داخل حديقة الحيوانات.. درع بيطري يصد الأمراض ويحمي موائل التكاثر

قدَّمت أسكتلندا للعالم خدمة جليلة في الحفاظ على البيئة؛ والحياة الفطرية، وذلك بإنشاء حديقة حيوانات برية مفتوحة، تختص بالحيوانات المعرضة للانقراض التي تكيفت مع الطقس البارد. ابتداء من فرس النهر، ومرورا بالذُّباب الحَوَّام والفهود والنمور المفترسة، وليس انتهاء بالرخويات صغيرة الحجم، جميعها تعكس التزام حديقة حيوانات إدنبرا ومتنزه هايلاند للحياة البرية في حماية الأنواع المهددة بالانقراض.
في هذه الحلقة من هذه السلسلة التي تبثها الجزيرة الوثائقية تحت عنوان “داخل حديقة الحيوانات”، نزور من جديد حديقة حيوانات إدنبرا ومتنزه هايلاند للحياة البرية، ونتعرف على القطط البرية، ودجاج غينيا الشهير، وحيوانات الباندا والبجع الأبيض.
موئل التكاثر.. قطط برية في المرتفعات الأسكتلندية
أحد أبرز المشاريع الذي يعمل فريق مختص لإطلاقه هو برنامج إنقاذ القطط البرية (الوشق)، في مشروع التكاثر والإطلاق في الطبيعة، ويأمل القائمون عليه رؤية القطط البرية تتكاثر بشكل طبيعي من جديد في موطنها الأصلي.
لقد اختير للمشروع مكان لا يصل إليه الجمهور، إنه جزء هادئ وبعيد من متنزه الحياة البرية، حيث تبنى مساكن لتكاثر القطط يناسبها بشكل كامل، وستأتي إليه القطط خلال الأشهر التالية.

يتكون الموئل من أربع حظائر مزدوجة، وستصبح موطن ست عشرة قطة برية، وقد يطلق بعض من نسلها في المرتفعات الأسكتلندية، ويبدو أن المرحلة الأولى من المشروع قد بدأت تتشكل، فقد قدم شركاء دوليون ومحليون تمويلا هائلا بقيمة 5.4 ملايين جنيه إسترليني للمشروع، إذ يُعد مركز التكاثر الجديد من الأولويات القصوى التي يجري العمل عليها.
حظيرة القطط.. مسرح طبيعي لممارسة الحياة البرية
صممت الحظيرة للحد من التواصل مع البشر، ولتوفير ملاذٍ آمن ومحمي للقطط يحاكي حياتها في البرية، فكل شيء مدروس بعناية، من حيث الارتفاع الجيد في الداخل، وكمية الغطاء النباتي الطبيعي الموجود فيها، وإنشاء مناطق مُعدّة خصيصا للقطط، والمحافظة على تحفيزها الجسدي والعقلي مع حجم هذه الحظائر، كي تعود القطط إلى أنماط نشاطاتها الطبيعية نوعا ما.

وتسير أعمال البناء في مشروع إنقاذ القطط البرية على قدم وساق، فقد وضعت أساسات المكاتب الجديدة وغرف عمليات الجراحة البيطرية، وتستمر أعمال وضع الأغصان والأغطية، ووضع كل ما يلزم في هذه الحظائر كالجذوع والأعشاب وأشجار الصنوبر والأشجار التي توفر الغطاء النباتي.
والفكرة هي أن تبقى القطط البرية كما هي، برية غير مستأنسة، بحيث تتزايد لديها حالة النفور من البشر، وهذا ما يريده القائمون على المشروع، فعندما يأتي العاملون مثلا إلى الموئل لإطعامها أو لتغيير الماء، يكون الموئل مصمما لتتمكن القطط من الهروب والاختباء. يعتمد الكثير على نجاح هذا الفكرة، بحيث يفعل كل ما هو ممكن لتمنح القطط البرية أفضل فرصة للبقاء.

ولكي تشعر القطط البرية بالراحة أكثر، ينبغي أن تتوافر لديها أماكن يمكنها الاختباء فيها، وأماكن عالية تشعر بأنه لا يمكن الوصول إليها فيها، ولا يجوز أن تشعر بأنها مكشوفة، حتى يكون المكان بالنسبة لها طبيعيا، مع عدم نسيان صناديق التعشيش كي تختبئ فيها.
يوم الفحص الطبي.. مهمة شاقة لتأمين الكائنات الوحشية
على بعد 160 كيلو مترا شمال الموئل، تستعد المشرفات على الحديقة “أليكس” و”جوديث” و”صوفيا” للإمساك بالقطط البرية المعروضة للجمهور، من أجل إجراء الفحص الطبي السنوي لها، وهو جزء من خطة التجهيز لنقلها فيما بعد إلى موئل تكاثر القطط البرية الذي يجري إنشاؤه.

إنها مهمة صعبة، إذ لا يمكن التعامل معها، لأنها برية ولا تفهم لماذا يحاول البشر الإمساك بها، ومثل أي حيوان آخر، فليس بالإمكان أن تشرح لها بأنهم يمسكون بها من أجل صحتها، لذا فقد طلبت المشرفات الدعم، واجتمع الفريق كله لهذه المهمة.
وعند إجراء فحص طبي شامل للقط البري فإنه يفحص من الأنف إلى نهاية الذيل، وليس فقط الفحص السريري المعتاد، بل فحصا دقيقا يشمل الاستماع إلى نبضات قلبه، والتربيت على بطنه، والتأكد من أن أعضاءه التناسلية موجودة وفعالة، ثم تحاليل الدم وغيرها من الفحوصات، للتأكد من أن الحيوانات لا تحمل أي أمراض، وأنها حصلت على جميع لقاحاتها، وأنها تحمل أرقامها التعريفية الصغيرة. فالحيوانات السليمة ستحظى بحياة أفضل.
دجاج غينيا.. عملية جراحية لفخذ مكسور
على بعد 185 كيلومترا جنوب شرق متنزه هايلاند، وضمن مجموعة الطيور المتنوعة في حديقة حيوانات إدنبرا يعيش “فيليب”، وهو طائر من فصيلة دجاج غينيا الشهير، مع أنثاه وابنتيه اللتين عُثر على إحداهما مصابة بكسر في الفخذ، وهي الآن في المستشفى البيطري، وإذا تعثر علاج العظم المكسور، فلن يكون أمام الطبيب المسؤول “آدم” خيار لها سوى الموت الرحيم.

وقد حُسم الجدل الدائم حول إخضاع الحيوانات لعملية جراحية كبرى هنا، بسبب صغر سن هذه الدجاجة التي تستحق المحاولة، لذا أُخضعت لعملية ربط العظام بجهاز خارجي للمساعدة في التئام هذه العظام الرقيقة، ومنح الطائر فرصة للنجاة. وبعد سلسلة إجراءات طويلة من المتابعة أجريت العملية بنجاح، ولكن سلوك المريض بعد العملية مهم للشفاء، لذلك فمرحلة التعافي تقاس بأهمية الجراحة نفسها.
فالإنسان مثلا -في حال كسر العظم- سيخبره الطبيب بأن عليه أن يرتاح، وأن لا يضع ثقله على الساق، ولكن في حال إجراء عملية لحيوان فهذا الخيار غير موجود، لذا فمن أجل التأكد من عدم إفساد الدجاجة للعملية وُضعت في صندوق الراحة، حيث ستبقى دافئة وجافة، وتنال تغذية جيدة وهي جالسة.

وبعد نحو شهرين من الاستراحة الإجبارية في القفص، أصبحت أنثى دجاج غينيا التي كسرت فخذها مستعدة للقيام بالقفزة العملاقة إلى الحظيرة الخارجية، ويمكنها الآن وضع ثقلها عليها وتحريكها، لقد كانت مذهلة فعلا أثناء فترة تعافيها، فلربما تكون أفضل طير تحصل معه هذه التجربة. وهكذا أعيدت إلى الحظيرة بنجاح، كي تكون بجانب أختها.
تدريبات الباندا.. مكافآت مشجعة لأغراض بيطرية
يخضع ذكر الباندا “يانغ وان” لجلسة تدريبية لدى المشرفة “أليسون” ضمن برنامج التدريب المستمر المعتمد في الحديقة، حيث تشجع الحيوانات على القيام بأمور مفيدة مقابل مكافأة، والتدريب ليس على القيام بالخدع أو أي شيء من هذا القبيل، بل التدريب هو لأغراض بيطرية.
فعلى “أليسون” اليوم العمل مع “يانغ وان” على تدريب سيسمح للأطباء البيطريين بسحب عينات الدم وتقديم اللقاحات، وهو يتدرب على طريقة يجعله يتمسك بشيء ما، كي يُخرج ذراعه خارج القفص. ويحتاج البيطري لإبقاء ذراعه خارج القفص بطريقة معينة، للوصول إلى الوريد وسحب الدم.

ومن أجل نقل الباندا، يستخدم المشرفون قفصا خاصا، ويمكن استخدامه أيضا عند إجراء الفحوص الصحية، فقد كان القفص عند الحداد لإجراء بعض التعديلات عليه، بينما تستمر “أليسون” في تجديد أهدافها التدريبية، والهدف الجديد هو تدريب الباندا على وضع قدمه خارج القفص.
ها قد وصل الطبيب لإجراء الفحص الطبي لـ”يانغ وان” وتلقيحه، وهي فرصة لاختبار تدريبه الجديد. في هذه الحالة ينبغي استخدام طعام مفضل له أكثر من الجزر كمكافأة، لأن لقاحات الباندا غير متوفرة في الصيدلية البيطرية المحلية، بل تحضر جوا من أمريكا الشمالية، لذلك فمن المهم إنجاز المهمة على النحو المناسب.
البجع الأبيض الشرقي.. فحص الطائر الضخم ذي المنقار الحاد
من بين أكثر من ثلاثين فصيلة من الطيور، ستجد سربا مؤلفا من سبعة طيور من فصيلة البجع الأبيض الشرقي، وتشير السجلات -التي تعود إلى ثلاثين مليون سنة- إلى وجود هذه الطيور في بحيرات المياه العذبة والدلتا وفي أجزاء من أوروبا وأفريقيا. وقد بُني أول موئل بجع في هذه الحديقة منذ نحو مئة عام، ولكنه حُدّث مؤخرا وركبت ألواح زجاجية له.
سيحصل الجمهور على رؤية أفضل، لكن هذا يعني المزيد من العمل للمشرفين، فأول ما يتعلمه العاملون والمشرفون هنا هو كنس الحديقة وتنظيفها، ويظن الجميع أن العمل مذهل دوما، ولكن لديهم مساحات شاسعة من الأراضي التي تحتاج للتكنيس، وحوالي مئة وعشرين لوحة زجاجيا تحتاج للتنظيف من الجانبين.

وعند محاولة الإمساك بالبجع الأبيض من أجل الفحص الطبي، يواجه الفريق ما حصل في عملية الإمساك بالقطط البرية من صعوبة، وأحيانا تكون الأمور أصعب بسبب ضخامة حجم البجع، وعلى الرغم من ذلك فإن وزنها خفيف، لكنه يسبب مشكلة بسبب منقارها الكبير ذي الحواف الحادة.
يرتبط أحد الأمراض الشائعة في البجع بأقدامها، لذا عندما تفحص سريريا فلا بد من التركيز والتأكد من سلامة أقدامها، وتوثيق وتسجيل كل العلامات الحيوية، وأفضل طريقة لتسجيل المعلومات هي استخدام الصور، فتؤخذ الصور للأجزاء الغريبة بعد التقاط صور الأقدام التي ستصبح مرجعا مستقبلا.
عزل الموائل.. إجراءات صارمة لحماية مراكز التكاثر
مع مطلع 2020 اعتمدت إدارة حديقة الحيوان في إدنبرا ومنتزه هايلاند للحياة البرية على شبكة الإنترنت لتعريف الجمهور بمئات الحيوانات التي تملكها، سواء مواقع التواصل الاجتماعي أو البث المباشر، وهي تنشر جلسات التعلم المباشرة من كلا الموقعين في حديقة إدنبرا ومنتزه هايلاند. وقد أصبح وحيدا القرن “سانشي” و”تابيد” مشهورين، وتمكنت هذه الجلسات المباشرة من إيصال رسالة الحفاظ على البيئة إلى نحو عشرين ألف شخص.
لقد أصبح الجميع يعرفون طريقة التعامل الصارمة هنا في تطبيق نظام التعقيم، فيجب تعقيم كل شيء لمنع نقل أي مرض وانتشاره بين الحيوانات وصغارها. بالنسبة إلى الموظفين فهذا يعني الكثير، من تنظيف أيديهم وتغيير ملابسهم وتعقيم أحذيتهم بغمرها في وعاءٍ مملوء بالمطهرات قبل الدخول، وإن كان من الأفضل عدم إدخالها إلى مركز التكاثر إطلاقا، لأنهم يتوخون أقصى درجات الحذر.

ولا يقتصر العزل البيولوجي على البشر فقط، فالمركبات التي تدخل ترش بالمطهرات قبل دخولها، للتأكد من أنها لا تحمل أي مادة من أي مكان آخر من الحديقة إلى مركز التكاثر، وإلا فلن يكون هناك جدوى من الحذر، ومحاولة المحافظة على المكان آمن بيولوجيا تماما.
وأخيرا بدأت الأخبار الجيدة بالظهور في المنتزه، إذ يستعد الفريق الآن لنقل أول قطين من القطط البرية إلى الموائل الجديدة، ويوشك فريق العمل على إطلاقهما في البرية. إنه إنجاز ضخم أن تتمكن من إعادة حيوانات على وشك الانقراض إلى البرية، ومنحها فرصة حياة أفضل.