قصيدة “النهر” السينمائية.. بين الماء والإنسان

يقول “والتر باتر” الناقد الأدبي الإنجليزي والباحث في الجماليات: “كل الفنون تسعى جاهدة لأن تصبح موسيقى”. ولعلّه يريد ما تشتمل عليه من إيقاع وتناغم يلامسان الروح مباشرة، ويخترقان ما يضربه العقل من تحصينات حولها.

ولا شك أننا سنصادق على هذه المصادرة بلا تحفّظ حينما نشاهد فيلم “النهر” (River) الذي أخرجته “جينيفر بيدوم” و”جوزيف نيزيتي” (2021)، فالمتفرج يجد فيه وهو يستكشف العلاقة المركبة بين البشر والأنهار سيمفونية حقيقية تُعزف من تناسق الأشكال والألوان، لا الأصوات والنغمات.

سيمفونية الطبيعة.. فيلم من السينما الوثائقية الشعرية

يُستهل الفيلم بتشكيل بصري بديع، فالغسق ينشر في الأعلى ألوانه المتدرّجة من الوردي إلى البرتقالي إلى الأحمر القاني في الغلاف الجوي، ويعكسها في الأسفل على صفحة ماء النهر بشكل تناظري، ويعلمنا ضمنا أنه يجعل البحث عن التشكيل البصري المستلذ الذي يمتّع العين ويخاطب الوجدان هاجسه، وعبره يبلغنا رسالته، عوض أن يرهقنا بالبحث في القضايا التي تكد الذهن.

ولتأكيد ما يُرسم في أذهاننا من انطباع، يعرض فرقة موسيقية تستعد للعزف، فيضبط أفرادُها آلة البيانو، ويعدّلون أوتار القيثارات وآلات النفخ، ويوجّه آفاق انتظارنا نحو عزف سيمفوني بديع، ومع أمر المايسترو أعضاء فريقه أن “ابدؤوا”، تأخذ الكاميرا في الحركة، فتلاحق تشكيل الأنهار على اليابسة عبر لقطات غطس مرتفعة تبحث عن الصور الكلية لمسارب الأنهار، وتلاحق تعرّجاتها بين الجبال والسهول، فتصوغ أعذب اللقطات وتلتقطها من أبدع الزوايا.

تجسّم الكاميرا حركة المياه البطيئة وتموجاتها وانكساراتها وانسيابها، فإذا الإيقاع الذي ننتظره ينشأ من التناغم بين المساحات والأحجام، أو من الصدام في الإضاءة بين النور والعتمة، وإذا المتفرج يواكب عزفا سيمفونيا بالفعل، لكن عبر عدسة الكاميرا التي تثبت طويلا أمام ما تلتقط واقعةً تحت سحره، أما إذا ما تحركت فتكون حركتها بطيئة حينا، متسارعة حينا آخر، متناغمة دائما مع إيقاع الحركة التي تجري أمامها.

لا تتصاعد الأحداث وفق تنظيم محبوك، ولا أثر لسيناريو معد سلفا، ولا شخصيات تظهر على الشاشة لتعرض شهادتها أو تجاربها، فكل جهود الإخراج توّجه نحو تشكيل الصورة، وعبرها يعلن الفيلم عن انتمائه إلى جنس السينما الوثائقية الشعرية التي تمدّ المتفرّج بالمشهد الجميل المدهش.

صناعة الصورة.. عدسات تنساب مع رقص الطبيعة

مثلت لقطاتُ الغطس التي يعبّر عنها الفيلم بعين الطائر اختيارَ المخرج الأساسي، فقد كان يعوّل على الطائرات المسيرة، لتدرك عدسة كاميراته ما لا تصل إليه العين من الزوايا والمواقع، فتمنح المتفرج له العينلى ترويض الأنهار الجامحة؟

ث  الأحمر القاني ها.ى الإنسان: ضعفه في هذا الكون هذ التعليق يتحوّل إلى عبد على الفيلموضعيات إبصار فريدة تجعله يراقب الأنهار من فوق السحب، أو من سفوح الجبال، أو يسابق التيارات ويحاكي حركتها وهي تهوي من أعلى الشلالات. ولا تنفكّ تعمل على استثارة دهشته بما تعكس من تناغم بين الألوان أو تباين بينها.

إجمالا يدرك المتفرّج بُعدا آخر للصورة يختلف عمّا عهدناه في الوثائقيات الكلاسيكية، فبدل أن تحشو أدمغتنا بالمعلومات، أو أن تعرض وجهات النّظر المختلفة، تعمل على جعل تقبلنا للصورة عاطفيا، فنتأثر بما في المرئي من تشكيل عجيب، ومهرجان ألوان بين اخضرار السهول والجبال وبياض الثلوج وصفرة الرمال، ونذهل أمام عظمة الطبيعة وبهائها.

ترصد الكاميرا حركة المياه البطيئة وتموجاتها وانكساراتها وانسيابها

كيف تتعاقب هذه اللقطات؟ وما مبدأ الربط بين ما تشكّله من المشاهد؟ كأن المخرج يستسلم بدوره إلى غواية صوره، فترد متداعية، يغلب عليها الوصف، ولا يكاد يجمع بيها نظام مخصوص غير البحث عن التشكيل الفاتن، لكن تحت هذه الطبقة السطحية يدرك المتفرّج ما يشدها من تتابع خطي يبدأ بظهور الماء وانبعاث الحياة في الأرض زمانا، وينتهي إلى ما يصيبها اليوم من الخمول والجفاف والقبح بعد القوة والنعومة والجمال، وينتهي إلى نزعة سردية كامنة ونبرة تفجعية قائمة، تنبهنا إلى ما يترصّد الحياة من خطر.

ترويض الأنهار.. سدود تحبس معبود الأمس وصانع الحضارات

يبدأ الصوت السارد بالعبارة “مع هطول المطر استيقظت الأرض من نومها”، ثم تُرصف المشاهد تباعا، فيغلب عليها تتابع خطي يخترق الأزمنة البعيدة كما أسلفنا، وعبرها يؤرّخ الفيلم على نحو ما لمراحل الحياة، فإليها يردّ تشكيل تضاريسها، ولأنه واقع تحت فتنة الصور، يجعل الأرض أشبه بقطعة من الألماس، ويتخذ الماء نحّاتا يشكلها بعناية.

وبما أن الأنهار يرجع إليها فضل ازدهار الحضارات ونشأة المدن على ضفافها، يعرض الفيلم مشاهد الصيد أو الزراعة أو الملاحة، ولكرمها يردّ عبادة الإنسان لآلاف السنين، وجعلها سبيله لغسل خطاياه ومصدرا لأحلامه، لكن علاقته بها لم يسدها الوئام دائما، فكثيرا ما يتحوّل الود إلى صدام قاتل مدمر، ذلك أن الأنهار عند فيضانها لا تبالي بأحلام البشر أو روابط الصداقة التي تجمعها بهم.

لهذا عمل الإنسان على “ترويضها والحدّ من همجيتها” كما يقول صوت المعلق، فاعترض سبيلها وشيّد السدود وتحكّم بإيقاع تدفّقها، فأضحى معبود الأمس خاضعا للعابد اليوم، وتحوّل من أداء الصلوات إليها وتقديم القرابين إلى الاستمتاع بمياهها سباحة وتجديفا، وغيّر مجاريها وأعلن سلطانه عليها، وأضحى هو من يمارس همجيته.

تصلب الشرايين.. بطش الإنسان يقتل أوردة الكوكب

تعرض اللقطات تشكيلات مختلفة للأنهار، فبعضها ينحت في السهول، وبعض في الصحراء، وثالث يتسرب بين الجبال، ورابع يشق الجليد. وفي الآن ذاته تعرض اللقطات حالاتها المختلفة، فمنها ما يجسّد القوة، فيتدفّق فيضان الماء الثائر، وتسحب أمواجه كل ما يقع في طريقها، ومنها ما يجسّد البهاء والجمال، فينساب ماؤها بلطف ويشكّل موجات تلمع تحت أشعة الشمس، بينما يشيع اخضرار ضفافه الإحساس بالنعومة والارتواء.

الطحالب السامة المنتشة والتي تخلف الكوارث البيئية المفجعة

وعامّة تجسّد اللقطات المختلفة الحياة في كل وجوهها، ويشكّل الفيلم استعارة كلية يؤكدها التعليق، فالأرض جسد، وشرايينها التي تمدها بالطاقة والغذاء وأسباب الحياة هي الأنهار، فسلامة هذا الجسد من سلامة شرايينه، ومما يسري فيها من الدماء.

وفي منتصف الفيلم يتغير مضمون اللقطات، فتُصاب تلك الشرايين بالتّصلب، تتيبس شرايين الجسد البشري بتراكم الدهون والكولسترول، أما شرايين الأرض فتفقد نعومتها وقدرتها على إيصال الغذاء إلى الأنسجة، بما يتراكم فيها من الأوساخ ومن الكيميائيات السامة بسبب التلوث الصناعي، وما تخلف الحروب اليوم من مواد مشعة، فتصبح مياه الأنهار غير قابلة للشرب أو السباحة.

وتنتشر الطحالب السامة وتخلف الكوارث البيئية المفجعة، فالاخضرار الممتد على ضفاف الأنهار في الشطر الأول من الفيلم يتحوّل إلى أسماك ميتة تنثر على الجانبين، ونتيجة للاحتباس الحراري تشح المياه، فتتشقق الأرض ويجف ماؤها، وتنتهي الصورة إلى لقطات سريالية، فتنتشر هياكل السفن في الصحاري التي كانت بحيرات في زمن غير بعيد.

ويرفض الفيلم الانتهاء على هذه الصور القاتمة، وكأنه يريد أن يبقي شيئا من الأمل، فيؤكد قدرة الأنهار على التعافي، حتى نكون أفضل سلف لمن سيأتي بعدنا، لكن هذه الرسالة الإيجابية تبدو مُسقَطة أمام فظاعة الواقع.

تعليق الفيلم.. نص تفسيري يحد خيال المتفرج

يجعل الفيلم الموسيقى الناعمة خلفية لسيمفونيته البصرية، لكن من حين إلى آخر يتدخل صوت السارد بالتعليق، فلا يقدّم معلومات كثيرة ولا يضيف شيئا تقريبا، بل كل ما يذكره إنما هو من المعلومات الذائعة التي لا تغيب عن ذهن المتفرج (مثل دور المياه في بعث الحياة، وخطر التلوث، وتبعات الاحتباس الحراري..)، فيشكّل التعليق عبئا على الصورة البديعة، ونشازا يحدّ من إيحاءاتها ومن طاقتها الشعرية.

لا يسعنا هنا إلا أن نتذكر الفيلم المهم “ميكروكوسموس” (Microcosmos) أو “الوجود الصّغير” الذي أخرجه “كلود نيردزاني” و”ماري بيرينو”، فقد رصد المخرجان الحشرات التي تعيش بين الأعشاب، انطلاقا من تصورات جمالية شاعرية مجددة لا تختلف كثيرا عن منطلقات فيلم النهر.

فقد جعلاه عرضا بصريّا تدعمه من حين إلى آخر موسيقى تعبيرية ناعمة، لكن سبب نجاح الفيلم وحصوله على الجوائز الكثيرة يعود أساسا إلى الاستغناء عن كل تعليق مفسّر، فالتعليق في هذه الأفلام التي تنتمي إلى التبسيط الفيلمي ثرثارة تنصرف إلى الحيثيات والشروحات والتعليقات والشهادات، وهذا ما يفقر الصورة، لذلك وجد مخرجا فيلم “ميكروكوسموس” أن “من شأن النّص التّفسيري أن يحدّ من خيال المتفرّج”.

تأملات الكون.. قصيدة تنطق برثاء الطبيعة وهجاء الإنسان

تغيب عن الفيلم الأحداث التي تترابط وفق بناء حركي متنامٍ، لترصد ما يطرأ على الفضاء من تحوّلات، ويغيب السّرد تقريبا، باستثناء إشارات إلى نشأة الكون، ودور الأنهار الرئيسة بالفيلم في ضمان الحياة، والانتكاسة التي تهددها اليوم، رغم تطلع المخرج إلى مستقبل أفضل.

هذا ما يشيع سمة الوصف بين مختلف لقطاته، ويغلّب اللقطات العامة التي تبتعد عن الموضوع المصور كفاية لتلتقطه في كليته، وتتابع تعرّجاته وامتداده على الأرض. وفضلا عن هذه الوظيفة التأطيرية التي تعمل على تقديم الموضوع وتبسط تشكلاته المختلفة، تظهر وظيفة ثانية تتجلى من خلال بنية اللقطة التكونية.

فاندماج المتفرج في وظيفة الفيلم الوصفيّة يقود إلى تأمل الكون وعظمته، ويجعل المتفرّج يقع على معنى مقرّر سلفا، فهذا العالم من حولنا رحب جميل، ووجود الأنهار باعث للحياة، لكن الإنسان ذلك الكائن الضعيف يتطاول على جلال الكون وبهائه، فيفسده ويدمر أسباب وجوده هو نفسه، فيكون هذا الفيلم الشعري في الآن نفسه مرثية للطبيعة، وهجاء للحضارة وللمدنية وللإنسان من خلالهما.

“النهر”.. تجربة فنية تضاهي أيقونات السينما المبهرة

يبقى الفيلم تجربة سينمائية مميزة تكاد تذكرنا بأيقونات سينمائية تجمع بين الخلفية الفكرية العميقة والشاعرية السّينمائية، وبين توثيق عناصر من الواقع أو الطبيعة، ولعلنّا نلمس فيه مؤثرات لفيلمين مهمين من هذا النمط السينمائي الوثائقي، ففيه شيء من فيلم “الرجل صاحب الكاميرا” (Man with A Movie Camera) للمخرج “دزيغا فرتوف” (1929).

وفيه جعل “فرتوف” الكاميرا عينا ميكانيكيّة تقترح على المتفرّج رؤيتها الخاصة للأشياء، بما لها من قدرة تعلو على القدرة البشرية، فتساعد على إدراك الموضوع من زوايا مختلفة لا تدركها العين المجرّدة، وتحوّل الإيقاع الحركي إلى سمفونية بصرية، انطلاقا من تناغم ألوان الأنهار وما يحيط بها، أو أحجامها أو أضوائها، فتصوغ إيقاعا مرئيا يضارع إيقاع الموسيقى أو القصائد. ويغرس الشعر في البنى البصرية.

وفي نفس الوقت يحمل الفيلم شيئا من فيلم “ميكروكوسموس” (Microsmos) الذي لاحق الكائنات المتناهية في الصغر بالأسلوب الشاعري نفسه والمونتاج نفسه، و”ميكروسموس” تعني الوجود الصغير. ولم تكن معدّات التصوير السينمائي التقليدية تناسبه، لذلك اعتمد كاميرات ذات دقة مجهريّة تُحمل حينا وتُوجه بروبوت حيانا آخر، وتطارد الحشرات عبر طائرات هليكوبتر صغيرة موجهة دون طيار حينا ثالثا، فتقترب من موضوعها وتصوره على حالته الطّبيعيّة.

غير أن الموضوع المصوّر في فيلم “النهر” له من الامتداد والضخامة ما يجعله متناهي العظمة، لذلك فهو أقرب إلى “ماكروكوسموس” أو “الكون الكبير”، ومع ذلك فقد احتاج إلى معدات تصوير سينمائي خاصة قادرة على تصوير امتداد الأنهار من زوايا مرتفعة، أو ملاحقة تدفق المياه وجريانها عبر الجبال في الشلالات. وكما في فيلم “ميكروكسموس” استطاع المخرج تقديم صورة غير مألوفة، تكشف لنا وجوها من الجمال لم نكن نطّلع عليها بما يكفي، لقصور إدراكنا البشري.


إعلان