“لا شيء يبقى إلى الأبد”.. رحلة باهرة في عالم الألماس واحتكاراته

ألماس يبقى إلى الأبد.. هذه العِبارة الموحية بارتباط الحجر الطبيعي النادر بالديمومة والبقاء جاءت بفعل تأثيرات كثيرة، من بينها ما يعود إلى تكوينه الطبيعي في أعماق الأرض عبر ملايين السنين، والذي ما أن يُصقَل حتى يظهر جماله الأخّاذ وبريقه السحري الذي يبهر العيون.
كما أن العبارة ترسخت أيضا بفعل عوامل تجارية روّجت للألماس، وجعلت منه رديفا للقيم الجمالية والروحية التي لا تُقدر بثمن، مثل الحب الرومانسي والإخلاص، إلى جانب التشديد على كونه حجرا أصيلا لا يقبل مقارنته ببقية الأحجار الكريمة، ولا يمكن إيجاد شبيه له على الإطلاق.
ولكن هل هو حقا كذلك.. حجر لا يمكن إيجاد شبيه له، ويستعصي حتى على التقنيات العلمية الحديثة صنع نماذج تجارية مثله؟
يقترح المخرج الأمريكي “جيسون كون” القيام برحلة في عالم “الألماس” لمعرفة مدى دقة ذلك التوصيف وثباته في عالم لم يعد هناك شيء يستعصي على التقليد، وتحويل كل ما هو نادر في الطبيعة إلى بضاعة رخيصة تشبه الأصل.
طبيعي أم مصنع.. هل الألماس هو فقط القادم من باطن الأرض؟
يأمل صانع فيلم “لا شيء يبقى إلى الأبد” (Nothing Lasts Forever) أن يجد عند خبير الأحجار الكريمة “دوسان سيميتش” ما يفيد بحثه، حيث يقوم الخبير في مختبره الخاص بتحليل وتقييم نقاوة المعادن والأحجار الكريمة، وبشكل خاص الألماس منها؛ معلومات عن تركيبته الطبيعية والمواصفات التي تحدد قيمته، ومن بين أكثرها أهمية حجم الماسة الواحدة ولونها، ودرجة وضوحها وجودة قَطعها وصقلها.
يعطي الخبير لعملية الصقل أهمية استثنائية، لأنها برأيه هي التي تمنح الألماس ذلك الجمال والبريق المميزين له، ويؤكد أيضا إمكانية صناعة الألماس مختبريا وبنفس المواصفات الطبيعية، كما هو حاصل اليوم ومنتشر بكميات كبيرة في الأسواق العالمية وبنوعية جيدة، لدرجة يصعب حتى على بعض الخبراء أحيانا التمييز بين الأصلي والصناعي الذي يتميز عن الأول برخص ثمنه، الأمر الذي يثير مخاوف أصحاب شركات التعدين وكبار مصممي المجوهرات، ويدفعهم للعمل من أجل الحفاظ على ما عملوا على تكريسه في أذهان الناس، من أن الألماس الحقيقي والوحيد هو ذاك الذي يأتي فقط من باطن الأرض.
سعر الألماس.. دعاية ذكية لإقناعك بشرائه
يذهب صانع الوثائقي إلى نيويورك لمقابلة “مارتين رابابورت” المسؤول عن “رابابورت غروب”، وهي المؤسسة التجارية المعنية بتحديد أسعار الألماس في الأسواق العالمية، وتعمل على إبقائها مرتفعة على الدوام. فيسمع منه كلاما رومانسيا عن العلاقة التي تربط بين المجوهرات المرصعة بالألماس وبين مقتنيها، ويكرر أمامه الفكرة التقليدية التي رسختها تلك الشركات بأن إهداء زوج لزوجته خاتما ثمينا من الألماس في مناسبات معينة يعبر في الجوهر عن قيمتها لديه، كما أنه يرمز إلى ديمومة علاقتهما وشدة حبهما لبعضهما البعض.

يكثر “مارتين” من الحديث عن التميز والأصالة والقيمة المضافة للشخصية التي تحرص على شراء المجوهرات المرصعة بالألماس، ويشير مرارا أثناء كلامه إلى بقائه إلى الأبد ثروة وقيمة مادية ووجاهة اجتماعية.
ويتحدث الوثائقي إلى مصممة المجوهرات والحُلي “أيا رادين” التي تلعب في الفيلم دور المعلق والكاشف للحقائق المُراد التمويه عليها من قبل الشركات المحتكرة لإنتاج الألماس، والتي عملت بذكاء على تنظيم حملات دعائية وترويجية فعّالة استطاعت من خلالها ترسيخ أفكار ثابتة عند الناس بأن الألماس بوصفه خامة طبيعية لا يمكن إلا أن يكون غاليا، ولأنه أيضا نادر الوجود، ولا يمكن إيجاد بديل عنه.
تصف “رادين” حملات الترويج والإعلان بأنها من بين أكثر الحملات الدعائية نجاحا وديناميكية، لأنها استطاعت إقناع الناس بأن ما يبيعونه يستحق الثمن المدفوع من أجله.
شركات تحتكر الألماس.. أسعار باهظة في تصاعد مستمر
ينقل الوثائقي الأمريكي الرائع، والغائر في عالم الألماس، مقاطع من إعلانات تجارية ومشاهد من أفلام يظهر فيها البطل الرومانسي وهو يهدي حبيبته خاتما أو قلادة مرصعة بالألماس في يوم خطبتها. إنها دعاية جعلت الكثير من نساء العالم يحلمن باليوم الذي يهديهن فيه أزواجهن الحُلي المرصعة بالألماس الثمين، أو خواتم تبهر حياتها المشعة جمالا أبصار الناظرين إليها.
تصف المصممة “رادين” الإستراتيجية التي وضعتها شركة “دي بيرز” -وهي واحدة من أكبر شركات استخراج وتعدين الألماس وتصميم مجوهراته- بأنها من أنجح الإستراتيجيات التجارية، وذلك لأنها حققت المعادلة التالية: الناس بطبعهم يميلون لامتلاك الأحسن، والألماس هو الأحسن ولا شيء غيره.
لقد كرست “دي بيرز” نفسها كأكبر شركة مختصة بالألماس، واحتكرت إنتاجه، وتمكنت بفضل ذلك السيطرة على أسعاره العالمية، وأبقتها في تصاعد مستمر لعقود طويلة.

يشير الوثائقي إلى حقيقة أن الشركات المحتكرة للألماس ما زالت تدير الأسواق وتتحكم بها، على الرغم من أن القوانين الاقتصادية الأمريكية تمنع الاحتكار التجاري، فقد ظل أصحابها الأثرياء يحتكرون الأسواق دون محاسبة.
يشير الوثائقي إلى أحد الأساليب المتبعة للنجاة من المحاسبة أو من مواجهة منافسة جدية، وهو انتقال أصحاب الشركات المهيمنة من موقع إنتاجي في بلد معين إلى آخر غيره. وللتأكد من ذلك يسافر صانع الوثائقي إلى جمهورية بوتسوانا ليقابل هناك “ستيفن لوسير” مسؤول شركة “دي بيرز غروب”، والذي يقر بأن عمل الشركة في هذا البلد تحاط بسرية تامة، وهي تدار منذ عام 1920 من قبل عائلة “أوبنهايمر” التي تشرف على عمليات التنقيب عن مناجم الألماس، وتملك إلى جانب ذلك مصانع تعدينه.
يتحدث “ستيفن” عن أصالة منتجاتهم ونقاوة الأحجار المستخدمة في تصميم المجوهرات، ولا يخفي قلقه من بروز منتجات ألماس مصنعة بدأت بمنافسة منتجاتهم، وبالتالي باتت تشكل تهديدا لاحتكار استمر عقودا طويلة، ومع ذلك ظل يردد نفس العبارات الترويجية التي تؤكد أن الألماس يأتي من باطن الأرض وعمره مليارات السنين، ولا يمكن للألماس المُصنّع منافسته، وأن مجوهراتهم لهذا السبب هي نقية تماما.
الألماس الصناعي.. هل تتراجع أسطورة الألماس الأصلي؟
تدحض مصممة الحلي والمجوهرات “رادين” ما ورد في كلام “ستيفن” عن نقاوة منتجاتهم، بإشارتها إلى معلومة تفيد بأن هناك ما يقارب 1% من الألماس الكبير الحجم المُباع في الأسواق قد تم تصنيعه في مختبرات، فيما تصل النسبة في الألماسات الصغيرة إلى نحو 20%.
يضيف “سيميتش” صاحب المختبر الخاص حقيقة صادمة أخرى توصل إليها من خلال فحصة لآلاف الألماسات الصغيرة الحجم التي أنتجتها شركة “دي بيرز” وأكدت أنها كلها سليمة، فقد وجد أن هناك نحو 5% من ألماسات الشركة مصنع في مختبرات، وبالتالي فإن الحديث عن نقاوة منتجاتها -حسب وصف مصممة الحلي والمجوهرات- كذبة مبنية على كذبة ندرة الألماس الطبيعي، والتي تم الترويج لها بأكاذيب تاريخية ربطت بين الألماس وأحجامه، وأيضا بين أثمانه الخيالية التي يباع بها، وكأن قيمة الأحجار طبيعية وهذه القيمة تحددت تبعا لذلك لا بفعل الأثرياء المهيمنين على عمليات استخراجها وصقلها فيما بعد لتظهر كما هي عليه برّاقة رائعة الجمال.

ومن جانبه يدلي “جون جانيك” الباحث في معهد كارينغ والمختص بتصنيع المعادن النادرة مختبريا برأيه الحصيف فيما يخص عمليات تصنيع الألماس (تسمى علميا زراعة الألماس) في المختبرات، ويؤكد للوثائقي بأن العالم مقبل على رؤية تراجع لأسطورة الألماس الأصلي، وذلك بعد الزيادة الحاصلة في إنتاج الألماس الصناعي على نطاق واسع، والذي سيصبح حاله حال بقية المعادن التي تراجعت أثمانها الغالية حالما ظهرت نماذج رخيصة منها.
ويقدم “جون” معدن الألمنيوم مثالا على ذلك، ففي وقت من الأوقات كان غالي الثمن ويعد معدنا نادرا، لكنه اليوم أصبح رخيصا نسبيا. وهذا الحال كما يؤكد الباحث يتكرر مع الألماس بعد نجاح شركات صينية وغيرها في إنتاجه على نطاق واسع.
أصلي ومصنع.. ألماس مخلوط يغزو الأسواق
يدخل الوثائقي إلى مصنع صيني مختص بصناعة الألماس الخام (قبل الصقل) والمنتج لأغراض علمية وصناعية لا تجارية، ويقابل أحد مهندسيه الذي يذكر له معلومة صادمة تؤكد الطلب المتزايد على منتجهم من قبل التجار الهنود، وهو ما يجعلهم يعملون ليل نهار من أجل تأمينها لهم.
وفي الهند يُصدم صانع الوثائقي بحجم المتوفر منه في المصانع المختصة بقَطعه وصقله، حيث يشير أحد أصحاب تلك المصانع إلى حجم مبيعات الشركات الهندية للألماس المصقول عندهم، والتي بلغت في عام 2017 وحده نحو مليون قيراط، وكلها بيعت لعدد محدود من الزبائن الهنود.
يستقصي الوثائقي مصير ما يحصل عليه هؤلاء من كميات كبيرة، لكنه يتفاجأ بشدة السرية التي تُحاط بالعملية، وعدم تدخل الشركات الاحتكارية لوقف بيعها، وهو ما يثير الشكوك إزاء تورطها في تلك العمليات، وبشكل خاص عمليات خلط الألماس الأصلي بالمُصنّع، والتي يصعب على الزبون العادي التمييز بينها، خاصة إذا جاءت من مصدر تجاري موثوق.

لكن بعد الزيادة الملحوظة في عمليات الخلط التي دخلت عليها أطراف تجارية هندية صغيرة يصعب السيطرة عليها؛ تدخلت شركة “دي بيرز” لمنع انتشارها، وذلك من خلال ابتكار جهاز مخصص للكشف عن هذا الخلط. والمفارقة أن عمليات الخلط ظلت كما كانت عليه بفارق بسيط، هو أن الشركة نجحت في بيع كميات كبيرة من منتجها الجديد.
كسر احتكار الألماس.. “لا شيء يبقى إلى الأبد”
مصممة الحلي والمجوهرات “رادين” تشير إلى ديناميكية الشركات المحتكرة للألماس، وقدرتها على المجيء بأفكار جديدة تدر عليها ربحا كبيرا دون خسارة سمعتها، كما فعلت عندما أعلنت عن نيتها إقامة مشروع لصناعة الألماس الصناعي. فالشركة التي تباهت بمنتجها الأصلي ها هي اليوم تنتج بنفسها حجرا “مغشوشا” كما كانت تصفه في السابق.
الهدف من المشروع وفق رؤية مصممة الحُلي والمجوهرات هو السيطرة على السوق وطرد المنافسين الصغار، لتعود وتهيمن ثانية عليه كاملا، وهذا ما حدث بالفعل ورصده الوثائقي حين عادت مجموعة “رابابورت غروب” إلى إعادة الكلام عن المنتج الماسي الأصلي، وحث كبار المتاجرين به على العمل من أجل الترويج ثانية له، كما كانوا يعملون من قبل.
وبسبب إستراتيجية شركة “دي بيرز” الجديدة، وإنتاجهم لأجهزة الكشف عن الألماس المُصنّع، وجد “دوسان سيميتش” صاحب المختبر الخاص نفسه مفلسا غير قادر على منافستهم، لهذا اتجه -وهو الخبير المختص بعلم المعادن- إلى المصانع الصينية ليقنعها بالمساهمة معه في مشروع طموح لإنتاج ألماس تضاهي نقاوته نقاوة الأصلي منه، ويمكن بسهولة بيعه في الأسواق بسعر تنافسي رخيص، وبذلك يكسر احتكار الشركات الكبرى له انطلاقا من حقيقة أن “لا شيء يبقى إلى الأبد”.