“أصداء العصر الجليدي”.. سحر ألوان الحياة المتقلبة في جبال الألب

تبدو الحياة رتيبة في جنوب شرق ألمانيا، لكن جبل “فاتسمان” الذي يرتفع بشموخ، ويؤدي مع رفاقه دور حرّاس الطبيعة لهذه المنطقة، يدعونا إلى جولة في هذه البرية المليئة بالأسرار، ويغوص بنا في أعماق بحيرة كونيكسي، ليكشف لنا عن بعض ما تخبئه من العجائب.
في حديقة “بيريكتيس غاردن” الوطنية، طافت بنا الكاميرا وهي تسجل صورا زاهية عن الحياة؛ رأيناها في عيون الظباء وألوان البتلات وفراء الثعالب وريش الطيور، ولم تنسَ كذلك أن ترينا بعض أشكال الموت والفناء كما هي دورة الحياة الطبيعية. ثم أودعت كل هذه الأسرار في فيلم مذهل عرضته قناة الجزيرة الوثائقية تحت عنوان “أصداء العصر الجليدي”.
فصل الشتاء.. حياة قاسية في جبال الألب المتجمدة
في فصل الشتاء تكون الطبيعة في نوم عميق، لكن هذا السبات لا يمنع من وجود حياة نشطة في كثير من تفاصيل هذا المكان الساحر، حيث تحاول الحيوانات التي بقيت مستيقظة أن تتعايش مع هذا البرد الأسطوري القارس، فهذه ظباء الشامواه تتجنب الثلوج الكثيفة، فتتجمع على المنحدرات الحادة والتلال الخالية من الجليد.

وبينما تبلو طيور القرزبيل بلاء حسنا لتجد في أكواز الصنوبر الكثير من البذور لغذائها، يرتدي طائر الترمجان الصخري حلة الشتاء البيضاء ويتجول صائحا، يدافع عن حدوده وعن أنثاه، وهناك كثير من الحيوانات لم يسعفها الشتاء القاسي على البقاء، فصارت أجسادها النافقة طعاما للجوارح.
لكن كائنات أخرى طوّرت وسائل غير الأكل للتغلب على قسوة الجليد، فحيوان المرموط يروح في سبات عميق لأكثر من نصف عام، حتى ينقضي فصل الشتاء الطويل، ويعيش على الدهن الذي اكتسبه خلال الصيف الماضي.

تتكون الجبال من حجر جيري، وتحتوي على أحافير من قاع بحر قديم ارتفع نحو السماء نتيجة صراع بين الصفائح التكتونية، أما الأخاديد فنتجت عن النهر الجليدي العظيم البالغ عرضه أكثر من كيلومتر، وهو الذي ملأ هذا الوادي، وكان جزءا من صفيحة جليدية غطت هذه المنطقة الألبية، ورغم انتهاء العصر الجليدي منذ آلاف الأعوام، فما زالت أصداؤه تتردد في أرجاء المكان كل عام.
فصل الربيع.. دفء يذيب الثلج ويكسو المروج ثوبها الأخضر
بحلول شهر مارس/آذار يبدأ الجليد بالذوبان على المنحدرات الدافئة، وتتفتح البراعم التي نمت تحت الغطاء الثلجي، وتعمل الشمس عملها في تحويل تلك الأراضي الباردة إلى مروج خضراء في جبال الألب، وهذا يعطي الفرصة لظباء الشامواه للاستمتاع بوفرة الطعام بمجهود أقل.

بالمقابل لا يزال الطعام شحيحا في المرتفعات، ويجعل الأمر أكثر صعوبة لظباء وعل الجبل، وقد كيّفت طبائعها منذ العصور السحيقة للعيش في أشد الظروف قساوة، والحصول على طعامها في أكثر المنحدرات صعوبة، لكن عبث الصيادين أدى إلى انقراضها في القرن الـ16، ثم أعيدت 200 رأس منها إلى هذه المنحدرات خلال القرن الماضي.
مع ذوبان الجليد تتدفق الجداول من أعالي الجبال، وتنحت في طريقها الصخور الجيرية لتشكِّل لوحة من المناظر الخلابة، وتعيد قطراتُ الماء المتسربة عبر الصخور إلى الأسفل صياغةَ المناطق التي لا ترى الشمس، فتنمو غابات من الطحالب الصغيرة، وتظهر أنواع من المخلوقات التي تحب الرطوبة وتحتجب عن الشمس، مثل عناكب الحصّادات.

في هذه الأجواء الربيعية الدافئة يستطيع الطائر الغطّاس أبيض الحنجرة تبطين عشه بواسطة الطحالب، وهي فرصته الآن لملء حوصلته وحواصل صغاره من الطعام الوفير، إنها مهمة طويلة تستمر يوميا حتى حلول الليل. ويبني الطائر عشه خلف الشلال، وربما تكون قد تناوبت على هذا العش أجيال عدة من أزواج طائر الغطّاس.
أما طائر القرزبيل فقد أصبح منقاره الملتوي ذا فائدة كبيرة الآن، تستخرج به البذور الوفيرة من مخاريط شجرة “اللاركس”، وهي من الصنوبريات القليلة التي تفقد أوراقها الإبرية في الشتاء.
أشعة الشمس.. حفلات جمع الطاقة وملاحقة الزهور والتزاوج
تعتبر أشعة الشمس مصدر طاقة وفيرا لأنواع النمل في هذه البيئة شديدة البرودة، ففي الأيام المشمسة يخرج نمل الغابة على شكل كتل كبيرة، ويجمع أشعة الشمس فيما يشبه بطاريات الشحن، ثم يعود لتفريغها في منزله البارد، ثم يخرج مرة أخرى لإعادة الشحن.

يجذب هذا الطقس المشمس كثيرا من الزوار إلى بحيرة كونيكسي، ويتردد صدى أبواق قواربهم في المكان نتيجة ارتداده عن المنحدرات الصخرية الشاهقة، ولكن هذا الصدى يكاد يتلاشى كلما ارتفعنا، وذلك نتيجة طغيان صوت هدير الجداول المتدفقة من الجبال.
وفي هذه الأيام الدافئة تتفتح أزهار الجبال بألوانها الزاهية وأشكالها المختلفة، ومنها زهرة الربيع الجبلية وأزهار الجونتيان ونبات الخربق، وتعد طعاما مفضلا للشامواه، إذ يلاحقها صعودا في الجبال حتى ارتفاع ألفي متر، وهناك قد يفقد حياته بسبب البرد والارتفاعات الشاهقة، ولكنّ سُنّة الخالق في هذه البيئات لا تتبدل، فموت بعض المخلوقات يكون حياة وغذاء لبعضها الآخر.

يكون الربيع موسما صاخبا لتكاثر معظم مخلوقات سكان بحيرة كونيكسي، ومنها الضفادع التي تفوق أعداد ذكورها أعداد الإناث، فيتناوب عدد من الذكور بحماسة على أنثى واحدة، في نوبة تلقيح لمئات آلاف البيوض التي تنتجها الأنثى، على شكل حبال يصل طول الواحد منها مترا تقريبا.
عصر الجليد.. دورة الحياة بين قاع البحيرة وقمة الجبل
على ارتفاع أقل من 900 متر يبدو العصر الجليدي كما لو أنه لم ينته أبدا، فالبحيرة الخضراء غرونسي لم يذب جليدها بعد، مما يعني أن كثيرا من المخلوقات تحت الجليد لن تتاح لها الفرصة لرؤية الحياة من جديد، فتكون أجسادها طعاما لمخلوقات أخرى أكثر تحملا للبرد، في أكثر البيئات قسوة في جبال الألب. مثل نسور غريفن التي تقتات على بقايا الحيوانات النافقة.

أما طائر الطيهوج الأسود فطعامه أكثر وفرة وموثوقية، فشجر “اللاركس” يتكفل بإنتاج مئات آلاف الزهور البنفسجية الأنثى، وستصبح فيما بعد مخاريط مليئة بالبذور، ليتغذى عليها كثير من أنواع الطيور.
ففي الربيع تكثر الانهيارات الثلجية قادمة من جبل “فاتسمان” والمرتفعات المجاورة، لتتراكم في الأسفل على شكل تلال ثلجية بارتفاع عدة أمتار، وتغيّر تضاريس المنطقة، وتتشكل في داخلها كهوف وأخاديد جليدية في غاية الجمال، وكأن العصر الجليدي يذهب ويأتي من جديد في كل يوم مشمس على هذه الرقعة العجيبة من الأرض.
أعماق بحيرة كونيكسي مليئة هي الأخرى بأشكال الحياة، فأسماك الروتش تستفيد من أغصان الأشجار التي ترسب في قاع البحيرة لتتغذى عليها وتحتمي بها من هجمات أسماك النمر الشرسة.

أما على شواطئ البحيرة وفي السفوح المنخفضة فتتألق الطبيعة يوما بعد يوم، فتتفتح زهور جديدة، وتتنافس أزهار الأوركيد المختلفة فيما بينها لجذب النحل والحشرات الأخرى من أجل امتصاص رحيقها، ونقل حبوب الطلع فيما بينها. ففي هذه البيئة يتمحور كل شيء حول الضوء، وتتجول فراشات “أبولو” و”لينغليت” الزاهية الألوان والمحبة للضوء على الأزهار لتلقيحها وامتصاص رحيقها.
على المروج الخضراء يظهر حيوان المرموط آكل الأعشاب والحشائش المرح، ويصحو من سباته الطويل، ليمارس هوايته المفضلة في قضم الحشائش على مدار اليوم، ولكنه حذر ومستعد للاختباء مجددا إذا شعر بتهديد خارجي.
فصل الصيف.. صفقات تعاون وأسماك قطبية وأنهار سرية
في فصل الصيف تتاح الفرصة لمزيد من الأزهار لتتفتح، وتخرج المخلوقات الأخرى من سباتها، فقد فقست بيوض طائر الترمجان عن فراخ صغيرة، وضيّعت الفرصة على أفعى الجبال التي كانت تمني نفسها بوجبة دسمة من البيض. وفي شقوق الصخور يعيش طائر الداب المجنّح الأحمر، حيث يجوب الجبال بحثا عن الطعام ويعود إلى صغاره بسَلَطة متنوعة شهية من اللافقاريات.

على شواطئ بحيرة غرونسي العالية تظهر علاقة تعاون بين الأزهار وبعض الحشرات مثل ذبابة “ألطوروليوس”، فهي تعقد صفقة تبادلية مع الأزهار المسماة باسمها، وبموجبها تنقل طلع أزهار ألطوروليوس للتلقيح، في مقابل أن تضع الذبابة بيوضها وتربي صغارها بين بتلات الزهرة الواحدة.
أما في داخل البحيرة فالأمر محيّر للغاية، فمن أين جاءت أسماك البالمي إلى هنا؟ والإجابة الأقرب إلى التصديق هي أن الإنسان قد يكون جلبها منذ أزمنة بعيدة، لتكون طعوما لاصطياد أسماك أكبر، وهكذا تكون أسماك البالمي ومعها بعض أنواع السلمون وأسماك التشار القطبي الشمالي حيوانات ناجية فعلا في هذه البيئة الألبية المتجمدة.

وثمة أمر محير آخر في بحيرة “غرونسي”، فرغم كثرة المياه التي تصب فيها نتيجة ذوبان الثلوج في الصيف، فإن مستوى ارتفاع الماء فيها يبقى ثابتا، فأين تذهب المياه الزائدة؟ إنها تسلك أنفاقا وممراتٍ خفيّة داخل الجبال طولها يبلغ حوالي عشرة كيلومترات، وتكوّن داخلها بحيرات من الماء الكريستالي الصافي، ثم تواصل طريقها لتخرج أخيرا من الأسفل وتصب في بحيرة كونيكسي.
عودة الشتاء.. تزوُّد بالغذاء وإحياء لآخر حفلات التزاوج
تكاد أشكال الحياة لا تنتهي في هذه البيئة المليئة بالأسرار، من أنواع الديدان الغربية حجما وشكلا، إلى الذباب الذي يعيش في دروعٍ خشبية تحت الماء، وصولا إلى القواقع وأنواع الحلزون التي تفضل المياه الكريستالية الصافية لتعيش فيها. وكل هذه الأسرار تكشف عنها هذه الشهور القليلة التي تسطع فيها الشمس على هذه الجنة الأرضية المتلفّعة بثياب الثلج البيضاء.

يحل فصل الخريف ويجلب معه ضبابا منخفضا كثيفا، كأنه نهر جليدي يتدفق من خلال الوادي، ففي هذا الوقت يغادر آخر زوار البحيرة المكان، محمَّلين بالذكريات المذهلة عن هذه البحيرة الساحرة ومحيطها الخلّاب، ويتحدثون لذويهم عن أصداء العصر الجليدي التي عايشوها.
لكن الطبيعة لم تفرغ بعد من عرض عجائبها وألوانها، فأشجار الخريف الذهبية والرمادية تأتلف مع زرقة السماء ولمعان النجوم في لوحة تأسر الألباب، وهناك في أعماق البحيرة تتألق أسماك التشار القطبية بأزهى ألوانها الحمر استعدادا لطقوس التزاوج، فهي آخر الكائنات التي تعقد مواسم التكاثر، قبل أن يحل الشتاء بلونه الرمادي الكثيف.

مع أواخر الخريف تجتهد الطيور والحيوانات في التقاط ما بقي من الغذاء، ليساعدها على البقاء في الفترة القاسية القادمة، ويتغير شكل مروج الألب شيئا فشيئا وتختفي الخضرة، وترتدي بعض الطيور والحيوانات حلل الشتاء المناسبة للأرض الجرداء والبرد القارس. إنه العصر الجليدي، قادمٌ من جديد.