“برتقال يافا”.. ذكريات ملونة تعيد إلى سيدة الموانئ روحها

قبل نكبة فلسطين عام 1948 كانت مدينة يافا الفلسطينية عاصمة الثقافة والسياحة والتجارة والصناعة في العالم العربي وأبرز ما ميزها هو برتقالها المتنوع الذي أعطاها شهرة في كل الأقطار العربية.
يسلط فيلم “فلسطين.. برتقال يافا” الضوء على ميناء المدينة الذي كان منفذ الفلسطينيين لتصدير إنتاجهم، وفي مقدمته البرتقال، وكيف كانت الحياة في ميناء الحضارات.
وهذا الفيلم هو جزء من سلسلة “ذكريات ملونة” التي أنتجتها الجزيرة الوثائقية، وتعتمد على إعادة ترميم وتلوين أرشيف يروي أحداثا مهمة، من خلال أشخاص عايشوا مراحل زمنية وأحداثا مهمة في العالم العربي بين عشرينيات وستينيات القرن الماضي، قبل أن يتوفر الأرشيف الملون.
“كل شيء كان جميلا في يافا”
نعرض لقطات أرشيفية بالأسود والأبيض من يافا على الفلسطيني محمد أنور السقا (مواليد يافا عام 1932)، فيقول: كان الطقس في يافا جميلا والهواء عليلا، ونعيش براحة كبيرة قرب بحر يافا، إضافة إلى صخب البحارة وأحاديثهم وأصواتهم التي كانت تضج في الميناء، كل شيء كان جميلا في يافا وكل شيء متوفرا.

كان منزلي فوق الميناء، ونستخدم الدرج لنصل إليها، وكان والدي لديه مخزن لتصدير البضاعة، وكنت أساعده في العمل عندما يكون لدي وقت فراغ، وكنت أطلب منه أن أركب على متن القارب (الجرم) الذي ينقل البضاعة إلى الباخرة، وأصعد إليها لأتعلم كيف يحملون البضائع ويرتبوها.
الجرم هو قارب صغير كان يحمل عشرات الصناديق من البضاعة التي تنقل إلى الباخرة الكبيرة، وكان بحارة يافا يجدفون بأيديهم في المركب، رغم أن المجداف كان طوله 5-6 أمتار ومصنوع من الخشب الثقيل.

كان البحارة يرتدون الشراويل (سراويل أهل الشام الفضفاضة) وفوقها الساكو (معطف من دون أكمام) والطربوش الذي كان يرتديه كل الناس، عدا الذين ارتدوا البنطلون والبدلة، ولم تكن الملابس من لون واحد، فهناك من كان يرتدي ملابس ملونة ومقلمة، وكل الملابس كانت مرتبة وجميلة.
يأتي عمال الذين يعملون بنظام الأجرة اليومية بسلل من القش لقطف البرتقال، ثم يرتبونه في صناديق تمهيدا لتصديرها.
ميناء الحضارات.. ألوان المدينة الباهتة تعود إلى الحياة
يعلق خبير التراث الفلسطيني خضر نجم على اللقطات الأرشيفية، قائلا: يافا هي ميناء الحضارات ومنبعها، اختصت بنوع خاص من التطريز يختلف عن الشمال والجنوب، فالجنوب كانت ألوانه داكنة، والأصباغ التي كانت تستخدم في كل فلسطين التاريخية محلية الصنع، سواء البرتقال والزهر الخاص بها، أو الرمان وقشوره، أو الكركم والليمون أو البصل، وهذه كلها كانت تستخدم لاستخراج الألوان وصباغة القطن والصوف.

كان العمال المياومين يرتدون القمباز (لباس تقليدي)، ويخلعونه وقت العمل، ثم يرتدون الشروال مكانه، وكانت ألوان القمباز أغلبها ترابية كالرمادي والبيج (اللون الرملي)، والأبيض قليل جدا، وكانوا يرتدون الألوان الداكنة (أسود كحلي بني)، وخاصة في فصل الشتاء، وأما البحارة فيرتدون القمباز بألوان داكنة (أسود بيج رمادي كحلي).

وبعد اطلاعه على المشاهد الملونة قال خبير التراث: الألوان التي استخدمت في تلوين اللقطات صحيحة بنسبة 99% وخاصة في موضوع سلات القش التي كان يجمع فيها البرتقال والملابس التي تقارب نسبة ألوانها الحقيقية 100% وزي الشرطي الفلسطيني، وهو البدلة السوداء والطربوش الأحمر والقشاط الجلدي، إضافة إلى زرقة بحر يافا وألوان المنازل والقرميد.
شارع إسكندر عوض.. شريان العاصمة الثقافية والاقتصادية
بعد ترميم اللقطات الأرشيفية وتلوينها آليا بشكل دقيق نعرضها مرة أخرى على الفلسطيني محمد أنور السقا، فقال إن اللقطات أرجعته إلى طفولته وصباه وشبابه، يوم كان يعيش في يافا، وإنه عاش هذه الصور الملونة على أرض الواقع.
يقول السقا: ألوان البحر وحوض الميناء والعنابر التي كان يخزن فيها البرتقال وغيره، والبلدة القديمة أيضا، والملابس التي كان يرتدونها الناس وقتها، وألوان الشراويل والطربوش، هذا كله عاصرناه قبل عام 1948.

كانت يافا العاصمة الثقافية والسياحية والتجارية والصناعية، وكان شارع إسكندر عوض مثل شارع الحمراء في بيروت، وكان الشارع الرئيسي الذي يضم كل المتاجر والصاغة والعلامات التجارية المشهورة والأحذية والملابس، وبعد أن سافرت إلى أوروبا لم أكن أرى مثل شارع إسكندر عوض إلا في العواصم الأوروبية، وكان الشارع فيه أشجار من أوله إلى آخره، والفنادق على جانبي الشارع ودور السينما، وكانت أفخم وأكبر دار سينما في العالم العربي هي سينما “الحمراء”، وكانت عبارة عن مبنى كبير من الرخام الأبيض.
“مهما تكلمت لن أعطيها حقها”.. ذاكرة برائحة البرتقال
كان موسم البرتقال موسما يفوح برائحته الأخاذة، لدرجة أن المدينة تستغني عن العطور تلك الأيام، ويتحدث محمد أنور السقا عن أيام الموسم قائلا: أذكر أنه عندما تزهر أشجار البرتقال تعبق الرائحة في كل المدينة، وكانت الرائحة قوية إلى درجة أنك لا تحتاج للعطور عندما تخرج من منزلك، ويبدأ موسم البرتقال من شهر أكتوبر/تشرين الأول، ويقطف البرتقال ثم يفرز، لأنه كان هناك أكثر من نوع برتقال.

يوضب البرتقال في صناديق خشب تمهيدا لتصديره، وكل نوع من البرتقال لديه اسم، وقبل أن يدخل إلى ميناء يافا كان هناك 3 مستودعات تتسع لمئات الصناديق من البرتقال، وكان والدي يملك جزءا من مستودع للتصدير، فكنت أنزل إلى المستودع لأن منزلنا كان فوق الميناء، وكان يأتي العمال من مدن فلسطينية مجاورة ودول عربية إلى المستودع، يحملون صناديق البرتقال، وينقلونها إلى المراكب الصغيرة (جروم)، ومن بين العمال كان هناك سوريون من حوران يعملون عند والدي.

كان بحارة يافا يصنعون هذه الجروم، وكانوا يستخدمون المجاديف لتسير الجرم نحو الباخرة الكبيرة، تمهيدا لتصدير البرتقال وغيره. كان كل شيء موجود في يافا، ومهما تكلمت لن أعطيها حقها.