“غضب النيل”.. حين يلتهم النهر حقول الزرع والحلم والمأوى

يختلط الحب والخوف في علاقة سكان ضفاف النيل بنهرهم منذ قديم العصور، فالنيل مصدر رزقهم وسر وجودهم، وهو رمز الخصب وشريان الحياة، ولكن الخوف من غضبته ساكن فيهم أبدا.

يسلط فيلم “غضب النيل” -الذي أنتجته الجزيرة الوثائقية- الضوء على فيضان النيل عام 2020، فقد اجتاح قرية ساردية السودانية الواقعة على بعد 190 كيلومترا شمال العاصمة الخرطوم، لتضاف إلى آلاف القرى السودانية المنكوبة.

ويُشكّل فيضان النيل هاجسا كبيرا لسكان القرى السودانية على مسار النهر، حتى إن حياتهم يسودها الخوف والترقب في شهري يونيو/حزيران ويوليو/تموز من كل عام، كما يقول خلف الله طه من لجنة ترتيبات الفيضان.

فيضان النيل.. مياه بيضاء تفسد الزرع ولا تصلح الأرض

تكررت قصص فيضان نهر النيل في الحضارات القديمة المتاخمة للنيل وفي الأساطير الفرعونية، وارتبطت أسبابها بأحزان تخص آلهتهم، وظل أهالي تلك الحضارات يقدمون القرابين البشرية من الجنسين لمياه النيل خوفا من غضبته، وحمدا لأنه كان سببا في تخصيب أراضيهم الزراعية، عبر الطمي الذي تحمله مياه الفيضان للأراضي الزراعية.

قرية ساردية (السودان) بعد أن غمرها فيضان النيل سنة 2020

ويلاحظ يوسف الحاج -من لجنة ترتيبات الفيضان- أن مياه هذا الفيضان كانت خالية من الفوائد العضوية، ولم تساعد في الإنتاجية، حتى أن إنتاجية المحاصيل كانت قليلة، لأن سد النهضة تسبب في ترسيب الطمي في الأراضي الأثيوبية وهي التي ستستفيد منه، حارما السودان ومصر منها.

للنيل تاريخ طويل مع البشر عبر العصور، فقد كان الناس يقدمون له قرابين بشرية كي يفيض

ويتحدث مواطن آخر بحزن أن تعب سنين ذهب سدى، بعد أن غمرت مياه الفيضان أراضيهم الزراعية، ويتفق الجميع أن مياه الفيضان كانت غريبة، فهي بيضاء وخالية من الطمي. بينما يجزم عادل حماضة -وهو أيضا من لجنة ترتيبات الفيضان- أن هذه المياه ليست مياه فيضان، بل هي مياه خزانات.

انهيار الحاجز الترابي.. يوم لن ينساه سكان القرية

يبني السودانيون القاطنون على ضفاف النيل قبل موسم الفيضان سدودا ترابية عساها تحجز عنهم الماء المندفع، لكن منسوب فيضان 2020 ارتفع إلى درجات غير مسبوقة، فخلّف خسائر فادحة بمقتل 124 شخصا في 8 ولايات، وخسائر مادية وزراعية وحيوانية تقدر بأربعة مليارات دولار، وما يقدر بمئة ألف منزل منهار.

الساتر الترابي الذي صنعه أهل قرية ساردية لم يغن عنهم شيئا يوم فاض النيل

يقول خلف الله طه: رابطنا زهاء الشهر، نخرج في الصباح إلى الحاجز الترابي، وكنا قرابة 400 شخص، بعضنا أخذ عطلة من العمل لكي يظل مرابطا.

ويصف أجواء ما قبل الفيضان قائلا: في اليوم الذي لن ينساه أحد من سكان حي ساردية غرب أو الشقالوة، وهو يوم 10 سبتمبر/ أيلول 2020، كان الجو متقلبا، بين برق ورعد ومطر يهطل بغزارة، وكلما زمجر الرعد كنت أقول لهم: استخدموا الساتر مثلما يفعل العساكر في القتال، وقبيل الفجر سمعنا خرير المياه، حتى إن الموج كان يضرب في الحاجز الترابي بقوة حتى دمّره.

“لا يمكن إيقاف فيضانه، حتى لو جاءت القوات المسلحة”

بما أن المصائب لا تأتي فرادى، فقد رافق الفيضان الضخم خروج العقارب، فحالت بين الأهالي ومحاولاتهم وقف الفيضان، إذ لدغت كثيرين منهم.

يقول خلف الله: ركضت مسرعا إلى البيت، وأيقظت النائمين من أهلي، طالبا عونهم في تنبيه سكان القرية، خصوصا أنه لا يمكن تنبيهم من خلال ميكروفون المسجد لانقطاع التيار الكهربائي. قلت لزوجتي إن النيل لا يمكن إيقاف فيضانه، حتى لو جاءت القوات المسلحة.

استعدادا لفيضان نهر النيل، الأهالي يضعون سواتر ترابية لعزل الماء عن بيوتهم

وهنا يقول أحد الأهالي: سمعت نداء خلف الله يذيع النبأ في الطرقات، فخرجت مسرعا لمكان انهيار الحاجز الترابي، اندهشت! ولم أكن أتوقع أن يكون اندفاع الماء بهذه القوة، وعندما وصلت الحاجز الترابي وجدت الناس يعملون بكل همة، يحملون جذوع النخل ويضعونها في مكان انهيار الترس، ورغم أني أعاني من الانزلاق الغضروفي وكنت أتألم منه ألما شديدا، فقد نسيته تماما في تلك اللحظة، وكنا نحاول إصلاح الحاجز الترابي وإيقاف تدفق الفيضان، ولكننا فشلنا، وبدأت البيوت القريبة بالتداعي، حينها توقفت عن العمل وركضت باتجاه الناس وأنا أبكي، خرج الناس جميعا ورأوا المساكن وهي تتداعى، وجريت نحو المسجد وكنت أنادي في الناس أن يعودوا إلى مكان الحاجز الترابي، لكن كانت صعبة إعادة الحاجز الترابي.

نزوح السكان.. قرى خاوية على عروشها بعد الفيضان

رغم فداحة المصاب وتداعي البيوت وغرق الأمتعة، فقد كان لدى الأهالي يقين بأن الله سيعوضهم خيرا عن ما فقدوه، كما يقول أحدهم. ويسود الجدل بين سكان القرية المنكوبة عقب كل كارثة فيضان؛ فالشباب يفضلون الهجرة خارج القرية إلى المدن الكبرى أو القريبة، للبحث عن أسباب رزق جديدة عوض هذه النكبات المتتالية.

بسبب فيضان النيل، نزح الكثير من الناس من بيوتهم إلى القرى المجاورة

لقد فعلها من قبل سكان قرية واد رملي التي تبعد 75 كلم شمال العاصمة الخرطوم، لمّا توالت عليهم كوارث الفيضان، فمكثوا

بعض الوقت في الخيام، ثم اتخذوا مباني ثابتة تتأسس عليها قرية جديدة تحمل ذات الاسم، ولكن بعيدا عن الأخطار المتكررة.

يقول إبراهيم عبد الرحيم: ولدت في هذه المنطقة وعمري الآن 71 سنة، سمعت بفيضان عام 1946، وكيف دخلت مياه الفيضان القرية من جهة الشرق، وتكرر الأمر في فيضان عام 1988، وفي كل عام تزيد كمية مياه الفيضان، وفي كل عام نزيد من حجم الحاجز الترابي، لكن فيضان 2020 تغلّب علينا، إذ لم نكن نتخيل أن يهاجر شخص من هذه القرية، ولكنه قدر الله.

خلف الله طه تنقل بسبب فيضان النيل بين أربعة بيوت

ورغم الدمار، فإن في موسم الفيضان بعض الفوائد، فهو يوفر فرصا أسهل لصيد الأسماك، خاصة في المناطق الضحلة، إذ تدفع كثافة الطمي الأسماك للخروج من أعماق النهر، فيسهل الصيد، وترخص أسعارها، وهو ما يُشكّل عزاء للبعض عن ما فقدوه في الفيضان.

سد التراب.. جهود حماية القرية من الموسم القادم

يرى يوسف الحاج -من لجنة ترتيبات الفيضان- أن الفيضان القادم سيكون أعنف، ويقول: إذا انهار سد النهضة -لا قدر الله- فستكون كارثة، لأنهم في كل عام يملؤون البحيرة، كما أن السد يحجز كمية من الطمي مما يرفع منسوب المياه.

سد ترابي كبير احترازا لفيضان أكبر سنة 2021

ويرى بعض الخبراء أنه لحل مشكلة هذه المنطقة لا بد من بناء حاجز ترابي كبير بإشراف مهندسين مختصين، حتى لا يكون عشوائيا، وبالفعل فقد تضافرت الجهود الشعبية في بناء السد الترابي المعروف بـ”التَرَس”، ولكن بعض المزارعين اعترضوا مساره العابر على أراضيهم ومحصولاتهم الزراعية.

وهنا يشدد بعض الأهالي على أن بناء هذا الحاجز مصلحة عامة، وينبغي تفعيل قانون الطوارئ ضد كل من يعترض بناءه، ويجب أن يُسجن، فمن غير المعقول أن تغرق القرية بأكملها من أجل مصلحة ضيقة لبعض الناس.

مقتل 124 شخصا في فيضان النيل سنة 2020 وخسائر مادية فادحة

وتتواصل جهود بناء التَرَس، ويتمنى الجميع أن لا يباغتهم فيضان جديد قبل أن ينتهوا من بنائه، فقد وُلدوا في هذه القرية وترعرعوا فيها، ولا يرغبون في أن يضطرهم الفيضان إلى الرحيل عن موطن نشأتهم.

إعادة الإعمار.. طوب إسمنتي لبناء المنازل المقاومة

استأنف أهل القرية -الذين قاوموا فكرة الهجرة- إعادة ترميم وإعمار منازلهم بما تيسر من معونات، وباستخدام الطمي الذي جلبه الفيضان لصناعة الطوب. وفي عام 2021، بدأ أعضاء لجنة الفيضان في توجيه الأهالي للبناء بالطوب الإسمنتي الذي يُقاوم مياه الفيضان، على عكس طوب اللبن الذي يذوب في المياه، وبدأت اللجنة في توفير الطوب الإسمنتي.

رغم ظروف النزوح التي تسببت للطلبة بحالات نفسية، إلا أن ابنة خلف الله طه اجتازت الاختبارات ونجحت بتفوق

وقد أثّر الفيضان كثيرا على أهالي القرية، فقد تنقّل خلف الله طه بين أربعة منازل بعد وقوع الفيضان، وسكن لدى قريب له ومعه جمع من الأقارب، حتى أصبح البيت أشبه بعنابر المستشفى، كما يقول.

ويروي أن وقوع الفيضان صادف اختبارات دراسية لابنته، فأثّر عليها نفسيا بالسلب بعد أن أغرقت المياه كل كتبها، وقد حاول وزوجته التخفيف عن ابنتهما، ودفعها للتسليم بقضاء الله، وتشجيعها على خوض الامتحانات رغم كل الظروف، ولم يزل هذا القلق إلا بإعلان النتائج بنجاح باهر خفف كثيرا من آلام الأسرة.

إنجاز الترس.. حائط الأمان قبل مباغتة الفيضان

بعد نحو 6 أشهر من الفيضان يتفق الجميع أن أولى أولوياتهم إنجاز التَرَس في أسرع وقت، فمن ناحية يخشون من فيضان جديد يدمر بيوتهم، ومن ناحية أخرى لا يرغب أحد في الرحيل عن قريته، رغم أن حاكمة الولاية تدعوهم للرحيل، فهل يخرج السمك من الماء؟ كما يقولون.

مع فيضان النيل تزداد فرصة صيد الأسماك وينخفض سعرها

ومما يزيد الآثار السلبية للفيضان أنه مفاجئ، ويمكن أن يأتي في أي لحظة، وهو أمر يُبقي قلق سكان القرية دائما، ويضاعف منه تخوفهم من انهيار السد الإثيوبي في أي لحظة، إضافة إلى الخشية من هطول الأمطار. ويستحث أعضاء لجنة الفيضان المسؤولين والعاملين على إنجاز التَرَس، فالجميع -كبارا وصغارا، رجالا ونساء- يخشون أن يباغتهم الفيضان مجددا قبل الانتهاء منه.

ومع تصاعد أخبار ملء سد النهضة في إثيوبيا، واقتراب موسم الأمطار -الذي يتهيب موعده الجميع- يتصاعد العمل، ويبلغ ذروته بإكمال إنجاز الاحترازات الضرورية المطلوبة للتصدي للفيضان المحتمل. وأخيرا اكتمل الحاجز الترابي في يوليو/تموز 2021.

قياس منسوب ارتفاع الماء.. خط الدفاع الأول

في محاولة للتنبؤ بالفيضان قبل وقوعه، يعمل علي العوض -وهو مهندس بوزارة الري والموارد المائية- مستخدما جهاز قياس معدل المياه الذي يصفه بخط الدفاع الأول، فبقياس كمية المياه أولا بأول، وبالتنسيق مع إدارة سد الروصيرص يمكن إيجاد تصريف مناسب للمياه.

سد الروصيرص القريب من الحدود السودانية الإثيوبية

تتحسب المؤسسات الحكومية لاحتمال تكرار فاجعة الفيضان، وتستمر في الرصد لمناسيب النيل وكمية المياه في الخزانات والسدود على مجرى النهر، مما يُسهّل عليها تقديرات التحكم في المياه تخزينا وتفريغا ابتداءً من خزن الروصيرص القريب من الحدود السودانية الإثيوبية.

يُرجّح الخبراء أن أسباب فيضان النيل الأزرق ونهر عطبرة ونهر النيل، وبالتحديد الفيضانات العالية في السنوات الماضية، ترجع إلى الاحتباس الحراري وغزارة وزيادة معدلات الأمطار في الهضبة الإثيوبية.

سد النهضة.. هواجس طوفان يغرق مدائن دول المصب

تجاوزت مصر آثار الفيضانات من خلال سدودها، وخاصة بعد اكتمال السد العالي مما مكنّها من تخزين المياه بكميات كبيرة. وفي المستقبل، يُتوقع أن يحجز ويُخزّن سد النهضة الجزء الأكبر من فيضان النيل الأزرق في الفترة الزمنية التي تهطل فيها الأمطار بغزارة خلال أشهر الصيف، هذا إذا اكتمل بناء الحاجز الأوسط للسد، مما يعني أن المياه في النيل الأزرق ستكون أقل من قيمة الفيضان بحوالي المترين، مما يُسهّل تدفق الأمطار والسيول لتصب في نهر النيل.

خريطة توضح مسار نهر النيل وموقع سد النهضة منه

وقد بدأت إثيوبيا في ملء سدها، فتزايدت معدلات القلق في السودان ومصر، فالخرطوم من جانبها رفضت التصرفات الأحادية، وكذلك القاهرة. لم تخلف أديس أبابا مواقيت ملء السد العظيم الجاثم بالقرب من حدود السودان كخفير مهيب يراقب النيل عن كثب، فالنيل منذ الآن ليس كسابق عهده، فقد تغيّر لونه وطعم مياهه.

وفي فيضان عام 2021، بلغت المياه المتدفقة على النيل نسبة غير مسبوقة، خاصة النيل الأبيض، ولكن الاستعدادات الفنية للجهات الرسمية والجهود الأهلية حدت من أضرار فيضان 2021 بشكل ملحوظ، بينما نجا هذه المرة عدد من المناطق كان من بينها قرية ساردية.

ويستبعد غالب المختصين انهيارا كاملا لسد النهضة، ولكن القلة التي ترى إمكانية انهياره لأي سبب كان، لا يعني ذلك عندهم مجرد فيضان كاسح، ولكنه حينها سيكون طوفانا يُنهي الحياة تماما من على ضفاف النيل من حدود السودان مع إثيوبيا وحتى أقصى شماله.