“شظايا السماء”.. قراءة أسرار الكون على نيازك الصحراء بالمغرب

قليلة هي الأفلام الوثائقية التي طرحت أسئلة جوهرية حول الكون ونشأته، خاصة في العالم العربي، رغم أسبقية هذه الأمة وبراعتها في فهم علوم الفلك والأجرام السماوية وحركة الكواكب وغيرها قديما، وقد أتى الفيلم المغربي “شظايا السماء” ليذكرنا بماضي ومعارف هؤلاء، بعد أن خرج عن السينما السائدة، وذهب صوب هذا العلم الذي أحاط البشرية بالكثير من الأسئلة، فما الذي تناوله هذا العمل؟ وما هو الطرح الذي جاء به.
“كيف تشكل هذا الكون؟”.. رحلة فلسفية من صحراء المغرب
انطلق المخرج المغربي عدنان بركة في فيلمه الوثائقي “شظايا السماء” (2022) من أسئلة فلسفية حاصرت الإنسان منذ القدم، وهي “كيف تشكل هذا الكون ونشأ؟”، خاصة أن المعطيات والمعلومات التي توصل لها الباحثون قليلة جدا أو لا تكاد تذكر، لهذا انطلق عدنان صوب هذه المغامرة السينمائية، لنفض الغبار عن بعض المحاور الأساسية التي شكّلت معالم هذا الفضاء الرحب الذي نعيش فيه.
الجميل في هذا العمل أنه انطلق من جغرافيا دولة المغرب، من صحرائها الشاسعة والمتنوعة ذات التضاريس المختلفة، انطلاقا من النيازك وشظايا السماء التي تسقط فيها بشكل مستمر، وقد عمد المخرج على تحليل الفضاء الصحراوي وربطه بالموجودات التي تعتبر دخيلة عليه، بمعنى أن النيازك والشظايا السماوية هي جزء من الفضاء الممتد، لكنها لم تكن جزءا من الأرض ولا من تشكلها المادي.
وقد استغل الإنسان هذه الشظايا أحسن استغلال في المخابر الجامعية، ليفكك من خلالها بعضا من فضول العلماء والطلبة وكل مهتم بهذه الأسرار والقضايا الغامضة، في محاولة لفهم بعض أسرار الكون وكيفية تشكله ليصبح على ما عليه اليوم.
محمد باخا.. أمازيغي بدوي يطلب رزقه في الصحراء
استغل المخرج عدنان بركة تقريبا ربع توقيت الجزء الأول من الفيلم في إبراز عمق الصحراء وقساوتها على الإنسان، من خلال مرافقة شخصيات بدوية أمازيغية بسيطة، ممثلة في عائلة محمد باخا الذي يبلغ الخمسين من العمر، وهو من البدو الرحل، ويسكن مع أسرته في خيمة متداعية وسط الصحراء الشاسعة والمعزولة، تحيط بها الصخور الصلدة والجبال القاسية، يتحسرون على غياب الماء وشح السماء، وهو أمر سيعقد حياتهم ويزيد من همومهم.
لم تكن عائلة باخا وحدها من تعاني من هذا الشح، بل كل شخص يسكن في تلك الصحراء، ممن يعتمدون الرعي موردا أساسيا لهم، ومع غياب الأمطار تغيب المراعي والعشب وحتى الشرب، لتكون هذه الصورة القاسية هي المرآة العاكسة لهموم الرجل البدوي.

لكن هناك بديل دائما، تعكسه عملية البحث عن شظايا السماء والأحجار التي تسقط من خلال النيازك والشهب، خاصة خلال العواصف الرعدية، بعدها يقومون ببيع ما يجدونه لتاجر يقوم بمرافقتهم، فيفحص ما يجدونه بمنظاره الدقيق وميزانه الذي لا يخطئ، فيقوم بتحليل العينة، فإن كانت نيزكا يشتريها منهم، وإن كانت حجرا عاديا يرفضها.
“سعي روحي يتردد صداه مع الجميع”
ينتشر البدو في تلك المناطق الواسعة بحثا عن تلك النيازك التي تذهب عادة إلى المخابر الجامعية، وقد خلق المخرج مقارنة ذكية بين نظرة البدوي إلى العوالم الطبيعية مثل النيازك والشعب والشظايا التي تُفسَّر دائما بشكل روحي، وبين العالم الذي انعكس في شخصية الأستاذ الجامعي عبد الرحمن إيهي أستاذ علم الفلك في الجامعة.
يطرح الأستاذ عبد الرحمن مجموعة من الأسئلة العميقة على طلبته، فتكون الإجابة بشكل علمي تقريبا عن سر تشكل هذا الكون ونشأته، انطلاقا مما تقدمه تلك الأحجار من معلومات دقيقة تساهم في تطوير بحثه عن أصول الأرض والحياة.
ويرى الأستاذ عبد الرحمن حسب معطيات الفيلم بأن “الأحجار النيزكية قد تكشف بعض الخبايا، وقد تحمل أجوبة على التساؤلات الوجودية”، لأن البحث عن تلك الشظايا “ينبثق من سعي روحي يتردد صداه مع الجميع”. ومن خلال هذه المقارنة بين البدوي والعالم تنكشف عدة جوانب مهمة تشكل منطلقا روحيا وعلميا جديدين.
الموسيقى التصويرية.. لمسات تصنع رهبة العمل السينمائي
استطاع عدنان بركة أن يمسك بمعظم الأجزاء التقنية والفنية لفيلمه “شظايا السماء”، غير مكتف بعملية الإخراج فقط، بل تعداها إلى التصوير والمشاركة حتى في المونتاج، من أجل الوصول إلى الأهداف الفنية والفلسفية التي أرادها.

وقد نجح في هذا المسعى، لأن الصورة النهائية للفيلم عكست التصوّر الشامل، وخلقت الانسجام بين عناصر الفيلم المختلفة، حتى أن الموسيقى التصويرية صنعت رهبة في العمل، وأعطته بُعدا مساعدا في طرح الأسئلة وتلقي بعض الإجابات، خاصة أنها شحنت المُتلقي لفهم مختلف أبعاد الفيلم، انطلاقا من البُعد الفكري الذي سيّر العمل وقاده إلى مبتغاه المعرفي، وانتهاء بالمعالجة الإخراجية التي جاءت متميزة ومختلفة.
وقد اعتمد المخرج على مقاربة ذكية ربط فيها الصورة بالمحتوى، مما ولّد لغة سينمائية قوية، وهو حدث نادر في السينما الوثائقية التي تعتمد في مجملها على الأحداث والمعطيات التاريخية، لكن عدنان لم يكتف بهذا، بل استطاع أن يخلق عددا من الجماليات القوية، أبرزها صورة الصحراء، انطلاقا مما يحتويه هذا الفضاء الرحب من جمالية بصرية وروحية.
كما جعل أصوات شخصياته كأنها رديف للراوي، وفي نفس الوقت أظهر كيف يمارسون يومياتهم بشكل عادي في فضاء قاحل وممتد، من خلال الرعي والبحث عن النيازك والترفيه عن طريق رمي الحجارة بالقاذفة على أهداف حجرية، وكأن الحجر مادة متصلة ولصيقة بالإنسان، وتؤدي أغراضا متعددة.
وكل مشهد من تلك المشاهد مصحوب بصوت شخصية تروي نظرتها للأشياء، وأكثر من هذا فقد ربطها المخرج بأصوات وقع الأقدام على الحصى، مما خلق نوعا من التأثير الصوتي على المتلقي، ليتحول هذا الأمر (أي المؤثرات الصوتية) إلى بطل رئيسي في الفيلم، وعنصر مهم ساهم بشكل ملحوظ في بناء العمل وتأثيثه جماليا ومعرفيا.
القصص البكر.. شجاعة اختيار المواضيع الغامضة
فيلم “شظايا السماء” عمل سينمائي مهم ومختلف، طرح أسئلة عميقة جدا وتناولها بطريقة فنية فريدة، أظهرت مدى اجتهاد المخرج عدنان بركة والفريق العامل معه، من أجل أن يخرج هذا العمل السينمائي بصورة مميزة.

وقد أظهر المخرج شجاعة نادرة حين ذهب صوب المواضيع الصعبة التي تحيط بها الأسئلة المعقدة والغامضة وغير المطروقة، فصاغها بطريقة سلسلة ومفهومة وبصورة مبينة، أبرزها عن رهبة هذا الكون وأسراره، بعد أن أبان عن بعض جوانبه الظاهرة والمخفية، وبحث في أصل الوجود والتشكل، مع إظهار الاحتمالات التي تركها أو وصل لها بعض العلماء في هذا الخصوص.
ولم يكتفِ المخرج بهذا المعطى كي يصل لفكرته، بل استعان بغرافيك اقتبسه من الفيلم الوثائقي “الأرض، صنع الكوكب” ليافار عباس (2011)، وقد ساعد هذا التوظيف في إبراز خط الفيلم، بعد أن بسط تسهيلات بصرية ساهمت بشكل مكثّف في تقديم فهم أفضل وأشمل.
“رحلة لم أعد أرغم نفسي فيها على إيجاد الإجابة”
شارك فيلم “شظايا السماء في عدة مهرجانات سينمائية، من بينها مهرجان لوكارنو ومهرجان مراكش الدولي، وقد بدأ عدنان العمل عليه بداية من 2014، وصُوّر على فترات عدة، كما سبق لعدنان أن خاض تجربة الوثائقي من خلال عمله الوثائقي القصير الأول “تالبين” (2010).
وإضافة إلى السينما فعدنان بركة هو باحث موسيقى مختص في الصوتيات، وقد انعكست هذه الخاصية بدرجة كبيرة في فيلمه “شظايا السماء” الذي قال إنه اكتشف من خلاله أصل الحياة، فعندما يتعلق الأمر بهذا السؤال، تندفع الإجابات في الانزلاق نحو الهاوية، مخلفة وراءها لغزا جديدا يتعين حله.
يقول عدنان: إن مواجهة هذه الألغاز من خلال البحث تعد طريقة حميمية تسمح لي بالتخلص من حرقة السؤال. في الواقع، من خلال التجول بحثا عن النيازك بصحبة البدو والعالم المتخصص، نفهم معنى المسعى. في النهاية، وحده المسار له معنى وليس الوجهة. يتبلور هذا المسعى عن طريق السينما من خلال الجمع بيننا جميعا وبين الرُّحل والعلماء، فالسينما تساعدنا على العودة إلى العاطفة والتعمق فيها عندما يواجه العقل الجفاف.
لهذه الأسباب، فإن هذا الفيلم يعد بالنسبة لي بمثابة رحلة لم أعد أرغم نفسي فيها على إيجاد الإجابة، إذ لا يمكن الوصول إليها. ومع ذلك، فأنا أركز اهتمامي بامتنان على البشر بكل تعقيداتهم، مع الإشادة بما يوحدنا مع الأرض، ثم مع الكون. إنها مسألة الانغماس في عالم ثاقب، وملامسة الإحساس، ثم السمو.