“مطبخ المستقبل”.. إنقاذ الجائعين في كوكب ينتج أكثر من حاجته الغذائية

“أندريه تشيانغ” واحد من أمهر الطهاة حول العالم، وقد حاز مطعمه الذي يحمل اسمه في سنغافورة على نجمتيْ “ميشلان” عام 2016، ولكنه آثر أن يغلق مطعمه في 2018، ويخوض تجربة أخرى في عالم الطهي، يتعرف فيها على طعام الشعوب حول العالم، من خلال لقاءاته مع طهاةٍ عالميين، يحملون أفكارا متميزة تجعل الطبق ليس مجرد وجبة غذائية، بل هُويّة تتباهى شعوبهم بالانتساب إليها.

وفي هذه الحلقة من سلسلة “طعامنا اليوم”، التي تعرضها الجزيرة الوثائقية بعنوان “مطبخ المستقبل”، يلتقي “أندريه تشيانغ” مع مجموعة من الطهاة والكيميائيين، يحملون أفكارا خلّاقة في نظرتهم إلى طعام المستقبل، ليس فقط في الصورة التي تظهر بها الأطباق، ولكن بالأساليب الإبداعية للحدّ من الهدر الغذائي، والاستفادة من مقدّرات الطبيعة، وتخفيض عدد الجائعين في العالم.

“طعام الروح”.. سعي طهاة العالم لإطعام الجائعين

بينما يعاني مليار شخص من سكّان الكوكب من الإفراط في الأكل، فهناك 900 مليون يعانون من الجوع ونقص التغذية، وما لم تتخذ الحكومات والمنظمات خطوات جادة لضمان الأمن الغذائي العالمي، فستكون العواقب وخيمة. وهذا ما دفع بعض طعاة العالم لاستخدام مطابخهم في إرسال بارقة أمل.

أندريه تشيانغ يغلق مطعمه صاحب نجمتي ميشلان سنة 2018 ليبدأ تجربة المطبخ العالمي

يعرض لنا الفيلم “ماسيمو ” مؤسس مطعم “طعام الروح”، وقد جاء في المركز الأول مرتين في قائمة أفضل 50 مطعم في العالم، ومطعمه “أوستيريا فرانسيسكانا” الحائز على نجمات ميشلان الثلاث يجذب حجاج الطهي من كل أنحاء العالم، ويعرفه “أندريه” منذ 10 سنوات تقريبا، وهو مشحونٌ دائما بالطاقة والأفكار الجنونية.

يحدثنا “ماسيمو” عن مشروعه قائلا: هذا أكثر حيّ مهمل في ميلانو، وفيه مكان للاجئات، وهذه المصانع المهجورة تمثل مأوى لكثير من المشردين، وهذه كنيسة “دون جوليانو”، كانت مهجورة لمدة 15 عاما ومرتعا للجرذان، وقد جعلتها اليوم مركز تجربتي الجريئة.

“إطعام الكوكب لا يعني إنتاج المزيد من الطعام”

في 2015 طُلِب من “ماسيمو” الطهي في عدد من المناسبات الرسمية لمعرض ميلانو العالمي، وعوضا عن ذلك قرر الإدلاء ببيان عملي حول إهدار الطعام والذوق، عن طريق إنشاء “ريفيتوريو أمبروسيانو”، وهو مطبخ مؤقت يطهو فيه أعظم طهاة العالم لمشردي المدينة، باستخدام الطعام غير المباع من المتاجر الكبيرة فقط، وشارك فيه 50 طاهيا خلال الأشهر الستة الأولى.

كنيسة “دون جوليانو” التي أصبحت مطبخا مؤقتا يقوم فيه كادر من أعظم طهاة العالم بالطهي لمشردي ميلانو

يقول “ماسيمو”: في المعرض العالمي كان الموضوع “إطعام الكوكب”، ففي 2015 كنا ننتج الغذاء لـ12 مليار شخص تقريبا، بينما نحن فقط 7 مليارات على وجه الأرض، منهم مليار شخص ليس لديهم ما يأكلون، لذا فإطعام الكوكب لا يعني إنتاج المزيد من الطعام، بل تجنب إهداره. والطهاة وحدهم هم من يعرفون كيف يستفيدون من فتات الخبز وبقايا الخضار والحليب.

مواد غذائية تتبرع بها متاجر كبيرة لصالح مطبخ “ريفيتوريو أمبروسيانو” لإطعام المشردين

ابتكر “ماسيمو” طريقة خاصة لإطعام الناس، دون أن يشعرهم أنهم فقراء أو تمس كرامتهم. يقول: لدينا 12 طاولة تتسع لحوالي 100 شخص، وعندنا ثلاجة ضخمة للحوم والخضار وبقايا الحليب، وتأتينا المواد من شركاء من المتاجر الكبيرة، طعام أكثر بكثير من حاجتنا، فقررنا أن نقدم الطعام للناس ليس على أنهم فقراء، بل كأنهم يرتادون مطعمنا، ويجتمعون على طاولاتنا كأنهم زبائننا، ويحسون بكرامتهم الإنسانية.

أرفف المتاجر.. تبرع بالطعام الزائد بقانون حكومي

بعد نجاح الفكرة أنشأ “ماسيمو بوتورا” مؤسسة “طعام الروح” في مدن أخرى مثل لندن وريو دي جانيرو وباريس وميلانو، وجاء طهاة عالميون للطبخ في “ريفيتوريو أمبروسيانو”، مبتكرين وصفات جديدة يمكن للمتطوعين تكرارها في المستقبل، وكان “أندريه تشيانغ” أحد المساهمين في الطبخ، ولذا فسوف يطهو اليوم لمئة شخص، بالتعاون مع الطاهية المقيمة “إيلينيا”.

طهاة عالميون يشاركون في تجربة إطعام المشردين

أعدَّ “أندريه” وجبة شهية من ثلاثة أطباق، واستخدم فيها كل ما جاءه من الطعام الزائد على أرفف المحلات الكبيرة، فهناك لحوم ودجاج ومعكرونة ولبن وصلصة طماطم وغيرها الكثير، وجهّز قائمة طعامه، كالأرز مع الجبن، وصلصة الأعشاب وبعض الفاكهة، ودجاج مع الفلفل الحلو، وسوتيه رافيوللي الفليفلة، والتحلية مثلجات الكبّاد ومثلجات الريكوتا.

سكان ومشردون يتناولون معا وجبات الطعام المجاني الشهية

وفيما بعد أقرت الحكومة الإيطالية قانونا يشجع المتاجر الكبرى على التبرع بما يزيد على أرففها للجمعيات الخيرية، بوحيٍ من فكرة “طعام الروح”، وبعد ثلاث سنوات من المعرض العالمي أصبح المطعم المؤقت أساسيا ودائما في غريكو، ويديره فريق متفانٍ من الطهاة والمتطوعين، ويبدؤون يوميا في السادسة مساء بتسجيل الضيوف لأخذ أماكنهم.

“رحلة رأيتُ فيها الجانب المشرق والمظلم من المدينة”

في بداية مشروع الريفيتوريو في غريكو امتعض السكان وقالوا: لا نريد مشردين بيننا، ولكن مع مرور الوقت اكتشفوا أن هؤلاء هم مجرد أناس عاديين، ويندمجون بسرعة معهم، فقد غيّر المشروع المنطقة وسكّانها، وصاروا اجتماعيين أكثر مع تلك الطبقة المستضافة.

يقول “أندريه”: كان يوما طويلا ولكنه مثمر، وترك الضيوف كلمات شكر قبل أن يغادروا، فقد أعجبتهم الأطباق كثيرا، وعند الانتهاء توقفوا ليطلبوا رؤية الطاهي ويُثنوا عليه ، وقال أحدهم: هذه أفضل مثلجات تذوقتها على الإطلاق، وقال آخر: أنا لا آكل الفليفلة الجرسية، ولكنها كانت لذيدة للغاية هذه المرة. كانت رحلة متناقضة رأيتُ فيها الجانب المشرق والمظلم من المدينة، وجعلتني أعيد التفكير في رسالة الطهي.

سكان ميلانو يشاركون المشردين في طعامهم ليكتشفوا أنهم مجرد أناس عاديين

يقول “ماسيمو”: لقد طهونا كل المواد التي كان يفترض أنها زائدة ولا حاجة إليها، ورأينا أناسا ودودين موجودين من أجل آخرين يحتاجون إلى المحبة أكثر منهم، وهو ما لا يحدث في أرقى مطاعم العالم، إنها أكثر اللحظات فخرا لكوني طاهيا، وهو أمر يجعلك تدرك كيف يغيّر الطعام البيئة والمجتمع، ويجلب السعادة.

إن ثُلث الطعام المنتج يتجه إلى حاويات القمامة مباشرة، ففي 2007 استُخدِمت مساحة بقدر مساحة كندا والهند مجتمعتين، لإنتاج طعام لم يستهلك، فنحن نهدر الطعام في كل حلقة من سلسلة إنتاجه، من الحصاد إلى التوزيع إلى الاستهلاك، بسبب مشاكل التسليم والتخزين والنقل.

قطعة إسفنجية بمذاق اللحم.. غذاء تصنعه الكيمياء

التقى “أندريه” بالكيميائي الفرنسي “هيرفي تيس” رائد “الأكل الجزيئي” الذي بنى أفكاره على استخدام العلم لوقف هدر الطعام. يقول “أندريه”: التقيت به أول مرة في 2001 عندما كنت أعمل في مطعم “بيير غانيير”، وكان يتردد علي “بيير”، إنه شخص غير عادي ولديه معرفة كبيرة بعلوم الغذاء، وقضى حياته يفكر فيما سيأكله البشر بعد 30 عاما.

الكيميائي الفرنسي “هيرفي تيس”، رائد “الأكل الجزيئي”

تأسس فن الطهي الجزيئي في 1988 على يد “هيرفي تيس” والفيزيائي “نيكولاس كورتي”، ويعنى بدراسة التغيرات الفيزيوكيميائية على الطعام عند طهيه. وفي 1994 طرح سؤالا جدليا في مجلة علمية: “لم لا نستخدم مركبات كيميائية صرفة في المطبخ؟” وهو ما ولّد فكرة ثورة تدعى “الطبخ بالنوتة تلو النوتة”، وهي استخدام مركبات كيميائية لصنع الطعام.

يقول “هيرفي”: يتكون الطعام الطبيعي من الماء والسيليلوز والسكريات والبروتينات وغيرها، فلماذا لا نستخدمها صرفة في إنتاج الطعام؟ سأصنع لك شريحة لحم صناعية “ديراك” من مواد أولية، سيليلوز من الجزر، بروتين من البيض، دسم من الزيت، وبعض الملح، ونكهات أولية مستخلصة من الثوم والبصل والفلفل على شكل قطرات، والنتيجة قطعة إسفنجية بمذاق اللحم، ولا تهدر أي ذرة منها.

صناعة الطعام من المركبات الكيمائية الخالصة أمر ممكن ومقبول لدى البعض

وعندما نشرت ورقة البحث تلقّى “هيرفي” تهديدات بالقتل، بتهمة تسميم الناس والعبث بمكونات طعامهم، وبنظره فإن أي محصول نباتي أو حيواني له مدة صلاحية، ولكن المركبات الكيميائية المستخلصة من المحاصيل لا تفسد أبدا. وبدل أن نشتري شاحنة لنقل المحاصيل بـ200 ألف دولار، لِم لا نشتري نظام تحليلٍ بـ2000 دولار، لتحويل المحاصيل إلى مساحيق، وفي ذلك تقليل الهدر واستدامة وقضاء على الجوع.

“النوتة تلو النوتة”.. منتج صناعة مركبات الطعام الجزيئي

يظهر “هيرفي” في الندوات والحفلات والمناسبات لتقديم منتجه “النوتة تلو النوتة”، ويحاول تشجيع الطهاة الناشئين على تبني أفكاره باعتبار أنهم هم من يمكن أن يترجموا الأفكار إلى واقع، وهذا برأيه حماية للأجيال الشابة وأبناء المستقبل والبشرية جمعاء، ويحلم “تيس” بمحلات بقالة فيها زجاجات تحتوي مساحيق لجميع أنواع الطعام، تماما مثل مسحوق نكهة “الفانيلا”.

وجبة دجاج مصنعة كيميائيا لها نفس طعم ومذاق وفوائد الدجاج الطبيعي

وعلى خطى أستاذه “هيرفي”، يحاول “ميخائيل بونتيف” مؤسس “إيكيموسو” -وهو أول مورد تجاري لمكونات النوتة تلو النوتة- أن يترجم هذه الأفكار واقعا. يقول: الطعام لا يتكون من مركب واحد، بل هناك مركبات لإعطاء المذاق وأخرى لإعطاء الرائحة، فإذا أردنا تفكيك مكونات الفلفل الحار، فيجب أن نفصل المكوّن العطري للرائحة عن المكوّن الحارّ للطعم، هل أحضر لك تفاحة حارّة؟

مركبات كيميائية متنوعة لإعطاء المذاق والرائحة

يوجد اليوم في الاتحاد الأوروبي 2000 مركّب حُلّلت واعتُمدت للاستهلاك البشري، والذين يؤمنون بفكرة الطعام الجزيئي لديهم حاسة سادسة تجعلهم يستفيدون من المركبات الموجودة في الطبيعة لإنتاج مركبات الطعام الجزيئي، حتى لو كانت طعاما متعفنا أو فواكه تالفة، فالمكونات الكيميائية موجودة فيها وهي صالحة.

“نطهو ما يحتاجه الناس لا ما يريدونه”

يعاني عُشْر السكان من الجوع، وهناك عدد يماثلهم يعاني من السُمنة، وفي البرتغال ترتفع معدلات السمنة لدى البالغين كما هي لدى الأطفال، والأمراض المزمنة هي من التحديات الرئيسية للصحة العامة. وسنلتقي “نونو ربييرو”، وهو طاهٍ ناشط في مجال الأطعمة الصحية، وقد قابله “أندريه تشيانغ” يوما في مؤتمر حول البيئة والتغير المناخي، وتوافقا على فكرة أنْ “نطهو ما يحتاجه الناس لا ما يريدونه”.

مزرعة للنباتات الورقية العضوية يشرف عليها “نونو ربييرو” وهو طاهٍ ناشط في مجال الأطعمة الصحية

وقد افتتح “نونو” مطعمه الأول في لبنان، وهو متخصص في الأطعمة النباتية العضوية، واليوم يرعى مزرعة للنباتات الورقية العضوية، وعندما عاد للبرتغال عام 2014 قام بحملة لإقرار تشريع “ضريبة على السكّر”. سأله “أندريه”: ما الذي جعلك تتحول إلى النباتية؟ فقال: حدث أمر جلل غيّر مجرى حياتي، فقد توفي والدي نتيجة إصابته بالسرطان، وكان الأمر خلال أسبوع فقط من اكتشاف المرض، كان مولعا باللحوم والسكّر.

كان “نونو” أول طباخ يُستدعى لندوة في منظمة الصحة العالمية تُروِّج للحمية المتوسطية، “فالمطبخ المتوسطي يحتوي على 7% فقط من اللحوم، وعندما تتجنب اللحوم فأنت بعيد عن الهرمونات والمضادات الحيوية، والبروتين الحيواني يشكل 55% من ملوثات كوكب الأرض، وإنتاج كيلوغرام من اللحم البقري يحتاج إلى 50 ألف لتر ماء، فإذا لم نغير عاداتنا الغذائية فلن يتحسّن كوكبنا”.

رحلة الغابة.. محاولة لإنقاذ أطفال البرتغال من السمنة

في البرتغال يعاني واحد من كل ثلاثة أطفال من زيادة الوزن، وهو الجيل الأول في التاريخ الذي يكون متوسط العمر المتوقع فيه أقل من والديهم.

ويعمل “نونو” في مدرسة “ريد بريدج” على مشروع تغذية الأطفال بأغذية من منتجات نباتية عضوية. يقول: نتلقى مكونات جيدة من المزارعين المحليين، ونحضر هذه الوجبات المذهلة للأطفال كل يوم، ينقصنا التمويل والاستدامة، ولو قدِّر أن نحصل على هذه المكونات بشكل مستمر، فيمكننا تحضير وجبات نوعية، بنفس التكلفة التي ينفقها الأهالي على الوجبات المعالجة التي فيها كثير من السكريات والدهون الضارة.

رحلة لأطفال المدرسة إلى الغابة في لشبونة للتعامل مع الطبيعة ومكوناتها

وقد نظّمَ رحلة لأطفال المدرسة إلى الغابة القريبة في لشبونة، يلتقون فيها مع الطبيعة ومكوناتها على الحقيقة، ويفهمون العلاقة بين غذائهم والأرض التي تنتجه، ويكوّنون صورة واضحة في أذهانهم عن علاقتهم بالطبيعة الأم. ومثلما يكون هذا ضروريا للأطفال فهو ضروري للكبار أيضا، سواء في البرتغال أو في غيرها من أصقاع العالم.

لقد حوّل “نونو” حبه لأبيه إلى حب للمجتمع بأكمله، فلديه طاقة واندفاع كبيران لإحداث تغيير إيجابي على أسلوب التغذية في مجتعمه، ومحاولة استصدار قوانين لتقليل الأضرار المحدقة بالأفراد، جرّاء العادات الغذائية السيئة.