوي بدورها لانتشال الصيد الساقط

فشمال النرويج -بالنسبة إليها- هو الجنوب الدافئ، عدا كونه زاخرا بالغذاء أيضا، لأن المياه هنا تعج ببلح البحر وقنافذ البحر ونجوم البحر.

أما طيور النورس، فهي ذكية جدا رغم أنها لا تجيد الصيد، إذ تراقب بعناية طيورَ البط ومحاولات صيدها الناجحة، فتهوي بدورها لانتشال الصيد الساقط. لكن الجميع يفوز في النهاية؛ فلكل نصيبه من خيرات المحيط المتجمد الشمالي.

تغير المناخ.. دفء يبشر بقدوم الربيع وازدهار الحياة

بحلول منتصف فبراير/شباط في فارنجر، تُشرق الشمس بوضوح قرابة 8 ساعات، ويمكن رؤيتها فقط فوق خط الأفق، لكن الوضع اختلف هذا العام بسبب تداعيات تغيّر المناخ، ففي منتصف الشتاء أصبح الجو دافئا لدرجة تساقط الأمطار، مما أدى إلى تكون طبقة سميكة من الجليد على الأرض المتجمدة.

حين لا يجد حيوان الرنة ما يأكله، يموت في البرد القطبي فيكون طعاما للدببة والثعالب

لم يعد بمقدور غزلان الرنة إيجاد غذائها الآن، رغم تكيّف حوافرها بشكل مثالي مع ظروف القطب الشمالي، فقد صارت تنزلق عن الجليد، إنها مُجبرة على الانتقال إلى التضاريس الصخرية، حيث لا يتوفر سوى القليل من الأعشاب التي تنمو بين الصخور. لقد أصبح البقاء على قيد الحياة أكثر صعوبة، وكثير منها نفق من شدة الجوع هذا الشتاء.

وكذلك يعاني الثعلب القطبي الشمالي من مشاكل الآن، فطبقة الجليد تمنعه من إخراج مؤنه المخبأة، وأصبحت نجاته تعتمد على جثة الرنة النافقة.

وفي أواخر فبراير/شباط عندما تظهر الشمس مرة أخرى في سبيتسبرغن سرعان ما تطول الأيام، وبحلول أوائل مارس/آذار، يبلغ طول النهار 6 ساعات، لكن في أقصى الشمال تظل قبضة الشتاء مُحكمة على تلك الأصقاع فترة طويلة.

وفي شهر مارس/آذار يتساوى الليل والنهار مرة أخرى تقريبا في الطول، من حدود الدائرة القطبية الشمالية إلى القطب الشمالي، وتعود الشمس إليها بقوة، ورغم الثلج والجليد، تُشير ساعات النهار الطويلة إلى بداية الربيع، خصوصا بالنسبة إلى الحيوانات. وسرعان ما تكتظ المنحدرات الساحلية بالقاطنين من جديد، فقد أمضت النوارس الشتاء في البحر، وتعود الآن إلى البر للتكاثر.

مع عودة الشمس في الربيع القطبي، يبدأ الجليد بالذوبان وتبدأ معه دورة حياة جديدة

وفي نهاية مارس/آذار، تستعد الحيوانات والنباتات في جميع أرجاء المنطقة القطبية لفصل الصيف، فقد انتهى الليل القطبي أخيرا، وستذوب الثلوج، وسيتلاشى سحر أرض العجائب الشتوية، لكن الليل القطبي سيعود في غضون 6 أشهر قصيرة، وسيبدأ من جديد في القطب الشمالي زاحفا بثبات عبر أقاصي شمال أوروبا.