“التقنية الخضراء”.. حلول مبتكرة لمحاربة البلاستيك الذي ينقضّ على الكوكب

تشهد ثورة التكنولوجيا الخضراء تطورا سريعا، إذ تهدف إلى تغيير نمط حياتنا، والحفاظ على كوكبنا وتحسين حياتنا عليه، وفي حالات مثل التغيير المناخي والتلوث وتدمير التنوع البيولوجي يضاعف العلماء جهودهم لرفاهية أجيال المستقبل.

وقد بلغ التغير المناخي حدا يُلزِمنا بإيجاد الحلول أكثر من أي وقت مضى، فمكافحة الزيادة في غاز ثاني أكسيد الكربون والتلوث البلاستيكي يفرض على البشر إبداع تقنيات غير تقليدية، وهو ما ستقدمه لنا هذه الحلقة من سلسلة “علوم كونية” التي تعرضها قناة الجزيرة الفضائية، وهي بعنوان “التقنية الخضراء”.

اقتصاد الإسمنت.. سباق تقني للحد من انبعاثات الغاز

يستدعي التغير المناخي اتخاذ إجراءات فورية، وتعديل قطاعات حياتنا كلها للحد من التلوث والاحتباس الحراري، فقد تسببت المجتمعات البشرية في تدهورٍ كبير للبيئة الطبيعية، وعليه فتجب معالجة أضرار الماضي قبل البحث في أضرار الحاضر.

فبعد تصميم تقنيات استنزفت موارد الأرض في سبيل رفاهية الإنسان، يتنافس العلماء لتقليص أثر البصمة الكربونية، خاصة مع وجود صناعة البناء المسؤولة عن جزء كبير من انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون (CO2)، فيبتكر الباحثون حول العالم تقنيات بناء جديدة للحد من الغازات الدفيئة.

منزل “ديفاب” المبني باستخدام الحاسوب والروبوتات بهيكل رقيق ومحسَّن مصنوع بالحد الأدنى من الإسمنت

ففي زيورخ صمم منزل “ديفاب” باستخدام الحاسوب والروبوتات، بهيكل رقيق ومحسَّن مصنوع بالحد الأدنى من المواد، والهدف تقليل استخدام الإسمنت، إذ يعدّه الباحثون مسؤولا عن 7% من انبعاثات الغازات الدفيئة. ويقوم الروبوت بتصنيع الهياكل الخشبية بدقة متناهية، وسقف أخف بمرتين من البلاطة الإسمنتية، ونسبة إسمنت أقل بـ65%، حتى أصبح “ديفاب” منزلا بيئيا معياريا للمستقبل.

وفي السعودية بدأ التخطيط لبناء 1.5 مليون من المنازل الإسمنتية خلال 10 سنوات، لتعويض النقص في إسكان المنازل الميسرة، وبواسطة النسخ ستستخدم مواد بناء أقل بثلاث مرات.

وفي بولندا تُنسخ “أنفولدابل”، وهي ناطحة سحاب ذات تصميم فائق الخفّة من البلاستيك، وقد حازت عدة جوائز، ويمكن تشييدها في مناطق الكوارث.

ناطحات السحاب الخشبية.. هياكل معمارية تحاكي نظم الطبيعة

فسخ الأبنية فكرة جيدة، إذا استخدمت مواد صديقة للبيئة يمكن تفكيكها وإعادة استخدامها، واستخدام المواد الخضراء لبناء المنازل رؤيةٌ يتقاسمها المعماريون حول العالم. فقد بُني منزلٌ بالكامل من الفلّين، حيث تطحن رقائق الفلين وتعجن، ثم يعاد تشكيلها كتلا قابلة للتركيب، بدون موادّ لاصقة أو إسمنت، لكي يصبح ممكنا تركيب المنزل، وإعادة تفكيكه، وتدويره بالكامل ليصبح سمادا.

وفي جامعة كامبردج وضع فريقٌ من المعماريين والكيميائيين والرياضيين والمهندسين اللمساتِ الأخيرة على مخطط أعلى ناطحة سحاب خشبية في العالم، سيتجاوز ارتفاعها 300 متر، وخلافا للحديد والإسمنت يحبس الخشب غاز ثاني أكسيد الكربون، وقد يكون البديل المناسب للبنايات الضخمة في المستقبل.

مخطط لأعلى ناطحة سحاب خشبية في العالم سيتجاوز ارتفاعها 300 متر

كما تحاكي المنازلُ البيئية النظمَ الطبيعية لِتَشكُّل المواد وتحلُّلها في الطبيعة، فهي تزود بالمياه النقية وتولد الطاقة للتدوير الضوئي وتعيد تدوير مخلفاتها، ويعكف بعض المعماريين على تصميم “المدن المرتفعة” عن سطح الأرض، ليتمدد الغطاء النباتي بحرية على سطح الأرض، وللحد من الكربون وتوفير البيئة للأجيال القادمة، تتوجه المباني البيئية نحو محاكاة الطبيعة وخلق عالم أكثر اخضرارا.

ذكاء الطبيعة.. أساليب مبتكرة تلهم الهندسة

لا يجب أن نعتمد على الذكاء البشري فحسب في محاكاة الطبيعة، فهنالك مخلوقات تشاركنا العيش على الكوكب، وحريّ بنا أن نتعلم منها كيفية المحافظة على البيئة، ففي جامعة لانكاستر يبحث العلماء الاستفادة من الصلابة الفائقة لجذور الجزر لصناعة هيكل خرساني متين.

تستخرج الألياف النانوية من قشور الجزر، وتضاف كمية صغيرة منها إلى الإسمنت، وعند مزجها تنتج مادة نباتية مركبة أقوى من الخرسانة التقليدية بـ80%، وهو مركب صديق للبيئة وقوي وموفر، وسيقلل الإسمنت المستخدم في البناء.

ألياف نانوية من قشور الجزر تضاف إلى الإسمنت لتنتج مادة نباتية مركبة أقوى من الخرسانة التقليدية بـ80%،

وهناك حلفاء آخرون في الطبيعة، يمكنهم تخفيف بصمة الكربون في الأبنية، فالطحالب كائنات وحيدة الخلية تنتزع الكربون من الجو، وتمتص ضوء الشمس لإنتاج الأكسجين. وخلال مراقبة قوة الطحالب، استلهم مهندس معماري في لندن زراعتها في مادة هلامية حيوية، ثم عممت الفكرة بزراعة الطحالب داخل ستائر كبيرة تعلَّق على المباني، وبعملية التركيب الضوئي تلتقط هذه الستائر جزيئات غاز ثاني أكسيد الكربون.

ويمكن للنباتات البحرية أيضا الحد من الاحتباس الحراري. ففي النرويج يقوم الباحثون بتوجيه الكربون المنبعث من أكبر مصفاة نفطية باتجاه دفيئة عملاقة تزرع فيها الطحالب، ثم يقومون بحصاد هذه الكائنات الغنية بالبروتين، ويجعلونها طعاما لسمك السلمون المستزرع.

طحالب مزروعة داخل ستائر كبيرة تعلَّق على المباني لامتصاص جزيئات غاز ثاني أكسيد الكربون من الهواء

ويطوّر باحثون أطعمة للكلاب تعتمد بشكل أساسي على البروتين المستخلص من الحشرات، وذلك لتخفيض بصمتها الكربونية، عن طريق تقليل استهلاك لحوم الأبقار والمواشي.

مخلفات البلاستيك.. خطر بلغ بطون السمك والقطب الجنوبي

يرى العلماء أن النفايات لا تحمل معنى الإهمال والتخلص منها، بل يمكن إعادة تدوير أي شيء من أجل الحصول على فائدة ما بشكل أو بآخر، ففي السويد تقوم إحدى الشركات بتحويل بقايا الأخشاب الصناعية إلى وقود. وفي باكستان طوّر طالب جامعي طريقة لإنتاج الإيثانول من ملايين أطنان القش المهدورة في بلاده.

طالب جامعي في باكستان يطور طريقة لإنتاج الإيثانول من ملايين أطنان القش المهدورة

وتقوم فكرة التكنولوجيا المنخفضة على التقنيات المتاحة للجميع دون الحاجة للخبرة والوسائل المتخصصة، وتلبي احتياجاتنا الأساسية من الماء والطاقة والطعام، وأن تكون مستدامة، قوية ويمكن إصلاحها، ومن مواد طبيعية محلية وموارد يعاد تدويرها، فهذا مخترعٌ يسخن العبوات البلاستيكية، لتتحول إلى وقود الديزل والبنزين، وهكذا يمكن التخلص من النفايات البلاستيكية بطريقة مفيدة.

إن تراكم المخلفات البلاستيكية من عبوات وأكياس على الشواطئ من شأنه أن يخنق الحياة البحرية، وينتج سنويا 300 مليون طن بلاستيك، 90% منها لا يعاد تدويره، ويتخلص من 8 ملايين طن في المحيطات، بل إن بعض الآثار البلاستيكية قد وُجدت في أبعد المناطق عزلة، عند الدائرة القطبية الجنوبية.

ملايين الأطنان من نفايات البلاستيك تلقى سنويا في المحيطات

وقد عثر على اللدائن البلاستيكية في معدة بعض الأسماك، كما وجدت بحوث لمنظمة السلام الأخضر مواد بلاستيكية في جلود أكثر من نصف عينات الأسماك التي فحصوها، وهو مستوى عالٍ من التلوث لم يكن متوقعا. وفي 2016 اكتشف علماء يابانيون بكتيريا جديدة تتغذى على مركبات في مادة البلاستيك.

فعندما اخترع البلاستيك كان الهدف مادة متينة ورخيصة وغير قابلة للكسر وسهلة الشكل، ولكنها اليوم أصبحت وباء، وعلى العلماء أن يعالجوا آثاره. وبعد بحوث معقدة طوّر علماء بريطانيون إنزيما يهضم البلاستيك خلال أيام، لكن هذا ليس كافيا لإذابة ملايين الأطنان في المحيطات، والحل الأمثل هو منع البلاستيك من الوصول للمحيطات، وإعادة تدويره بما يمكن من الطرق.

تذاكر مجانية مقابل عبوات البلاستيك.. مبادرات ذكية

دشّنت بعض الدول مبادرات لطيفة لجمع المواد البلاستيكية، ففي إندونيسيا تعطي شركات الحافلات العامة رحلات مجانية مقابل تقديم العبوات البلاستيكية، وفي تركيا آلات تمنح تذاكر مترو الأنفاق مقابل العبوات البلاستيكية.

لكن حتى بعد جمع البلاستيك لا يمكن الاستفادة من جميعه، فهنالك أصناف متعددة، ولكل واحدةٍ منها طريقة مختلفة في إعادة التدوير، ويمكن أن يكون السبيل الأمثل هو الحدَّ من استخدام البلاستيك البترولي وتعويضه بمواد نباتية.

في إندونيسيا تعطي شركات الحافلات العامة رحلات مجانية مقابل تقديم العبوات البلاستيكية

ففي تشيلي طور باحثان أكياسا تذوب في الماء خلال دقائق، إنها من الحجر الجيري، ويمكن إعادتها للطبيعة ثانية، وفي إنجلترا أغشية رقيقة يحفظ فيها ماء الشرب، وهي مصنوعة من أعشاب بحرية صالحة للأكل.

كما استفاد علماء بريطانيون من الغطاء القشري لسرطانات البحر في صنع أكياس قابلة لإعادة التدوير والذوبان في الطبيعة دون أدنى ضرر، هذا إذا عُلم أن القشور التي ترميها مطاعم بريطانيا تكفي لصناعة 7 ملايين كيس سنويا.

تنظيف المياه.. قوارب في مقدمة المعركة ضد النفايات

إذا استمر الحال بإلقاء البلاستيك في المحيطات فسوف يتجاوز وزنه وزن الأسماك بحلول 2050، ولذا يقوم مهندسون في ساوثهامبتون بإنجلترا بتصميم القارب “حامي المحيط”، وهو قارب يندفع ذاتيا عبر المحيط بطاقةٍ يستمدها من 5 أطنان من البلاستيك يجمعها كل يوم.

القارب “حامي المحيط” هو قارب يندفع ذاتيا عبر المحيط بطاقةٍ يستمدها من 5 أطنان من البلاستيك يجمعها كل يوم

وقد نجح فريق هولندي في صناعة “منظف الأمواج”، وهو حاجز يجمع النفايات مع تردد الدوّامات المائية شمال المحيط الهادئ، وعلى غراره صُنع “إنترسبتر” النهري، لجمع أطنان من النفايات النهرية قبل وصولها إلى البحر.

ورغم أن مؤتمر باريس للمناخ نصّ على أن لا تزيد حرارة الأرض أكثر من 1.5 درجة بحلول عام 2050، فإن عام 2019 حمل لنا معدلات انبعاث غير مسبوقة لغاز ثاني أكسيد الكربون، ولذا طور علماء من جامعة يورك الإنجليزية مفاعلا من الألمنيوم، يحول ثاني أكسيد الكربون إلى مادة صلبة موجودة أصلا في قشرة الأرض.

إعادة التدوير وتنقية مصادر الطاقة.. آخر الحلول

مع تزايد الطلب على الطاقة، وزيادة انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون من المصادر التقليدية، لجأ العلماء إلى الطبيعة في ابتكار أشكال من الطاقة المتجددة، ففي هولندا صمم مهندسون جهازا يهتز بفعل الجاذبية الأرضية لتوليد طاقة كهربائية. وفي أمريكا استلهم علماء من عملية التمثيل الضوئي وتخزين الطاقة في النبات محفزا جديدا لاستقبال وتخزين طاقة الشمس وتحويلها إلى كهرباء.

مؤتمر باريس للمناخ يقرر ضرورة أن لا تزيد حرارة الأرض أكثر من 1.5 درجة بحلول عام 2050

وفي زيورخ استطاع علماء تحويل ثاني أكسيد الكربون وبخار الماء من الهواء إلى مادة الميثانول والكيروسين. وفي فرنسا نجح مخترع في تحويل قطع بلاستيكية إلى أنواع مختلفة من الوقود بعد تسخينها على درجة حرارة 400 مئوية. وفي هولندا قام طلاب بصناعة سيارة كهربائية، جميع موادها تقريبا قابلة للتدوير، في مبادرة لخفض مخلفات السيارات في الطبيعة.

أما جامعة بورتسموث، فقد طوّر علماؤها مركبا حيويا من مخلفات مواد طبيعية مثل القنب والكتان، ويستخدم بديلا بوزن أخف بكثير، لمواد تدخل في صناعة السيارات، ويجعل وزنها خفيفا واستهلاكها للوقود أقل بكثير.

في جامعة بورتسموث، طوّر العلماء مركبا حيويا من مخلفات القنب والكتان كمواد تدخل في صناعة السيارات

وفي إنجلترا حافلة تجمع الهواء الملوث طوال اليوم، ثم تنقيه بواسطة فلاتر مركبة على ظهرها، ومن هونداي سيارة “نيكسو” التي تعمل بالهيدروجين، وتقوم بتنقية الهواء طوال مدة تشغيلها، ومن وكالة ناسا الطائرة “إكس-57 ماكسويل” الكهربائية بالكامل، وتستمد طاقتها من الضوء.

وفي مضيق أورسوند بين السويد والدنمارك تحولت عبّارتان كبيرتان من التزود بالديزل إلى الكهرباء بالكامل، ويستغرق شحن البطاريات البالغة طاقتها 4 ميغاوات في كل عبّارة 9 دقائق فقط.

إن تبنّي نظامٍ بيئي مستدام يتطلب منا تغييرا في أنماط حياتنا الاجتماعية والاقتصادية والصناعية، وهي أمور يجب علينا القيام بها، سواء أحببناها أم كرهناها.


إعلان