“زراعة القطن”.. ذكريات ملونة لأيام الذهب الأبيض في بلاد النيل

توصف زراعة القطن في مصر بأنها “الذهب الأبيض” في بلاد النيل، ويعد القطن المصري من أفضل الأنواع في العالم، وخاصة ما يسمى “طويل التيله”، ولكن لهذه الزراعة الضاربة في التاريخ قصة ملهمة يرويها أحد الذين عملوا فيها طفلا وشاخ، ويعدد مميزاتها.
ويتناول فيلم “مصر.. زراعة القطن” كيف تطورت هذه الزراعة من بيع محصولها خاما إلى إنشاء معامل الغزل والنسيج، وتشغيل عشرات الآلاف من الأيدي العاملة الماهرة.
وفي هذا الفيلم من سلسلة “ذكريات ملونة” التي أنتجتها الجزيرة الوثائقية، نحاول ترميم اللقطات الأرشيفية وإدخالها بعمليتي التلوين الآلي والدقيق، ثم سؤال الأشخاص التي عاصروها عنها، وهل اختلفت النظرة لها بين الأبيض والأسود وبين الملون.
موسم الزراعة.. مزارعون على قلب رجل واحد
يشاهد أحمد السيد جودة وكيل النقابة العامة للفلاحين في كفر الشيخ، لقطات أرشيفية بالأبيض والأسود، ويشرح لنا كيف كانت بدايات زراعة القطن في مصر.
ويقول: يكون الفلاحون عند التعب على قلب رجل واحد ويد واحدة، فالجميع يعملون سويا، والمرأة تساعد زوجها، والطفل يقف إلى جانب عائلته، وفي الفترة السابقة كانت هناك مشكلة في الري بمصر قبل السد العالي، وكان الناس يستخدمون الآبار الجوفية ومياه النيل في ري أراضيهم، وبعد السد العالي نظمت عملية توزيع المياه، واعتمد المزارعون على النيل فقط.

كان الفلاحون يرتدون القبعات، لأنها تحميهم من ضربات الشمس وتمتص حرارتها، وكانت هذه القبعات تصنع من القطن، أما قبعات المناسبات والخروج فتصنع من صوف الغنم.
أرضروب الفلاح.. جلابية العمل في حقول القطن
يقول أحمد السيد جودة: يرتدي الفلاحون لباسا يطلق عليه أرضروبا، وهو عبارة عن جلابية يستخدمها الفلاح، كما يستخدمها ليضع القطن الذي حصده فيها، وكانت تقيه من الشمس والحر والغبار، وكان لباسه الذي يتميز به.
وكان جميع الفلاحين يرتدون أرضروبات، والفلاح الذي لم تكن لديه بقرة أو ثور تكون أسرته فقيرة. فهذه الحيوانات كانت تعين الفلاح في الزراعة، فهي تدور في الساقية وتستخدم في الحرث وفي آخر السنة تلد عجلا، فيحلب لبنها ويعيش منها، وكانت الحيوانات شريكة الفلاح الأساسية وعونه.

والطفل الذي يقود الحيوانات في الساقية كان يساعد ذويه بهذه الطريقة، وخلال جمع القطن أو تطهير الحشائش يبقى إلى جانب والده، فقد كان معاونا أساسيا له. يقول أحمد: تضع الفراشة بيضها على ورق نبتة القطن، ولو ترك البيض أياما فإنه يتحول إلى دود، والدود يأكل القطن ويأتي على المحصول، ولهذا كنا نجمع الورق الذي يحتوي على بيض الفراشات ونحرقه.

وكان الفلاح المصري بسيطا يجلس وسط عائلته ويتغدى معهم، وخلفه القطن المصري موضوع في الأكياس، تمهيدا لنقله إلى السوق لبيعه، الفلاحون يحملون على أكتافهم أكياس القطن التي تنقل إلى مصانع الغزل والنسيج، وكان الخبراء الأجانب يأتون إلى البلاد لتدريب العمال المصريين ومراقبة نوعية الإنتاج في المصانع.
عمال رش المبيدات.. أزياء موحدة وألوان شتى
تقول الباحثة في شؤون التراث المصري سعاد سليمان: كان اللون الأزرق غالبا، ولهذا ترى كل جلاليب الفلاحين الصعايدة بهذه اللون، وكانوا يرتدون تحت الجلابية سروالا واسعا طويلا تحت الركبة، إضافة إلى السيديري التي تحتوي على جيوب، ويجب أن تكون أكمامها واسعة، والوسط يجب أن يكون واسعا، حتى يتمكن من وضع القطن، وهي ملابس عملية لجميع الأوقات.

وكان الأولاد يرتدون جلاليب مخططة، ويكون اللون الأبيض هو الغالب عليها، وغطاء رأس البنات يكون ملونا ومزركشا، وكل الملابس التي يرتديها الفلاحون كانت من القطن المصري.
تقول سعاد: عمال رش المبيدات من أهل البلاد، وكان يرتدون مناديل ترمز إلى مناطقهم، وبعدها ظهر ما يسمى بالعفريتة التي تستخدم في رش المبيدات، وكان لونها أزرق، والعمال كانوا يرتدون زيا موحدا بألوان بنية ورمادية داكنة وسوداء وكحلية، وهذه هي الألوان التي كانت سائدة في مصر وقتها، ولم تكن بعد صناعة الأصباغ منتشرة ومتطورة مثل يومنا الحالي.
“رؤية الطبيعة والقطن بالألوان أحيت بداخلي حنينا وذكريات”
بعد انتهاء عمليات ترميم اللقطات الأرشيفية وتلوينها بشكل آلي وبطريقة دقيقة، عُرضت على أحمد السيد جودة وكيل النقابة العامة للفلاحين بكفر الشيخ وقد عبر عن فرحته بما يشاهده. وقال: رؤية الطبيعة والقطن بالألوان أحيت بداخلي حنينا وذكريات، فالصورة جميلة جدا لأنها تعبر عن الطبيعة، وعند مشاهدتها أشعر أن الفيديو حديث، لأن ألوانه حقيقة، والفلاح عندما يتذكر التعب يرتاح، والزرع أخضر وجميل، والصورة تدب فيها الروح والحياة بفضل الألوان.

ويتحدث عن والده قائلا: كان والدي من الأعيان، ومن الذين يزرعون القطن، وكان عمري 6 سنوات، وكنا سعداء جدا بعد نهاية الزراعة، وبسبب شدة حرارة الشمس وأن القطن ليس شجرا بل نباتا لا يرتفع أكثر من متر، فقد كان ذلك سببا لضربات شمس، فكان الحل أن يصنع الفلاح قبعة من القطن، تحميه من ضربة الشمس وحرارتها، وكان لونها أبيض كي تعكس حرارة الشمس، ولا يشعر بوهجها ولا يمرض أو يتأثر بها.
وكان أغلب لباس الفلاح رماديا، حتى يتحمل العمل بالطين والتراب، ولهذا كان المفضل، وكانت الحيوانات تستخدم في الزراعة والحرث، لأنه لم تكن هناك آلات وقتها ولا زراعة حديثة، وكانت كل الزراعة تعتمد على المحراث والساقية.
إجازة المدارس.. تجمع عائلي لحماية الحقول من الحشرات
كان القطن في تلك الفترة يزرع على مياه النيل، لأن المياه كانت غزيرة، وكانت الدولة تمنح الأطفال إجازة من المدارس، لمساعدة ذويهم في إزالة بيض الفراشات عن أوراق نبتة القطن، فكان الأطفال يتركون المدارس، ويجمعون أوراق القطن التي عليها البيض، وبعد أن ينتهي جمع القطن، تحرق أوراقها حتى تموت الحشرة والفراشة وبيضها.

يقول أحمد السيد جودة: الفلاحون الذين كان لديهم أولاد كانوا ينتظرون موسم القطن حتى يزوجوا أبناءهم أو بناتهم أو يبنون بيوتهم، لأن الذهب الأبيض كان هذا المصدر الأساسي للدخل. والجمعية الزراعية كان فيها مفرش، والفلاح يحمل قطنه ويزينه، ويكتب عليه الوزن ثم يتركه ويمشي.
كان هناك أجانب ومصريون في سوق القطن، وكانت إنجلترا أكثر المهتمين بالقطن المصري، إلى أن جاء الرئيس جمال عبد الناصر وأسس مصانع الغزل والنسيج، وأصبحت مصر من أوائل الدول التي تنتج الغزل والنسيج، لأنها كانت مهنة مطلوبة، وتحتاج لعدد عمال كبير، وبدلا من تصديره خاما بات يصنع القطن طويل التيلة محليا.