“عرض المحيط”.. وسائل كسب الرزق وبناء العائلة في أعماق البحر

يعتبر عرض المحيط البرية الأكبر في العالم، وهو يغطي على ما يزيد من نصف مساحة كوكبنا، ولا يوجد مكان فيه للاختباء، ولا يتوفر فيه سوى القليل من الغذاء، إنه بمثابة صحراء في البحر.

وقد بثت الجزيرة الوثائقية فيلما يتطرق إلى تلك الصحراء البحرية، تحت عنوان “عرض المحيط”، ضمن سلسلة “الكوكب الأزرق”، ويبدأ بتسليط الضوء على الدلافين الدوارة التي تتحرك باستمرار في هذه الصحراء، وتسبح على شكل جماعات وفي أسراب ضخمة يبلغ تعدادها نحو 5 آلاف فرد، مما يعزز فرصتها في الحصول على الغذاء، ومثل كل من يعيش هنا، فإن عليهم بذل قصارى جهدهم من أجل البقاء.

أسماك المشكاة.. وليمة شهية تستبق إليها مفترسات البحر

في لحظات نادرة، تصبح المياه المقفرة زاخرة بالحياة، فهذه أسماك المشكاة الصغيرة قرب شواطئ كوستاريكا بالمحيط الهادئ، تعوض صغر حجمها من خلال التجمع بأعداد هي الأكبر في عالم الأسماك، وتصعد هذه الأسماك إلى الأعلى عادة في الليل لتتغذى على العوالق، غير أن صعودها هذه المرة كان في النهار من أجل التكاثر. وتشكل هذه الأسماك صيدا ثمينا للدلافين التي رصدت السرب من خلال استخدام طريقة سبر الصدى.

عشرات الألوف من أسماك المشكاة تنتظر مصيرها المحتوم مع وصول الأكلة من الدلافين والأسماك الكبيرة

يتوجب على الدلافين الوصول سريعا إلى هذه الوليمة قبل أن يسبقها إليها غيرها من أحياء المحيط، فهنا أسماك التونة ذات الزعانف الصفراء التي تمكنت من رصد السرب، ومن خلفها أسماك الشفنين التي يبلغ عرض جناحيها مترين. وتنضم إلى هذا الركب أسماك الشراع، وهي من أسرع الأسماك في البحر.

وبعد أن وصلت الدلافين إلى سرب أسماك المشكاة، أخذت تسبح تحته لتبقيه في الأعلى، وتجبر الأسماك للاقتراب من بعضها أكثر. وهكذا تتجهز الوليمة لطالبيها، للدلافين وأسماك التونة وأسماك الشفنين التي وصلت أخيرا بأفواهها المفتوحة على مصراعيها، فهي تستطيع التهام المئات من أسماك المشكاة.

أسماك الشفنين تفتح أفواهها على مصراعيها لالتقاط وجبتها من أسماك المشكاة

وفور ذلك، يتشتت سرب أسماك المشكاة ويتناقص بسرعة كبيرة، وتتولى أسماك الشراع مهمة القضاء على الناجين، وخلال 15 دقيقة فقط لا يبقى من السرب سوى قصاصات فضية، فهذه الولائم نادرة الحدوث في هذا المكان.

حيتان العنبر.. غوص البالغين في الأعماق بحثا عن الحبار

تضطر الحيوانات في هذه الصحراء المائية إلى بذل جهود خارقة للعثور على الغذاء، فهذه عائلة من حيتان العنبر العملاقة ومعها حوت رضيع، لا تنتظر صعود فريستها إلى السطح، بل تغوص إلى الأعماق بحثا عنها، فتأخذ سلسلة من الأنفاس العميقة كي يتشبع دمها بالأوكسيجين، ثم تغوص في الأعماق بحثا عن الحبار.

أنثى حوت العنبر تدر حليبها في الماء ليرضع صغيرها الذي يظل كذلك لست سنوات كاملة

وعلى عمق 300 متر يبدو الصغير غير قادر على حبس أنفاسه. ففي السنوات الأولى من حياتها تجبر هذه الحيوانات الصغيرة للتخلف عن رحلات الصيد، بينما يستمر البالغون في الغوص. وتستخدم هذه الحيوانات الموجات الصوتية لرصد أسراب الحبار، وتتزايد نقراتها كلما غاصت أسفل المحيط، وعلى عمق 800 متر يعم الصمت، فلقد وجدت ضالتها، وهنا يتناول البالغون وجبتهم.

وبعد نحو ساعة كاملة تعود الأم بعد أن شبعت من أكل الحبار إلى صغيرها الجائع الذي سيحصل الآن على وجبة من الحليب. حيث تنتج إناث حوت العنبر أكبر كمية من الحليب بين الثدييات، ويستهلك الرضيع ملء حوض استحمام في اليوم الواحد، ربما تنقضي 6 سنوات حتى يتمكن الصغير من الغوص في الأعماق، ويتمكن من جلب الغذاء بنفسه.

سلاحف المحيط.. سنوات من الاختفاء عن المتربصين

القفر في عرض المحيط هو ربما ما يجعل الحياة صعبة للمفترسات هناك، وهذا ما يجعل الحياة آمنة نسبيا للفرائس. تتجه عدسة الكاميرا إلى تلك السلاحف الصغيرة التي تخرج من بيوضها، وتغادر مياه الشاطئ متجهة إلى عرض المحيط، ففي البداية تملأ السلاحف الصغيرة بطونها من العوالق، لكن سرعان ما تصبح بحاجة لما هو أكثر نفعا.

بسبب أمواج البحر تغرق أربع حاويات في مياه البحار والمحيطات كل يوم وتتفرق في كل الأرجاء

وتختفي السلاحف الصغيرة في سنواتها الأولى على بعد مئات الكيلومترات من الشاطئ، إذ توجد في كل محيط تجمعات للصغار، وهم ينجذبون لأي جسم طاف كجذع من الخشب قد يطفو عدة سنوات، ثم يتحول إلى مركز لمجتمع صغير لعدة أنواع من الحيوانات المائية، وتقضي السلاحف الصغيرة سنوات طويلة في هذه الأماكن حتى سن البلوغ.

وتجد السلحفاة الصغيرة على جذع الشجرة الأعشاب البحرية التي تتغذى عليها، لكن التخفي أمر في غاية الأهمية، ففي الجوار أحد صغار سمكة القرش الحريرية، وهو يتعرف على جميع الأطعمة بما فيها الرديئة والجيدة.

شحنة البط.. ألعاب توزعها تيارات المحيط على قارات العالم

ترفع أشعة الشمس في عرض البحر درجة حرارة مياه السطح، فتتبخر ويتكاثر البخار ويتحول إلى سحب سرعان ما تشكل أبراجا ركامية هائلة، فتتسبب بحدوث عاصفة عنيفة قد يمتد بعضها لآلاف الكيلومترات، وتهب الرياح الشديدة لتتكون أمواج قد يصل ارتفاعها 30 مترا. وهناك تغرق السفن بلا أثر، ففي كل سنة تشهد المحيطات عبور 130 مليون حاوية تغرق 4 منها يوميا في المتوسط.

في عام 1992 فقدت مجموعة من الحاويات كانت تضم شحنة من ألعاب الاستحمام فعثر على بعض البط في أستراليا

ففي عام 1992 فقدت مجموعة من الحاويات كانت تضم شحنة من ألعاب الاستحمام، منها 7 آلاف بطة بلاستيكية، وقد تنقلت آلاف الكيلومترات حتى وصلت سواحل ألاسكا، وانجرف بعضها عبر المحيط الهادئ إلى أستراليا. كما تحرك جزء من الشحنة إلى الشمال ووصل جزء منها إلى الشواطئ بين روسيا وألاسكا، ووصل جزء منها إلى المحيط المتجمد الشمالي أيضا.

وبعد أن قضت إحدى البطات 15 سنة في البحر وعبرت 3 محيطات وصلت أخيرا إلى الساحل الغربي لأسكتلندا، وهذا دليل على وجود شبكة من التيارات تربط جميع محيطاتنا مع بعضها، في نظام دوراني عملاق واحد.

رائحة الدهون.. حوت نافق يوفر الطاقة لأسماك القرش

يعتمد كثير من سكان عرض المحيط على تيارات المحيط، لتحملهم إلى أماكن توفر الغذاء، فالقرش الأزرق ينتقل على امتداد 8 آلاف كيلومتر سنويا ممتطيا هذه التيارات، ومستعينا بزعانفه العريضة الشبيهة بالأجنحة، وربما لا يكون هذا القرش قد تغذى على شيء منذ شهرين، لكن التيارات تحمل له دلائل مبشرة بوجود زيوت دهنية على بعد عدة كيلومترات، وهذا سيقوده إلى وجبته التالية.

القرش الأبيض العملاق يلتهم وجبة كبيرة من دهون الحوت النافق

وبعد السباحة عدة أيام تصبح رائحة الطعام أقوى، فهناك حوت نافق صدمته سفينة مؤخرا. ويمثل هذا الحوت وليمة فاخرة للقرش الأزرق، لكن عليه توخي الحذر، فأسماك القرش الأبيض الكبير التي هي أثقل منه بعشر مرات قد سبقته إلى المكان، وهي ليست مستعدة للتخلي عن وجبة الحوت، فهي حريصة على التغذي على دهن الحوت الغني بالطاقة، إذ يشكل جزءا من نظامها الغذائي.

وبعد أن تشبع أسماك القرش الأبيض الكبير، تستطيع أسماك القرش الأصغر مثل القرش الأزرق أن تتعامل مع ما بقي من الجثة. ومع تدفق الزيوت من الحوت النافق يظهر المزيد من أسماك القرش الأزرق، وخلال أيام فقط أصبحت الجثة مجردة من الدهون بالكامل، وتغرق في الأعماق. ويستطيع القرش الأزرق أن يعيش بعد ذلك مدة شهرين دون غذاء بعدما استعاد مخزونه من الدهون.

المحارب البرتغالي.. كائن خبيث في وسط قناديل البحر

أكثر من نصف الحيوانات في عرض المحيط تمتطي التيارات المائية، وتعبر قناديل البحر محيطات بأكملها وهي تتغذى على كل ما يعلق بمجساتها، ويبلغ طول بعضها مترين، وعندما يقودها الحظ إلى منطقة بحرية غنية بالعوالق، فإن أعدادها تتضاعف، وهذه الإستراتيجية ناجحة جدا بدليل أن قناديل البحر من أكثر أشكال الحياة انتشارا على الكوكب.

يوجد وسط قنديل البحر كائن يشبهه قليلا، لكنه أكثر تعقيدا وخبثا، إنه المحارب البرتغالي الذي يطفو بمساعدة مثانته المملوءة بالغاز والمحاطة بغشاء عمودي يؤدي وظيفة الشراع، ويحافظ على استقامة مساره خلال الأمواج.

المحارب البرتغالي قنديل بحر يطفو بمساعدة مثانته المملوءة بالغاز ويصطاد فرائسه بوساطة ذيوله

وتنتشر من خلف هذا المحارب خيوط طويلة يصل طول بعضها 30 مترا، كل واحد من هذه الخيوط مزود بخلايا لاسعة، ويمكن للمجس الواحد أن يقتل سمكة أو حتى إنسانا في بعض الحالات النادرة، وفي وسط المجسات القاتلة توجد سمكة المحارب وهي تتغذى عليها، فلدى هذه السمكة بعض المناعة من اللسعات، ولكن عليها توخي الحذر.

وعندما يقبض أحد المجسات على سمكة فإنه يسحبها ويصيبها بالشلل، بعد ذلك تنقل مجسات عضلية متخصصة الضحية إلى مجسات أخرى تقوم بهضمها وتحولها إلى سوائل باستخدام مواد كيميائية فعالة، ولا يبقى منها سوى بعض القشور، وتستطيع سمكة المحارب النهمة جمع أكثر من مئة سمكة في اليوم الواحد.

قرش الحوت.. ولادة في الأعماق لأكبر الأسماك حجما

يبدو عرض المحيط في الغالب باهت المعالم تهب فيه الرياح دون أي عائق، لكن ما تحت السطح زاخر بالسلاسل الجبلية والخنادق العميقة والقمم البركانية. ففي الأعماق يبدو المكان أكثر تنوعا مما نراه، لكن كيف يستطيع سكان عرض المحيط الاستفادة من هذا التنوع؟

ها هي ذي أنثى قرش الحوت وحيدة في رحلة خاصة، إنها بطول طائرة صغيرة ويتجاوز وزنها 20 طنا، وهي مثل كثير من أسماك القرش لا تضع البيض، وإنما تتكاثر بالولادة، وتحمل نحو 300 جنين في بطنها، وقد تكون السمكة الأكبر حجما على الإطلاق، لكن مكان ولادة أسماك القرش الحوت لا يزال مجهولا.

حيتان العنبر تغوص مئات الأمتار في أعماق البحر كي تضع مواليدها

لكننا ربما نستطيع حل هذا اللغز، فقد ظهرت مجموعة من أسماك قرش الحوت بالقرب من جزر غالاباغوس في الإكوادور في أوقات معينة من العام، تتجمع حول جزيرة نائية في المياه العميقة، تعرف باسم جزيرة دارون. تجلب التيارات الدوارة معها الأغذية من الأعماق، وتجري هذه المياه جالبة الأسماك من كل حدب وصوب، وتتجمع الآلاف من سمك قرش المطرقة هناك، وهي غالبا من الإناث، ويبدو أنها جاءت أيضا لغرض التكاثر.

وتحصل أسماك قرش الحوت على ترحيب استثنائي، إذ تتقافز أسماك القرش الحريرية التي يبلغ طولها 3 أمتار على جلدها الخشن، وتزيل أي طفيليات عنها، لكن قد تشكل هذه الأسماك خطرا على الصغار حديثي الولادة، وحتى تتفادى ذلك تغوص سمكة حوت القرش حتى عمق سحيق يبلغ 600 متر تقريبا، وربما تلد صغارها هناك بعيدا عن المفترسات.

ومع توفر الغذاء لصغاره بوفرة، فإنهم يكبرون معا قبل أن يتفرقوا في النهاية، ولم يسبق للإنسان أن رأى صغار سمك القرش في هذه البقعة السحيقة، لكن وصول إناث القرش الحوامل في كل عام دليل على أن ولادة أكبر الأسماك حجما قريب من هنا.

صغير القطرس.. رحلة آلاف الكيلومترات لوجبة واحدة

هناك حوالي 30 ألف جزيرة كبيرة تتناثر في أرجاء محيطات العالم، وجزيرة جورجيا الجنوبية هي المكان المثالي لسكان المحيط الذين يأتون إلى اليابسة للتكاثر، مثل طائر القطرس الجوال، ويقضي هذا الطائر عاما كاملا في البحر باحثا عن غذائه، معتمدا على أجنحة بعرض 3.5 أمتار، وهو أكبر الطيور الحية.

طائر القطرس الجوال يطعم صغيره لمدة سنة ونصف قبل أن يعتمد الأخير على نفسه

يوجد في العالم 16 ألفا من طيور القطرس الجوال، وتبني جميعا أعشاشها في جورجيا الجنوبية والجزر الصغيرة الأخرى التي تقع في جنوب المحيط الأطلسي، وفي فصل الربيع يعود هذا الطائر لموقع العش الذي اعتاد عليه، فشريكة حياته موجودة هنا.

وقد أجريت دراسات في جورجيا الجنوبية على أفراد من الطيور طيلة حياتها، وتبين أن الأزواج الأكبر عمرا في أواخر الثلاثينيات يبذلون جهدا ليمنحوا صغارهم أكبر رعاية ممكنة في الحياة. وتسلط الكاميرا على فرخ عمره بضعة أسابيع، إنه لا يزال مكسوا بالزغب، ويحتاج إلى إمدادات شبه مهضومة من الأسماك والحبار، ومع ندرة الغذاء في عرض المحيط يضطر الوالدان لقطع آلاف الكيلومترات للحصول على ما يكفي من أجل وجبة واحدة فقط.

ويكافح الوالدان الهرمان طوال فترة الشتاء القطبي لتربية فرخ قوي ومعافى. وبعد حوالي 130 يوما يبدأ الصغير في التخلص من الزغب واستبداله بريش الطيران. وها هو ذا أخيرا بعد تسعة أشهر من وضع البيضة أصبح مستعدا للرحيل، فمن بين جميع الفراخ التي ربياها في السنوات السالفة، سوف يحظى هذا الفرخ المدلل بأفضل فرصة للنجاة، لكنه سيكون الأخير، إذ لن يتعافى الوالدان من أثر المجهود الذي بذلاه، وسوف يغادران الجزيرة إلى غير رجعة.

مأتم الحيتان.. أحزان عائلة يطاردها شبح البلاستيك القاتل

البقاء على قيد الحياة في عرض المحيط يشكل اختبارا للحيوانات، لكنها اليوم تواجه تحديا جديدا من صنع الإنسان، إنه البلاستيك. فقبل أكثر من مئة عام، اخترع الإنسان مادة جديدة غير قابلة للتلف أو العفن وغير قابلة للتدمير، وفي كل عام يتخلص الإنسان من 8 ملايين طن منها في البحر، وهي تشل وتغرق أعدادا كبيرة من الكائنات البحرية.

تعيش الحيتان ضمن عائلات بعلاقات تجمعها أقوى الأواصر في المحيط كله، ويتوجب عليها اليوم في المحيط الأطلسي تقاسم المحيط مع البلاستيك، وتحتضن الأم صغيرها المولود حديثا، إنه نافق، وهي مترددة في التخلي عنه وتحمله لعدة أيام.

البلاستيك عامل قل بطيء للكائنات البحرية

وتتراكم الكيميائيات الصناعية في أجسام هذه المفترسات الشرسة بمستويات قاتلة، وقد يكون البلاستيك جزءا من المشكلة، فعندما يتحلل يتحد مع مكونات أخرى تستهلكها الكائنات البحرية، ومن المحتمل أن يكون هذا الصغير قد مات بفعل حليبها الملوث.

وتمتلك الحيتان المرشدة أدمغة كبيرة، ولديها عواطف ومشاعر بلا شك، ويظهر من سلوك الحيتان البالغة أن العائلة كلها تأثرت بفقدان الصغير. وإذا لم يتوقف تدفق المواد البلاستيكية والملوثات الكيميائية إلى محيطات العالم، فإن الأحياء البحرية ستعاني من التسمم لقرون مقبلة. فالأحياء البحرية التي تعيش في عرض المحيط هي الأكثر عزلة من كل الحيوانات على كوكبنا، غير أن عزلتها لا تحميها مما نسعى له بعالمها.


إعلان