“في عقول القطط”.. أسرار الفهود الصغيرة التي تسكن الحجرات والأفئدة

تمثل القطط شريكا للإنسان، فهي تقتحم مسكنه وتحجز مكانها في حياته، وربّما استولت على مشاعره أيضا. لذلك تصف الكاتبة “فرانسواز جيرو” ذلك بعبارة مغرقة في الشاعرية، وهي تقول “نحن لا نمتلك القطط، بل هي من يمتلكنا”. ولكن هل نعرف القطط حقّا؟
حينما نشاهد فيلم “أندي ميتشال” ونعرف شيئا مما يدور في عقول القطط، نكتشف أننا نجهل كثيرا عن شريكنا هذا، وأننا كثيرا ما نظلمه بسبب جهلنا، وعندها أيضا يزول كل إيحاء وغموض وشاعرية من قول المبدعة الفرنسية. وندرك أنه لا يعدو أن يعيّن حقيقة علمية بديهية خالية من كلّ جاذبية.
أسلوب الفيلم.. مرح تعليمي بعيد عن ملل الدروس التقليدية
يحاول الفيلم الاقتراب بشكل مبسط من عالم القطط الذي يظل بعيدا عن فهمنا رغم صلتنا الوثيقة به، وقد يبدو وهو يشرح لنا كيفية تعاملنا معها أقرب إلى التسلية، أو إلى البرامج التلفزيونية العائلية التي تقدّم لنا حزم النصائح للتعامل مع الحيوانات الأليفة.
وهو كذلك إلى حدّ كبير، بما أنه يجمع بين التّرغيب في حسن التعامل معها، والاقتراب منها لفهم سلوكها الفردي وحياتها الاجتماعية، وشرح الأسلوب النّاجع لتربيتها وتدريبها على إنجاز بعض الألعاب. ولكنّ لا يبسّط معلوماته إلا وهو ويعتمد أسلوبا تعليميا سلسا، ويستند إلى الدراسات العميقة التي يكون بعضها نفسيا سلوكيا، وبعضها عصبيا، وبعضها مستمدا من علوم الأحياء أو الاجتماع.
إنه فيلم هجين، يستمد هويته من تقاطع مثمر بين علوم وأجناس سينمائية كثيرة، ويحاول أن يقدم من خلال الجمع بينها المعرفة العلمية على نحو مبسّط، وأن يعمّق معرفتنا بالقطط، لجعلنا نتواصل معها بسلاسة أكبر، ولكن أيضا لتعميق معارفنا بعلوم الحياة والأرض. وهو ما يعرف بفيلم التبسيط العلمي.
يستند الفيلم إلى الخبراء ليشرح كثيرا من سلوك القطط، ويبدّد ما يحيط بها من الغموض، ويحرّر طاقاتها، ويمثّل استجابة لحاجات شريحة كبيرة من المتفرّجين لتقبّل المعلومات بشكّل جذّاب ومسلٍّ بعيدا عن ملل الدروس الكلاسيكية.
الفهود الأليفة.. جسم رياضي مطّاط يتحدى الطبيعة
يضمّن الفيلم شيئا من علوم الفيزيولوجيا (علم الأعضاء) الحيوانية، ليشرح سبب خصائص القطط الجسمية المميّزة، فعمودها الفقري بالغ المرونة، وبفضل تصميمه البديع وتعدد فقراته أصبحت القطط تتميّز بسرعة فائقة.
ولئن كنّا نغدق المدح على الفهود ونعدّها أسرع المخلوقات على الأرض، فإنّ ذلك لا يزعج القطط في شيء، فما هي إلا فهود صغيرة تطوّع أجسامها وفق وضعيات “يوغا” في غاية التّعقيد، فتستطيع بفضلها أن تركض بسرعة 48 كلم في الساعة، وأن تقفز لستة أضعاف طولها.
ولو اكتسب الإنسان مثل هذه القدرة لكان قادرا على القفز فوق زرافة أو بناية. والأغرب أنّ القطط تقع على أرجلها مهما كان الارتفاع الذي تنزل منه، معوّلة على قدرتها على استشعار وضعيات أجسامها في الفضاء وسرعة ردود أفعالها وفقها.

واستنادا إلى علم الأحياء التّطوري الذي يُعنى بدراسة الكائنات الحية ويفهم التّطور باعتباره المحرك الذي يولد أنواعًا جديدة، يردّ الفيلم القطط إلى أسلافها البعيدة، فيجد فيها حالة فريدة، فهي مُدجّنة تعيش مع الإنسان فيأمن لها، وفي الآن نفسه لا تزال تحافظ على سمات أسلافها المفترسة.
نعني عائلة السنوريات التي تشمل الفهود والأسود، وتحاليل الأحماض النووية للقطط التي وجدت محنطة في مصر، أو عثر على بقاياها في مقابر الفايكنغ في أوروبا، أو مواقع العصر الحجري القديم في الشرق الأدنى؛ تكشف جميعها أنها تنحدر من القط البري الأفريقي، وهو نوع فرعي من السنوريات موجود في شمال إفريقيا والشرق الأدنى.
أساليب التدريب.. ترويض حيوان ذكي ومزاجي وكسول
يخضع باحثون مختصون من اليابان القط “كارل” لاختبار الذكاء، فيكتشفون أنه يستجيب للنداء عندما يُنطق اسمه، ويعيدون الاختبار مع غيره من القطط، وتنتهي التجارب كلّها إلى النتيجة نفسها، فالقطط تميّز أسماءها من بين مختلف الأصوات القريبة منها، وهذا مؤشّر من مؤشرات ذكائها. ويرصد الفيلم محاولة الباحثين في علوم الحيوان تدارك التأخر في الأبحاث المجراة على القطط، ويجد أن الأبحاث المجراة على الكلاب مثلا سابقة لها بنحو خمس عشرة سنة.
من النتائج التي تؤكدها الاختبارات الدقيقة التأكد من أنها تعرف وجوه أصحابها وأصواتهم، وتفهم معنى الإشارة بالإصبع، بل إنها تصل إلى قدر من التجريد، فتفهم أن الأشياء حين تختفي من أمام ناظريها لا تختفي من الوجود بالضرورة. وإجمالا فما يدور بعقول القطط أعمق بكثير مما نظن.
ويستعمل مدربو القطط خصائصها تلك في تعليمها مختلف الألعاب، ويعوّلون على مبادئ علم النفس السلوكي، فهم باتو يدركون نجاعة نظرية الروسي “إيفان بافلوف” التي تقول إن جميع السلوكيات تُحصّل من خلال التكيف مع محفزات صادرة عن البيئة المحيطة، وتستجيب إليها شرطيا.
وهذا المبدأ نفسه هو المعتمد في تدريب الكلاب، لكن على المتعامل مع القطط أن يكون واعيا باختلافات كثيرة بين النوعين، فالكلاب تتفانى في إرضاء سيدها، فتبادر بالذهاب إليه والعمل على إسعاده، وعلى خلاف ذلك تبدو القطط لا مبالية بأصاحبها. وتنتظر منهم هم أن يبادروا وأن يبذلوا جهدا للاقتراب منها، كما أنها حيوانات مزاجية ملولة، لذلك لا بد أن تكون حصص التدريب قصيرة.

ذوات الكبرياء.. كائنات مستقلة غنية عن السيد
ليس الاختلاف بين الكلاب والقطط بلا سبب، فهو يفسّر جينيا، انطلاقا من علم الأحياء التطوري، فالكلاب تنحدر من أسلاف قطيعيّة. فيفرض عليها عيشها في مجموعة أن تتعاونَ في عملية الصّيد، وتتكاتف للدفاع عن نفسها من أي اعتداء خارجي. ولا بد في كل اجتماع من سيّد يفرض الانضباط على المجموعة، ولا بدّ للمجموعة أن تتبع تعليماته، ولمنزلته بينها ولحاجتها لهذا البناء التّراتبي في مجتمعها يتعيّن عليها حمايته من أي أخطار تحيط به.
لقد دُجّنت الكلاب حتى نسيت حياتها البرية القديمة، ولكنّ ذاكرة الجينات لا تعرف النسيان، لذلك حلّ مالكها محلّ قائد القطيع غريزيا، وحظي عندها بكل امتيازاته، ومن هنا جاء وصفنا لها بالخضوع أو الوفاء.
أما القطط فقد كانت تعيش فرادى منذ أسلافها المفترسة، وكانت تعيش على الصيد منفردة، وتعوّل على مهاراتها وخصائصها الجسمية التي ذكرنا آنفا، لذلك فهي تجد نفسها أكثر استقلالية وأقل حاجة إلى سيد حاكم بأمره. كما نجدها نحن أكثر كبرياء، ولهذا الماضي البعيد كله، غالبا ما يجد مالكها اليوم نفسه مجبرا على أن يكون هو المبادر باتخاذ الخطوة الأولى، لتوثيق صلته بها.
محاربة القوارض.. حلف بين الإنسان والقط لحماية التجارة
يعرض الفيلم شيئا من تاريخ القطط، ولعلّ التحوّل الكبير في نمط عيشها يتمثّل في تدجينها، فمع اكتشاف الإنسان للزراعة وتشييده لمخازن الحبوب اصطدم بهجمات القوارض، ثمّ اكتشف في القطط عنصرا حاميا لممتلكاته، أو لنقل -بلغة الحرب- إن تدجين الإنسان للقطط هو تحالف استراتيجي معها، انطلاقا من منطق أنّ عدوّ عدوّي صديقي.
ورغم أنّ أصول القطط إفريقية فقد انتشرت في كامل أنحاء المعمورة منذ زمن بعيد، ولا شكّ أنها شاركت الإنسان رحلاته في سفنه التجارية لحراسة هذه المنتجات الزراعية وصدّ عدوان القوارض عنها، وأنها توالدت في السفن فتخلص التجار من أعدادها الزائدة عند وصولهم إلى الموانئ المقصودة.
ولئن نسيت القطط ماضيها المتوحش اليوم، فإن ماضيها لم ينس، فظل يلاحقها ويؤثر في سلوكها وفي حياتها الاجتماعية، فقد سبق أن عرضنا أسباب كبريائها، ولهذه الأسباب نفسها يردّ الفيلم سمة التملّك التي تحكمها. فهي تقوم بوضع علامات بصرية وأخرى شميّة أثناء تمسحها بأقدام صاحبها أو بأثاث البيت أو بالأفضية التي ترتادها. فقد ورثت هذا التصرّف الغريزي من أجدادها الذين كانوا يعيشون في البرية، لمّا كانت تضطر لوضع علامات تؤشّر على ملكيتها للفضاء، لمنع منافسيها من الاقتراب من مناطق ملكيتها. ألم تقل “فرانسواز جيرو”: نحن لا نمتلك القطط، بل هي من يمتلكنا.
مبادلة الود بالود.. ثمار البسمة والاحتكاك والتواضع
في حكايات “كليلة ودمنة” أو أشعار الفرنسي “لافونتان” تجري الأقوال على ألسنة الحيوانات. ومن هذا العالم المتخيّل يستمدّ “أدب الحيوان” طرافته وسحره. ولكن كيف لو علمنا أن الحيوانات تتكلّم فعلا؟
لا نحتاج إلى تفصيل الفوارق بين لغة الإنسان التي تقوم على الاصطلاح والتواضع وعلى عدد لا نهاية له من المفردات ومن التراكيب المعقّدة، وبين لغة الحيوان التي تختزل في عدد من العلامات التي تظهر بطريقة آلية لتعبّر عن حاجاته أو عن الحالات التي يعيشها كالجوع أو الخوف أو الاهتياج.
يعرض المختصون في لغة القطط وجوها من عمليات التواصل التي تعقدها، فهي تتبادل التحيات عبر التلامس بالأنوف، وتجعل الاحتكاك عاملا مهما في بناء روابطها الاجتماعية والعاطفية، لذا فإنك حين تداعب أنف قطّة بإصبعك، فأنت تعلن لها بكل بساطة ترحيبك بها.
وتسهم الابتسامة أيضا في تحفيز مشاعرها الإيجابية، عندها تطرف عينيها ببطء دون أن ينغلقا كليّا لتبادلك ودّا بودّ، وتعلمك أنّك كسبت ثقتها، وفي ذلك شيء من التواصل العاطفي الحاني، ففي عالم الحيوان عامة يمثّل التواصل البصري المباشر والتحديق الثّابت وعدم إطراف العينين فعلا مخيفا.
والتواصل مع القطط بتعالٍ وبفوقية من الأمور التي تنفّرها، فمثل هذا السلوك يذكرها بالمفترسات من الجوارح التي كانت تهاجمها من الأعلى في تاريخها البري القديم، ويثير في داخلها فزعا دفينا، وبالمقابل تؤثر هي الصعود إلى المناطق المرتفعة، فذلك يمكّنها من مراقبة الفضاء، ويعطيها الإحساس بالأمان.
وعليه فيجب على من يريد أن يكسب ثقتها ويخرجها من تحفّظها، أن يسعى إلى إظهار نفسه بحجم أصغر، وأن يسعى إلى أن يتحرك من زاوية جانبية.
هز الذيل والمواء.. لغة تعبّر عن الأحاسيس الداخلية
يفصّل الفيلم البحث في لغة القطط، فلكي تتواصل مع الآخر لا بدّ أن تدرك ما يحيط بها أولا، ولهذا تعمل الشوارب عمل المستشعرات التي تقدّم لها معلومات حول بيئتها، وتسهم في إحساسها بالفضاء الخارجي واتخاذها القرارات المهمة في التفاعل معه. ولها مثلها في فوق الحاجبين وأسفل الرجلين، وبناء على تقييمها للوضعيات المختلفة ترسل خطابها.
ولحركة ذيلها دلالات مختلفة، فهي تدلّ على استيائها وتحريكها لطرفه فحسب يكشف الانتباه إلى أمر ما أثار فضولها، أما إذا ما جعلته بين ساقيها فهي تعبّر عن حالة الخوف وتعلن الخضوع، لكن إن كانت تهزّه بطريقة عمودية فهي تعبّر عن حالة من الزهو والسعادة، وإن رفعته وصاحبه انتصاب في شعرها فهي تعبّر عن شعورها بالرعب.
ولموائها دلالاته أيضا. فهي تصدر أكثر من عشرين صوتا مختلف الدلالة، فحين تموء مرة واحدة مثلا، فذلك يعني أنها تطلب شيئا ما. أما إذا ما خرخرت فقد استهدفت التأثير في عقولنا الباطنة، فقد أثبتت البحوث المخبرية أن تردّدات الخرخرة شبيهة بتردّدات بكاء الطفل. ويستنتج الباحثون أنّ القطط قد طوّرت هذا الصوت لاستدرار الشفقة وإثارة غريزة الأمومة أو الأبوة فينا.
والقطط مسالمة عامّة. لكن حين تفتقد الحلول تعلمنا باستعدادها للدفاع عن النفس، فتكشف عن شراستها وعدوانيتها، وتستعرض صفاتها تلك عبر تضييق العينين وإرجاع الأذنين إلى الخلف، وعبر التكشير عن أنيابها.
يجمع هذا الفيلم إذن بين خصائص أفلام التبسيط العلمي وأفلام الحيوان وأفلام التسلية، فيجمع ببراعة بين الممتع والمفيد، فلا يسعنا إلا أن نقول إنه فيلم هزلي. لله درّه كم كان جادّا في هزله.