“بناء السد العالي”.. ذكريات ملونة لمشروع حمى مصر من الفيضان والجفاف
يقول المصري محمد عبد الله محمد الذي شارك ببناء السد العالي: “كان بناء السد العالي أمنيتنا منذ عام 1952″، وقد كان العمال الذين شاركوا في بنائه أيضا سعيدين، لأنهم كانوا يذهبون إلى العمل فخورين بمشاركتهم في بناء هذا الصرح الوطني.
ويتناول فيلم “مصر.. بناء السد العالي” كيف أثر هذا المشروع القومي على محافظة أسوان وطور كل أوجه الحياة فيها.
وفي هذا الفيلم من سلسلة “ذكريات ملونة” الذي أنتجته الجزيرة الوثائقية، نحاول ترميم اللقطات الأرشيفية وإدخالها بعمليتي التلوين الآلي والدقيق وسؤال الأشخاص التي عاصروها عنها وهل اختلفت النظرة لها بين الأبيض والأسود والملون.
تحويل المجرى.. مشروع طموح يغير تاريخ النيل
يتحدث محمد عبد الله قائلا: هناك مجموعة من العمال كانت مهمتها تفجير الصخور، ولم تكن هناك معدات أو أي شيء يخص السد العالي، فلا يوجد سوى السيارات التي تنقل المتفجرات، وكان العامل يعمل ثقوبا داخل الصخور ويضع الديناميت، ثم يعطي إنذارا بأنه سيفجر حتى يختبئ الناس ولا يتأذى أحد.
كانت هناك أيضا سيارات لنقل الركام، لأجل إغلاق مجرى النيل ومنعه من أن يتحول من الناحية الغربية، مما يؤدي إلى جريانه في الأنفاق، وهذا التحويل حصل عام 1964، وحضره الرئيس جمال عبد الناصر. وخلال وجوده حصل تفجير كي يدخل الماء إلى البوابات، وفي الوقت نفسه يقفل مجرى نهر النيل الذي يجري منذ ملايين السنين، وتغير مجراه.
وكان هناك نفق اسمه “نفق التفتيش” وهو يلتف حول منطقة السد العالي، وكان يستخدم في نقل معدات ثقيلة، لأن هناك منطقة منخفضة لا تصل إليها المعدات، ولهذا استخدم هذا النفق في نقلها.
يقول محمد عبد الله: بُني جسم السد -البالغ طوله 3 كيلومترات وعرضه 40 مترا- من الغرانيت الأسواني، وهو من نفس الركام المنقول. وقد انسجم الروس معنا انسجاما كاملا، وأحدثوا انتعاشا كبيرا في الأسواق، إذ قدموا 35 ألفا إلى أسوان لأجل العمل، فعليك أن تتخيل ماذا يفعل هذا العدد في قرية هادئة وساكنة، فأحدث انتعاشة كبيرة وحركة في البيع والشراء.
أرض الجلاليب الزرقاء والعمائم البيض.. ألوان أسوان
تقول الباحثة المصرية في التراث سعاد سليمان: مع ظهور فكرة السد العالي تغيرت أسوان 360 درجة، لأن عدد سكانها حينئذ كان 20 ألفا، وعدد العاملين في السد العالي أكثر من 34 ألفا بين مهندس وعامل في مختلف اختصاصات البناء، وشكل هذا العدد طفرة في التركيبة السكانية والديموغرافية لمحافظة أسوان.
كان الصعايدة يرتدون جلاليب زرقاء، وكانت العمائم بيضاء والشيلان رصاصيا أو بنيا داكنا، لأن الصعيدي لا يرتدي الألوان الفاقعة. والبدلات في هذا الزمن لا تخرج عن 3 ألوان، وهي الأسود والرصاصي والكحلي، والقمصان بيضاء.
ومعظم النساء في الفيلم يرتدين الملابس السوداء، وحتى الطرح (غطاء الرأس) كانت من نفس اللون، لأن أغلبهن كن بائعات متجولات، وعندما يخرجن يرتدين اللون الأسود، وبما أنهن كبيرات في السن فلن يخرجن من منازلهن إلا باللون الأسود.
كان النيل في أسوان متعدد الألوان بين الأزرق والرصاصي واللون الداكن، وقبل السد كانت المنازل النوبية بسيطة ولطيفة ومبنية باللون الأبيض، وحتى غير النوبيين الذين كانوا يقطنون في أسوان كانوا يعتمدون نفس الطراز المعماري الذي كان غالبا في هذه المنطقة، ولا يزال بعضه موجودا حتى يومنا هذا.
“أحييتم 40 سنة من حياتي”.. حين تنطق الألوان
بعد ترميم اللقطات الأرشيفية وإخضاعها للتلوين الآلي والدقيق، عُرضت على محمد عبد الله محمد، فانبهر بها وبدأ يتحدث عن ذكريات تلك الأيام قائلا: بهذه المناظر التي أراها أحييتم 40 سنة من حياتي، حتى السوق التي حدثتكم عنه ما زال موجودا على حاله حتى الآن بألوانه هذه منذ 40 أو 50 عاما.
تمر باللونين الأبيض والأسود مرور الكرام لكن حين تنظر بتركيز في اللباس وغيره تقول نعم، كان موجودا بمثل هذا الوضع وكأنه اليوم، اللون ينطق، سيارة النقل كانت خضراء بنفس اللون الذي أشاهده، وخلفها مثلا سيارة لونها بني، أرجعتموني إلى هذه الفترة بنفس هذه الألوان وهذا الوضع، لم يتغير شيء.
كنت أرغب في العمل بالسد العالي، ولكن لم تكن هناك موافقة من أهلي، لأنني كنت الابن الوحيد، ولكنني أصريت على موقفي ولم أنتظر الرد منهم، فحملت حقيبتي في يدي وتوجهت إلى السد العالي، وكانت السيارة تأتي الساعة 6:30، ويجب أن نبدأ العمل الساعة 7:00، لم تكن هناك أي راحة.
في الأيام الأولى من العمل كانت تأتينا المهمات والمعدات في طرود، ونرى ما المطلوب منها، فهذه أدوات كهربائية وأخرى ميكانيكية، وعليّ أن أطالع خريطة المكان وأضع هذه المعدات في أماكنها تمهيدا لتشغيلها، ففي ذلك الزمان كانت أسوان هادئة والناس تعرف بعضها وتربطها صلات قرابة، تسير في الشارع تجد أهلك وعائلتك.
أسوان.. شريط من النيل بين الجبال ينتعش اقتصاده
كان حضور الناس للمشاركة في بناء السد العالي لصالح أسوان، لأنهم أنعشوا كل مناحي الحياة في البلاد تجارة وصناعة وتعليما وصحة، وتطور كل شيء بوجود هؤلاء، فأسوان صغيرة لكي تكون فيها زراعة، فهي عبارة عن شريط على النيل تحدها الجبال ويتوسطها النيل، وتستغل الأراضي قرب النيل للزراعة فيها.
يقول محمد عبد الله: في السابق كانت كل البيوت مبنية بالطين، وكانت هناك منازل من طابقين وثلاثة مبنية بالطوب الأخضر، وقد رأيت بعيني وصول الرئيس جمال عبد الناصر إلى محطة أسوان، وكان قادما بواسطة القطار الذي يمر بالشوارع التي نسكن فيها.
لا يأتي الحماس من دوافع مادية فقط بأن تعطيني أموالا، فكان يكفيني أن يمر عليّ المسؤول ليعطيني ذلك حماسا وحافزا.
بداية تحويل مجرى النهار هو بداية الخير فالمشروع نجح أصلا بتحويل مجرى النيل إلى اتجاهه الجديد وهو ما قمنا به عكس ما كان عليه مجرى النيل وتكونت البحيرة التي تحمينا من الفيضان والجفاف.