“بيئات استثنائية”.. كائنات تقهر أقسى ظروف الكوكب من أجل البقاء

تطورت الحياة من أشكال بسيطة، لتصبح أشد تعقيدا على مدى مليارات السنين، ورغم القدرة على البقاء في أقسى ظروف البيئة، فإن النباتات والحيوانات تنقرض بوتيرة متسارعة يتسبب فيها البشر من خلال استغلالهم الطائش للطبيعة.
ويستعرض فيلم “بيئات استثنائية” -الذي بثته الجزيرة الوثائقية- كيف تتغلب الحيوانات والنباتات على أصعب التحديات في كل البيئات التي يمكن تصورها، بما تملكه من قدرات مذهلة على التكيّف مع تغيرات ظروف الحياة.
وقد استغل البشر حاليا الطبيعة ومواردها إلى حد لم يسبق له مثيل، حتى لم يعد هناك مكان لأبطال الطبيعة الخارقين، وهو أمر يدعو للقلق بشأن كل معارف الطبيعة وفوائدها التي ضاعت.
ساحرة الصحراء.. خزان ماء حي في أعالي الكثبان الرملية
مساحات لا نهاية لها، وكثبان رملية، وقيظ. هذا ما يخطر في بال المرء عند ذكر الصحراء، وأقدم صحاري العالم تقع في ناميبيا، وعمرها 80 مليون سنة، وفيها كثبان رملية يبلغ ارتفاعها 500 متر.
وتتكيف الأنواع التي تعيش في المناطق الجافة والدافئة من أجل تحمل الحرارة وتوفير المياه، فثمة كائنات كثيرة سريعة الحركة في الرمال السائبة، ولا تحترق بفعل الحرارة، وهو أمر لا تقوى عليه كافة الكائنات بما فيها الإنسان.

تتحول الخنفساء الصغيرة ساحرة الصحراء إلى خزان ماء حي، فنادرا ما تمطر السماء على طول ساحل ناميبيا، وعندما يلتقي هواء الصحراء الدافئ بالبحر البارد ينشأ ضباب يمتد فوق الصحراء، وتصعد الخنفساء إلى قمة الكثبان الرملية رافعة بطنها، فتتكثف الرطوبة على أجنحتها الخارجية الصلبة، لتتحول إلى قطرات ماء صغيرة تتدفق إلى داخل فمها، ثم تخزن الماء الفائض في جسمها.
أما حرباء ناماكوا فهي الحرباء الصحراوية الوحيدة في العالم، ومن دون إمداد خزانات المياه الحية الصغيرة (الخنافس)، لن تتمكن الحرباء من البقاء في الصحراء.
سادة التكيف.. كائنات قهرت قدرتها ظروف الصحراء
أدت العزلة الجغرافية الطويلة مدة 50 مليون سنة إلى انتشار نباتات وحيوانات فريدة في نوعها في صحراء أستراليا، هناك يعيش كائن تُحيط به أساطير ومعتقدات كثيرة، جسمه مغطى بأشواك حادة تحميه من الأعداء، ولكن لدى هذه الأشواك وظيفة أخرى ربما تكون أكثر أهمية.
إذ يحتاج “المولوخ” أو “الشيطان الشائك” إلى الماء، فيتكثف هواء الليل الرطب إلى قطرات صغيرة من الماء، كما هو الحال على أشواك النباتات، ثم يجري إلى أسفل ظهره، وينتقل عبر قنوات سطحية في الجلد باتجاه فمه، ويمكنه أن يمتص الماء أيضا عبر قوائمه، ومن ثم ينتقل إلى فمه.

أما الثدييات الكبيرة فهي تتنقل على امتداد مناطق شاسعة للعثور على القوت والماء، وتسمح حوافر المها العريضة بتأمين حركتها السريعة في رمال الصحراء السائبة. كما تخدم القوائم الطويلة جدا لأفيال صحراء ناميبيا الساحلية الغرض عينه.
أما الأفاعي فتتحرك بطرق مختلفة، فغالبا ما تتلوى عن طريق ملامسة الأرض غير المستوية، فالحراشف الموجودة على بطنها مفيدة للتسلق مثل الأقدام تقريبا. وتعتمد الأفاعي تقنية خاصة في الرمال السائبة، إذ تتدحرج مثل نابض حلزوني، وتتلوى بشكل جانبي. وجزء صغير واحد فقط من الأفعى يلامس الأرض، وهذه ميزة في رمال الصحراء الساخنة.
ثمة كثبان رملية كثيرة قديمة جدا، ولها نظامها البيئي الراسخ من نباتات وحيوانات، وتستخدم سلاحف البحر الشواطئ الرملية لتضع بيضها، إذ تعود الإناث لتضع بيضها على الشاطئ، حيث فقست في الماضي، بعد أن أمضت عقودا من الزمن في مياه المحيط.

تُستغل الشواطئ التي تضع فيها السلاحف بيضها لبناء فنادق وحانات على شاطئ البحر، غير أن انتشار السياحة على نطاق واسع يؤثر بشدة في الأنواع المهددة بالانقراض، فنحن تنتهك ما بقي من البيئة الضرورية من أجل نجاتها.
يمكن أن تحدث ظروف شبيهة بالصحراء في مواقع غير متوقعة، في الأرخبيل الخارجي للساحل الجنوبي الغربي للبلدان الإسكندنافية تلتقي الصخور المسطحة بالبحر. فالظروف شبيهة بظروف الصحراء، ساعات مشمسة كثيرة مع نسبة هطول أمطار قليلة، والأحوال الجوية متغيرة، ويتعين على الحيوانات والنباتات أن تتحمل فترات طويلة من الشمس، إضافة إلى العواصف، مع رذاذ المياه المالحة المنتشر فوق الجزر.
“ناتر جاك”.. طقس يهدد أصغر ضفادع الطين الأوروبية
يعاني “ناتر جاك” -وهو أصغر ضفدع طين في أوروبا- على اليابسة من منافسة ضفدع الطين المألوف الأكبر حجما، وتتمثل الاستراتيجية الناجحة لضفدع “ناتر جاك” في تحمل الظروف القاسية التي يعجز منافسوه عن التحكم فيها جيدا.

فطريقة تكاثره هي وسيلته للنجاح، إذ يتزاوج في برك صخرية ضحلة، تُسخّن أشعة الشمس المياه، وتسرع عملية نمو البيض والشراغف (صغار الضفادع). وإذا لم تتساقط الأمطار في الربيع، ينخفض مستوى المياه بسرعة فيضيع الجيل الجديد من “الناتر جاك”.
ويعتبر التفريخ في البرك المؤقتة أمرا محفوفا بالخطر، ولكنه ميزة أيضا، فلا يمكن للأسماك والحشرات المفترسة التي تأكل شراغف “الناتر جاك” أن تبقى حية، وموسم تزاوج “الناتر جاك” طويل، وفي المجموعة نفسها مزيج من الإناث يضع بعضها البيض في وقت مبكر، وبعضها الآخر يضع في وقت متأخر من كل عام، بغض النظر عن أحوال الطقس، لذا فمن المرجح أن تنجح بعض الإناث في الحفاظ على بيوضها.
دببة الماء.. حيوان خارق يقتل نفسه ويحييها
في جزيرة غوتلاند -وهي الأكبر في السويد- تشكلت شواطئ متعددة أثناء ارتفاع اليابسة بعد العصر الجليدي الأخير، ولم يتمكن البحر من تعرية اللب الصلب للشعاب المرجانية، فنمت نباتات وحيوانات فريدة في نوعها، ناتجة عن الطبقة الصخرية الأساسية، إضافة إلى ساعات الشمس الوفيرة والموقع المنعزل.
في هذه الجزيرة، تنمو نباتات كثيرة لا نجدها في أي مكان آخر مثل وردة صخور غوتلاند، وثعبان عشب غوتلاند، وهو من النوع القزم، ومن المبهر أنه يعيش قرب الشاطئ ويصطاد الأسماك في البحر.

وفي منطقة السهول الجيرية في غوتلاند يعيش بعض من أقوى المخلوقات وأسمكها جلدا، مثل الأبطال الخارقين، وتخفي قدرات شبه خارقة خلف مظهر خارجي هادئ. وتنتقل ببطء بثماني أرجل بمخالب وجسم يشبه جسم الدب المكتنز، ومن ميزاتها أن أفواهها تحولت إلى خناجر حادة جدا تقوم بإطلاقها لاختراق فرائسها، وقلة من البشر رأوها، ويطلق عليها اسم دببة الماء.
في سبتمبر/ أيلول 2007، انطلقت المركبة الفضائية “فوتون أم 3” من كازاخستان، تحمل على متنها دببة مائية. وعلى مدى 12 يوما تعرضت الدببة المائية لظروف قاسية، مع مستويات عالية من الأشعة فوق البنفسجية والإشعاعات الكونية، إضافة إلى نقص الأوكسجين. وعند عودتها إلى الأرض لم تظهر عليها أي علامات تدل على إصابتها بأي أذى، وبعد فترة أنجبت صغارا سليمة.

ودببة الماء كائنات ميتة حية، فعندما تسوء الظروف لأقصى الحدود تسحب أرجلها الثماني، مما يجعلها تبدو كالبراميل، ثم تُعلّق حياتها وتدخل في سبات عميق، وعندما تصبح البيئة المحيطة أكثر ملاءمة لها تُخرج أرجلها وتستأنف حياتها، ربما بعد عقود من الزمن.
وربما كانت النقطة المبهرة لنا نحن البشر أن الدببة المائية قادرة على منع تلف حمضها النووي، ويمكنها إصلاح الأضرار التي تلحق به، فقد تساعدنا هذه المعرفة في تطوير دواء فعّال لعلاج السرطان والشيخوخة.
آخر الغابات العذراء.. بيئات أفلتت من بطش البشر
تطلق الغابات العذراء على تلك الغابات التي لم تتأثر بالبشر، والواقع أنه لم يبق أي منها على كوكبنا. لكننا لا نزال نجد بقعا من الغابات القديمة ذات الطبيعة القيّمة، ونطلق عليها تسمية الغابات الطبيعية، وهي أقرب شيء يمكن أن نجده للغابات العذراء.

تنمو غابة الغار في منطقة البحر الأبيض المتوسط، وفي عدد من جزر المحيط، وهي غابة مختلطة رطبة، فيها عدد من النباتات دائمة الخضرة ذات الأوراق العريضة والأنواع الفريدة.
وتنمو إحدى أقدم الغابات الأوروبية في جنوب شرق بولندا في بايا ويسا، قرب الحدود مع بيلاروسيا، ويعيش حيوان البيسون الأوروبي حاليا في هذه الغابة بعد ترحيله إثر استخدام البشر للأرض، فقد كان في الأساس يعيش في المراعي المفتوحة.
وفي الدول الإسكندنافية بدأت الغابات بالنمو عندما انحسر الثلج الجليدي منذ عشرة آلاف سنة تقريبا. فغابات الصنوبر هناك تشبه الغابات العذراء، وتضم كثيرا من الأشجار المتساقطة، ولا يوجد فيها أثر لأيدي البشر. وترتفع أشجار التنّوب المهيبة القديمة منذ مئات السنين. وفي أعالي الجبل تنتشر أشجار التامول، وكلما ارتفعنا إلى الأعلى يصبح طولها أقصر، حتى تسود الأشجار القزمة الزاحفة.

وثمة ناجٍ لا مثيل له ينمو فوق خط الأشجار، فأشجار التنوب الجبلية تتمتع بقدرة مذهلة على التكيف مع المناخ القاسي والمتطرف، وخلال فترات الطقس الملائم تُطوّر ساقا له فروع وتاج، لكن عملية النمو -كي تصبح شجرة طويلة- تتطلب الكثير من الطاقة، لذلك فهي في الأوقات الصعبة تغير استراتيجيتها لتصبح شجيرة زاحفة.
غابات البلطيق.. كائنات عجيبة ذات قدرات مذهلة
تعيش أقدم شجرة تنوب (لا تزال حية إلى الآن) في حديقة فولوفيا الوطنية، ويُطلق عليها اسم “أولد تشيكو”، ويبلغ ارتفاعها 5 أمتار، وعمرها بضع مئات من السنين، لكن نظام الجذور يبلغ من العمر قرابة 10 آلاف سنة، لذلك فهي أقدم شجرة معمرة معروفة في العالم. ويتمثل مفتاح نجاح “أولد تشيكو” في قدرتها على تحمل نقص الغذاء في الأوقات الصعبة، ثم اغتنامها الفرصة للنمو عندما يسمح المناخ بذلك.
وتعتبر قدرة الأشجار على تكييف نموها مع البيئة المحيطة أمرا مذهلا عند مقارنة شجيرات العرعر الزاحفة التي تنمو وسط رياح السواحل العاتية بأشجار العرعر التي تنمو في أماكن محمية داخلية. وفي جزر البلطيق، تكافح أشجار الصنوبر الرياح القوية على طول الساحل، في حين أن النوع عينه يتطور بشكل مختلف عندما يكون محميا من الرياح.

وفي جنوب الدول الإسكندنافية، لا تزال هناك غابات نفضية ذات قيم طبيعية عالية، ومناطق متلاصقة من غابات الشاطئ. وتتخلل هذه الغابات بقايا مناطق مزروعة شاسعة كانت منتشرة، وتتضمن المستنقعات والأحواض الضحلة والبرك. وفي مثل هذه البيئات يمكن العثور على كائنات ذات تقنيات تكيّف مبهرة، مثل العلجوم ناري البطن الذي يُصدر صوتا موسيقيا جميلا للفوز بقلب الأنثى.
ومن الكائنات العجيبة الأخرى اليعاسيب التي تقضي معظم حياتها وهي يرقات وحوريات في قاع البركة، وعندما يحين الوقت تتسلق الحورية الساق، وتخرج من المياه، وتتحول إلى أجمل مخلوق؛ حشرة طائرة قوية، تُعد من الحيوانات المفترسة، وهي بعيونها الكبيرة متعددة الأوجه تفوق قوة بصرها بصر جميع الحشرات الأخرى.

فكل زوج من الأجنحة يمكن أن يتحرك مستقلا عن الآخر، وتكون حركتهما متناغمة أو متعاكسة، فرشاقة اليعاسيب مميزة؛ ويمكنها أن تحوم وتطير في اتجاهات مختلفة وتهبط وتغير اتجاهها، فتصميم جسمها مبهر جدا، ويعد نموذجا ملهما لتطوير توربينات الرياح الصامتة المولدة للطاقة والطائرات الصغيرة من دون طيار.
مسطحات الماء.. موائل دمرها الإنسان وقضى على سكانها
خلال 100 إلى 150 عاما الماضية، فقدنا ما بين 70 إلى 90% من جميع المستنقعات والبرك في جنوب السويد. وعندما يختفي موئل معين نفقد أيضا الأنواع التي عاشت فيه، وبسبب ذلك تضاءل عدد أنواع المجموعات التي تعيش في المستنقعات بوتيرة سريعة، وانقرض بعضها.

أما الجداول الأكثر عذرية والأقل تأثرا بالإنسان، فتقع قرب الجبال في الشمال، حيث تنشأ بيئات فريدة ورطبة باستمرار على مقربة من الشلالات. وتعتمد طبيعة المجرى المائي على تدرج التضاريس وحالة الأرض وكميات المياه، ويُولّد الحطب اليابس على شكل أغصان والأشجار الكثيفة في الماء بُنًى وموائل جديدة، ويزداد التنوع البيولوجي كلما توفر تباين أكبر في هذه البنى.
تتمتع الأوراق المتساقطة بأهمية كبيرة للنظام البيئي في المياه الظليلة التي تعاني نقص المغذيات، مما يؤثر في أعداد الأسماك هناك، فعندما تسقط أوراق الخريف في الماء تتحلل بمساعدة البكتيريا والفطريات، وتتفكك بعد ذلك بواسطة يرقات الحشرات التي تصبح غذاء للمفترسات الأكبر حجما، وتعد غذاء أساسيا للسلمونيات.
بلح البحر اللؤلؤي.. كائن انتقائي مهدد بالانقراض
من الأنواع المهددة بالانقراض وتستحق الحماية في مياه الغابات بلح البحر اللؤلؤي، وهو يعيش في المياه العذبة، ويمكن أن يصل عمره إلى 300 سنة، وكما يدل اسمه فهو يحتوي أحيانا على لآلئ.
يمتص بلح البحر اللؤلؤي الموجود في المياه العذبة الأكسجين والغذاء عن طريق ضخ الماء عبر جسده، إنه انتقائي، ولا ينتعش إلا في المياه الباردة النظيفة على قعر من الحصى والحجارة، حيث يتنقل على قائمته الكبيرة، ويحفر لنفسه حين تكون الظروف مؤاتية، ويعيش فقط حيث تكثر أسماك السلمون المرقط.

وتُوفّر الأشجارُ المورقة الواقعة بمحاذاة المياه الجارية الظلَّ والغذاء للسلمون المرقط، على شكل أوراق الشجر المتساقطة ويرقات اليعسوب. وقد نجد أعدادا كبيرة من بلح البحر اللؤلؤي في المياه العذبة في حالة سيئة؛ فثلثها فقط هو القادر على التكاثر، ويعتمد ازدهارها على وجود مياه نظيفة، ومجاري نهر من الحصى النظيف، وسمك السلمون المرقط، كما أنها حساسة لمعدلات الحموضة المنخفضة.
وتتحمل إدارة الغابات مسؤولية رئيسية في بقاء بلح البحر اللؤلؤي الموجود في المياه العذبة، إذ يجب تخصيص منطقة أشجار شاطئية فسيحة بما يكفي على طول المياه الجارية، وهو أمر لا يحدث دائما، فقد تقطع الغابات أحيانا.
فوائد الغابات.. حلول عظيمة تنسفها رياح البطش البشري
يعلم معظمنا أن الغابات توفر الأخشاب والحطب والمواد الخام لإنتاج الورق، لكن الغابات تخدمنا أيضا بطرق أخرى يصعب تثمينها، فأرضها جهاز تصفية لتنقية مياه الشرب، كما تمنع الغابات أضرار التربة الناجمة عن الأمطار الغزيرة أو العواصف، وتشكل موائل لعدد من الأنواع التي تساهم في تلقيح النباتات، فضلا عن كونها مُنظّمة للمناخ.

ومع ذلك، فإن الاعتماد بشكل أكبر على المواد الخام في الغابات سيجعل عملية حماية التنوع البيولوجي أكثر صعوبة.
وقد قُطع جزء كبير من الغابات الطبيعية الثمينة في أوروبا، واستبدلت بغابات لإنتاج الحطب، وعادة ما تكون من أشجار الصنوبريات ذات التنوع البيولوجي المحدود، فالمناطق المقطوعة الفسيحة تعني حدوث تغيير جذري لعدد من النباتات والحيوانات عندما يتغير المناخ المحلي والمياه السطحية ومدى التعرض لأشعة الشمس في لحظة، وبذلك نحرم أنفسنا من الأنواع المعروفة والمجهولة التي قد تحمل الحلول اللازمة لمشاكلنا وتحدياتنا المستقبلية على الأرض.
رئات الكوكب.. استغلال جائر يخنق مصدر الأنفاس والأدوية
تنمو الغابات الاستوائية المطيرة ضمن حزام حول خط الاستواء، وهي أساسية لمناخنا من خلال امتصاص كميات هائلة من ثاني أكسيد الكربون من الغلاف الجوي، ويمكن أن تساعد في الحد من الاحتباس الحراري. تمثل نباتات الغابات المطيرة وطحالب محيطات العالم رئات كوكبنا، وتنتج معظم الأوكسجين الذي نحتاجه للتنفس.
ويعيش نصف جميع أنواع الأرض داخل الغابات المطيرة، مع أنها لا تغطي سوى 7% من مساحة اليابسة. حيث يتسم مناخ الغابة المطيرة بالاستقرار والدفء، وفيها تهطل الأمطار بانتظام ووفرة، وقد تصل كمية الأمطار إلى 10 أضعاف ما هي عليه في شمال أوروبا.

ويشكل عدد قليل جدا من نباتات الغابات المطيرة جزءا من نظامنا الغذائي، لكن أنواعا كثيرة منها مدرجة في أدوية متنوعة. فهناك ضفادع تنتج سُما قويا، أو لديها دفاع فعال مضاد للبكتيريا، حتى إن هناك أجناسا قادرة على تنظيم إنتاج حمض المعدة. وتُعد هذه الأنواع مهمة للعلوم الطبية، وقد يكون هذا هو المكان الذي سنجد فيه المضادات الحيوية في المستقبل، فهناك أنواع كثيرة قدمت المعرفة اللازمة التي أدت لاختراع تقنيات ثمينة، لذا من المثير للقلق أننا فقدنا أكثر من نصف غاباتنا المطيرة على مدى 100 عام الماضية.
وهناك مناطق فسيحة تحرق لإنتاج فول الصويا وزيت النخيل، أو تحويلها إلى مزارع للماشية. ونتيجة لذلك، باتت أنواع كثيرة من الغابات المطيرة مهددة بالانقراض، إضافة إلى أن مئات منها قد انقرضت بالفعل.
وقد نمت الغابات الاستوائية المطيرة على كوكب الأرض على امتداد 60 مليون سنة، وأدى طول الفترة الزمنية والمناخ المستقر والدافئ والأمطار الغزيرة، إلى وفرة التنوع البيولوجي، وأحيانا إلى ظهور طرق تكيّف ومظاهر وسلوكيات مذهلة.
ضفدع السهام السامة.. كائن لطيف يخبئ أقوى السموم
هناك أنواع كثيرة طوّرت أساليب تمويه لجعل رصدها شبه مستحيل، ولكن ثمة ضفادع تفعل العكس تماما، فهي تجعل نفسها مرئية من خلال عرض ألوان قوية وأنماط متناقضة، وتقضي استراتيجياتها بإبلاغ من يحيط بها بأن مهاجمتها محفوفة بالخطر.

وهذا ليس تهديدا فارغا، فالسر في ذلك أن الضفادع تأكل الحشرات التي تأكل النباتات السامة، ثم تتنقل الجزيئات السامة من النباتات إلى جسم الضفدع، وتخزن في الغدد السامة في الجلد، وذلك يمنح الضفدع دفاعا فعالا ضد من يعرضه للخطر.
ويُطلق عليها اسم ضفادع السهام السامة، وتُعد من أشد الكائنات سمية في العالم، ويمكن أن يحتوي إفراز جلد بعضها على سم أقوى 200 مرة من المورفين، ويمكن استخدامه في الأدوية الخاصة، لتسكين الآلام وإنعاش القلب.
ثعبان ماسي.. صياد يستخدم الأشعة الحرارية في الليل
في غابات كوينز لاند المطيرة في شمال شرق أستراليا، يعيش ثعبان يمكنه أن يصطاد في الليل كما في النهار، ويستخدم عينيه أثناء النهار، ولكنه في الليل يتحول إلى كاميرته الحرارية.

إنه ثعبان ماسي، وهو مُزوّد بأجهزة استشعار حرارية في جيوب تمتد على جانبي فمه، وتساعده في الظلام على إيجاد فريسته التي لا تكاد تختلف درجة حرارة جسمها عن البيئة المحيطة بها.
لكن فارقا أقل من درجة واحدة كاف للثعبان، إذ يستخدم طرف لسانه لضبط المعلومات المتعلقة بالاتجاه والمسافة، وقد شكلت جيوب الثعابين الحساسة للحرارة نماذج لتطوير تقنية الأشعة تحت الحمراء، على سبيل المثال في الكاميرات ومناظير الرؤية الليلية.
الضفدع المعدي.. انقراض كائن تنمو صغاره في معدته
في عام 1973 عثر على ضفدع مائي لزج صغير في كوينز لاند في تيار الغابات المطيرة، ولم يكن معروفا أبدا للعلم. وتبين أن هذا الضفدع يمتلك طريقة فريدة للتكاثر، إذ كانت الصغار تنمو داخل معدة الأنثى، ولم يسبق أن شوهد شيء كهذا لدى الحيوانات من قبل.

أُطلق عليه اسم الضفدع المعدي، وقد قدّم معلومات حول تنظيم إنتاج “حمض الهيدروكلوريك” في المعدة، مما أدى لابتكار بعض من أبرز الأدوية التي نستعملها لقرحة المعدة، ومنح آلاف الأشخاص الذين يعانون من الإجهاد حياة أفضل. لكن آخر مرة شوهد فيها الضفدع المعدي كانت في عام 1985، فقد انقرض للأبد.
بنو آدم.. أذكى أنواع الكائنات وأكثرها ظلما للكوكب
على مدى ملايين السنين، جرت عمليات التطور والتغيير والتكيّف بين جميع الكائنات الحية في بيئات متنوعة على الأرض، لم يبق منها الكثير. ولكن مهما اختلفت الطرق المذهلة التي يبدو أن الأنواع المختلفة تعتمدها للتأقلم مع التغيير ولتطوير سبل معقدة للحياة، فلا تزال هناك عقبة رئيسية واحدة، وهي ما يفعله الإنسان.

إنه أحد الأنواع، وأشدها ذكاء على الإطلاق، يطالب بلا رحمة بالحق في استخدام المزيد من موارد الكوكب، وتتضاءل بيئتنا الطبيعية الأعلى قيمة والأكثر تنوعا وتُدمر بسرعة شديدة، وتستبدل بزراعات أحادية واسعة النطاق لا ينمو فيها سوى عدد قليل من الأنواع. فإلى متى سنستمر في قبول مثل هذا التطور المُدّمر الذي يؤثر في وجودنا المستقبلي إلى أقصى الدرجات؟ ما الذي نحتاجه بعد لنفتح أعيننا؟
إن الحفاظ على التنوع البيولوجي ليس واحدا من أفضل القرارات التي يمكننا اتخاذها فحسب، بل هو ضرورة للحياة المستدامة في المستقبل على الأرض بالنسبة إلينا نحن البشر.