“الكوكب الأزرق”.. صراع البقاء والتزاوج والبحث عن الأمان في المحيط

لم يبح الكون بكامل أسراره بعد، ورغم أن المحيطات تغطي 70% من سطح الأرض، فإنها لا تزال الجانب الأكثر غموضا فيها، وهي مع ذلك تزرع فينا -بحدودها التي لا نهاية لها- إحساسا بالمهابة والتعجب، وأحيانا بالخوف.

تختبئ تحت الأمواج كائنات لا يتصورها خيال، وقد أتاحت لنا الثورة التقنية دخول عوالم جديدة وتسليط الضوء على سلوك بعض الكائنات، باستخدام وسائل كانت تعد من المستحيلات قبل جيل واحد فقط. وقد توصلنا لحقيقة مقلقة، وهي أن محيطاتنا في خطر، فهي تتغير بسرعة أكبر من أي وقت مضى في تاريخ البشرية.

في هذه الحلقة من سلسلة “الكوكب الأزرق” -التي بثتها الجزيرة الوثائقية- يجوب فريق العمل محيطات العالم، من المياه الدافئة في المناطق الاستوائية، إلى الأكثر برودة عند القطبين، حتى يصل إلى فهم جديد لطبيعة الحياة تحت الأمواج.

وقد استغرق إنتاج هذا العمل أربع سنوات، استكشف فيها الفريق كل المحيطات بحثا عن قصص استثنائية لا تُوصف، ولم يعرف العالم معظمها من قبل، لتقدم مفهوما جديدا للحياة تحت الأمواج بأفضل تقنيات الغوص التي لا تُنتج فقاعات ولا ضجيجا.

وقضى الفريق آلاف الساعات في الغواصات على عمق 800 متر تحت سطح المياه، واستخدموا أحدث الكاميرات للحصول على لقطات لم تُصوّر من قبل.

سعفات المرجان.. غلاف مخاطي تستشفي به الدلافين

يُخفي سطح المحيط عددا من الكائنات التي تعيش فيه، ومن أعجب هذه الكائنات الدلافين قارورية الأنف، وهي حادة الذكاء، لكنها تجمع بين الذكاء وحب اللعب، فتركب الأمواج للمتعة فحسب.

الدلافين تستشفي بحك جسمها بسعفات المرجان

يراقب فريق الفيلم مجموعة من هذه الدلافين وهي تزور الشعاب المرجانية في البحر الأحمر، ومن اللافت أنها تتعمد الاحتكاك بسعفات المرجان، لنكتشف لاحقا أن هذا السعف مغطى بغلاف مخاطي ذو خصائص مضادة للالتهابات والميكروبات، مما يُوحي أن الدلافين تقوم بذلك كي تحمي أنفسها من العدوى، وذلك سلوك قد يُحفّز البشر لاستكشاف أدوية جديدة في هذا المكان.

تُغطّي الشعاب المرجانية الاستوائية واحدا بالألف فقط من أرضية المحيطات، لكن المياه الضحلة الدافئة، واستقرار حالتها على مدار العام يجعلها بيئة مناسبة لعدد من أكبر المجتمعات ازدحاما وتنوعا في المحيطات.

ذكاء الأسماك.. إصرار مذهل ومعارك حامية الوطيس

ثمة سمكة في الحيد المرجاني العظيم بأستراليا تتحدى تصوراتنا عن ذكاء الأسماك، إنها السمكة ذات الأنياب التي تفعل ما يعجز كثيرون عن تصديقه، فهي تذهب في كل صباح إلى حافة الحيد، لتبحث عن شيء معين تأكله بين الحصى والرمال.

السمكة ذات الأنياب تلتقط محارة صغيرة وتضرب بها في الصخور حتى تفتحها فتأكل ما فيها

ثم تلتقط محارة صغيرة، وتعود بها إلى مطبخها الخاص، وتظل تدفع المحارة إلى إحدى الصخور مرة تلو المرة حتى تنكسر، لتحصل على ما بها من لحم. إنه إصرار عجيب ودقة مدهشة تؤكد أن بعض الأسماك أذكى بكثير مما نتوقع.

كثرة الحيوانات داخل الشعاب الاستوائية تجعل المنافسة حتمية وشرسة، ليس فقط للحيوانات على الأرض وفي المياه، بل للطيور التي تُحلّق فوقهما.

ففي جزيرة مرجانية نائية بالمحيط الهندي، تقع معركة بقاء بين آلاف من طيور الخرشنة وأسماك الشيّم العملاقة التي تنقض على فراخ الطيور الصغيرة بمجرد نزولها الماء، وتمتاز هذه السمكة بقدرتها على حساب سرعة الهواء وارتفاع الطائر ومساره، مما يُمكّنها من التقاط بعض صغار الطيور في الهواء أثناء تعلمها الطيران فوق البحر، وذلك ما يُحتّم على هذه الصغار أن تتمرن بسرعة، حتى تبقى على قيد الحياة.

دفء الربيع.. عواصف نووية ورقصة استثنائية في المحيط

تحوي المحيطات 97% من المياه في العالم، ويتبخر الماء من سطح المحيط بفعل حرارة الشمس، ثم يصعد البخار إلى السماء ويتكثف هناك لتتكون السحب الركامية، ومنها تتكون العواصف، ويؤدي دوران الأرض إلى تشتيت تلك العواصف شمالا وجنوبا إلى أماكن أكثر برودة.

العُبب الضخمة تصل إلى المياه الضحلة لتشكل منها أمواجا هائلة

كما تتسبب حركة الرياح فوق سطح البحر في تشكل العُبب الضخمة، وعندما تصل العُبب إلى المياه الضحلة تتشكل منها أمواج هائلة، وتستطيع العاصفة الكبيرة أن تنتج طاقة تعادل 10 آلاف قنبلة نووية.

مع دفء مياه البحار الموسمية في الربيع، تصبح زاخرة بالحياة، وهذا ما يحدث في بحر كورتيز بالمكسيك، إذ تتجمع أعداد كبيرة من سمك الشفنين الطائر الذي يتغذى ليلا على مجموعات هائلة من العوالق، في رقصة استثنائية بين الحياة والموت.

ويعتمد التنوع في المياه الدافئة على النباتات المجهرية، وهي العوالق النباتية التي تنتشر على نطاق واسع ونستفيد منها جميعا، فهذه الكائنات والطحالب والأعشاب البحرية تنتج من الأوكسجين ما يفوق إنتاج الغابات والسهول العشبية على اليابسة كافة.

حلف الدلافين.. جيش من أجناس مختلفة يغزو نيوزيلندا

في كل ربيع، تجتذب الخيرات الموسمية بالقرب من نيوزيلندا زوارا نادرين من الدلافين المحيطية، وهي من أقارب الحيتان القاتلة، ويبلغ طولها 6 أمتار، وتزن أكثر من طن.

الدلافين قارورية الأنف تجتمع مع الدلافين المحيطية ليشكلا معا جيشا موحدا تعداده ألف فرد

تتجمع الدلافين قارورية الأنف، وتتحاور فيما بينها بالصفير والفرقعة، لتنشر ضجيجا لعدة كيلومترات تحت الماء، مما يُسهّل على الدلافين المحيطية رصدها، فتتقدم بسرعة 10 عقد بحرية وتحاصرها على الفور، وفجأة يحدث ما لم يكن متوقعا، وفيما يبدو صداقة قديمة بين هذين الجنسين المختلفين، يتجمع الطرفان ليشكلا معا جيشا موحدا تعداده ألف فرد، يبدأ في اجتثاث الكنوز التي تظهر في مياه نيوزيلندا.

كلما ابتعدنا عن خط الاستواء، تزدهر البحار الموسمية تحت أشعة الشمس في الصيف، ففي ألاسكا مثلا تُشكّل طحالب الكلب العملاقة -وهي أكبر الأعشاب البحرية- موطنا لجميع أشكال الحياة. وعلى أرضية الغابة، يتسلى قنفذ البحر بقضم أغصان الطحالب، وفي مكان آخر يوجد خيار البحر الجائع دائما، وفي الجزء السفلي المتشابك، تُمارس تنانين البحر التمويه بصورة مذهلة.

“كوبو داي”.. تحول من إطار الأنوثة إلى عالم الذكور

في الغابات البحرية بشمال اليابان، يبدأ موسم التزاوج عندما تصل الحرارة إلى 16 درجة مئوية. ومن تلك الأصناف الباحثة عن التزاوج سمك “كوبو داي”، وهو أحد أنواع سمك “اللبروس”، ويبلغ طول الذكر مترا واحدا، ووزنه 15 كيلوغراما، وهو أكبر بكثير من الأنثى صغيرة الحجم، ويحاول التزاوج مع كل الإناث في منطقته كلما أتيحت له الفرصة.

سمك “كوبو داي” هو أحد أنواع سمك “اللبروس” ويبلغ طول الذكر مترا واحدا

في المقابل، لا تبدي الإناث في عمر 10 سنوات اهتماما بالأمر، والسبب هو تحولات جذرية تحدث للأنثى عندما يصل حجم جسمها إلى نقطة معينة، فخلال بضعة أشهر تتوقف بعض الأنزيمات في جسمها عن العمل، وتبدأ الهرمونات الذكرية في الانتشار، ومع مرور الوقت يتضخم رأسها ويزداد طول ذقنها وتتحول الأنثى إلى ذكر، فبداخل كل أنثى من سمك “كوبو داي” ذكر جديد كامن.

حفلة الرنجة.. مائدة ضخمة للحيتان القاتلة وذوات السنام

في كل شتاء تصل ملايين من أسماك الرنجة إلى بعض المناطق في شمال الدائرة القطبية قرب النرويج، وتتبع هذه الأسماكَ الحيتانُ القاتلة، في تجمع يكاد يكون الأكبر لها على وجه الأرض، ورغم أن الرنجة متوفرة بكثرة، فإن اتساع المضائق يجعل تتبعها أمرا صعبا.

ملايين من أسماك الرنجة تتجمع في المياه الضحلة كي تكون وليمة سهلة للمفترسات

لكن هذه الحيتان تعمل بروح الفريق وتُنسّق العمل فيما بينها بالمناداة على بعضها، لتدفع الرنجة تدريجيا باتجاه المياه الضحلة، ثم تسبح أسفل منها لتجبرها على البقاء فوق سطح البحر، قبل أن تستخدم سلاحها الفتّاك، إذ تُحرّك ذيولها بقوة هائلة تجعل الأمواج المرتدة تصعق أسماك الرنجة، فتفقد إحساسها وتصبح فريسة سهلة للحيتان.

ويجتذب ضجيج المعركة الحيتان ذات السنام، فتدنو من المياه الضحلة، ثم تندفع من الأسفل بقوة، ملتهمة نحو مئة كيلوغرام من أسماك الرنجة في قضمة واحدة.

أنثى الفظ.. أمٌّ يذيب تغير الطقس ملاذها الجبلي

البحار القطبية غنية بالغذاء الذي يكفي الجميع، وهذه الخيرات لم تكن لتظهر لولا تيار الخليج الدافئ الذي يمنع تجمد هذه المياه. ويشير العلماء إلى أن التيارات البحرية مهمة جدا لسلامة كوكبنا، فهي تُوزّع حرارة الشمس من خط الاستواء باتجاه القطبين، وهذا ما يُبقي أحوال الطقس مناسبة للحياة في كل مكان تقريبا، كما تحافظ البحار على سلامة عالمنا من خلال التحكم بالطقس وإنتاج الأوكسجين.

أنثى الفظ تجلس في مكان آمن تُحافظ فيه على صغيرها ذي الثمانين كيلوغراما من هجوم الدببة

وهناك إشارات مقلقة بأن أحوال المحيطات بدأت بالتغير بعد أن كانت مستقرة نسبيا لآلاف السنين، ويظهر هذا جليا في القطب الشمالي، فخلال 30 سنة الماضية تراجع منسوب الجليد في الصيف بنسبة 40%، وهذا الاحتراز الحراري المفاجئ ناتج عن الأنشطة البشرية التي تؤثر بشكل كبير على الحياة البرية.

ويُعد الفظ من الحيوانات الأكثر تضررا، فكل أنثى بالغة تحتاج إلى مكان آمن تُحافظ فيه على صغيرها ذي الثمانين كيلوغراما من هجوم الدببة، وليس أفضل من جبل جليد ليقوم بهذه المهمة، لكن الجليد ينحسر باستمرار عن المواقع المعتادة لهذه الحيوانات فتضطر للانسحاب إلى الأراضي الجافة، أو تدخل في نزاع مع بني جنسها للاستئثار ببقعة على جبل الجليد.

تنجح الأمهات حينا وتفشل أحيانا، فالشطآن آخذة في الذوبان، وعندما تحل الأم هذه المشكلة برفقة صغيرها تتكون بينهما رابطة قوية تمتد طوال حياتهما، لكن مستقبلهما يبقى في قيد المجهول. ويؤكد العلماء أنه كلما ازداد فهمنا للحياة المعقدة التي تعيشها الكائنات البحرية، أصبحنا أكثر وعيا لمدى هشاشة موطنها؛ كوكبنا الأزرق.


إعلان