“لوحات النفط”.. آثار الذهب الأسود على حياتنا الثقافية والفنية

منذ تفتحت أعيننا على طفرة البترول، أعطتنا تلك الفترة أملا بالحرية والحداثة والرفاهية، ولقد حصلنا بالفعل على بعض تلك الآمال، ولكن الحداثة النفطية في ذات الوقت أغرقت العالم في بؤس شديد.
واليوم، ومع أفول عصر البترول، نستعرض عصر الحداثة البترولية الذي انعكس بشكل لافت على الأعمال الفنية من مختلف الفترات والمناطق حول العالم، فماذا فعل البترول بنا؟ ولماذا يصعب الاستغناء عن هذه المادة السوداء اللامعة؟ هذا ما سيجيب عنه الفيلم الذي عرضته الجزيرة الوثائقية بعنوان “لوحات نفطية”.
عصر الحداثة النفطية.. سحر مادة أحفورية ترسم التاريخ
يبحث عالما الأنثروبولوجيا (علم الإنسان) الثقافية “ألكساندر كلوزه” و”بنيامين شتايننغر” في التاريخ الثقافي للنفط، ويستكشفان أثر هذه المادة الاستثنائية على حياتنا. يقول “كلوزه”: حين نفكر بالنفط وأهميته، نجد أن هذه المادة السحرية لم تؤثر على حياتنا المادية فقط، بل على أحلامنا ورغباتنا.

ويقول “شتايننغر”: “في التاريخ التقني والنظرية الثقافية يوصف القرن العشرون بالعصر الذري وعصر المعلومات، لكن له وجها آخر هو عصر الحداثة النفطية، وكيف ساهمت هذه المادة الأحفورية في صناعة تاريخ القرن العشرين، إذ تشكل هذه المادة الأحفورية وصناعاتها التحويلية تفاصيل حياتنا اليومية، وترسم التاريخ بشقيه: العالمي والثقافي.
لقد أثر عصر الحداثة البترولية على كل الناس، في جميع جوانب حياتهم، وفي كل أماكن وجودهم من العالم، ومع تتبع الحركة الفنية والثقافية للبشر في القرن العشرين سوف نلحظ بشكلٍ واضح أثر البترول على الأعمال الفنية والثقافية التي تناولت هذه الطفرة بطريقة ناقدة لاذعة.
وبصفتهما أمينين لمعارض فنية، ومؤلفين وعالمين في الأنثروبولوجيا الثقافية، دأب “كلوزه” و”شتايننغر” على دراسة علاقتنا المتأرجحة بالنفط. ففي 2021 تعاونا مع متحف فولفسبورغ للفنون في ألمانيا، لتنظيم معرض لأعمال فنية تمثل 100 عام من الحداثة البترولية، من جميع أنحاء المعمورة، كان معرضا استذكاريا فريدا من نوعه، دُعي إليه فنانون معاصرون.

يقول الفنان النمساوي “مايكل هيرشبشلر”: جاء اهتمامي بالنفط لأهميته البالغة، إنه المادة المحورية في عالمنا، إنها تقوم بتشكيل الأماني والقصص والمعتقدات وحتى السياسة. لقد رسمت سلسلة لوحات أسميتها “حقول النفط”، وكانت مقاربة ساخرة للرسم بالزيت، ولكنْ حرصتُ على أن تكون طبيعية، من الأرض إلى القماش، وكانت مهمة شاقة وصعبة، ولكنني أحببتها، وما زلت أستمتع برائحة الأبخرة المنبعثة من لوحاتي منذ سنوات.
نمط العيش الأمريكي.. مجتمع مترف أغرقته وفرة النفط العربي
صار النفط مرآة سوداء تعكس 150 عاما من تاريخ البشرية، لقد شكّلت بيئتنا وأسلوب حياتنا. ورغم أن الناس استخدموا النفط منذ القدم، فإن الثورة الصناعية أحدثت ثورة في الحاجة لهذه المادة، وصارت تتحكم في كل تفاصيل حياتنا، لا في محركاتنا فحسب.

في خمسينيات القرن العشرين تجسدت ذروة الدعوة إلى قطع أشواط أبعد وأسرع من أي وقت مضى في أسلوب الحياة الأمريكي الذي كان نتاج مجتمع رأسمالي لا يمكن تصوره بدون النفط، ومن هنا ولد الإعتماد على البترول الذي سيسيطر على العالم شيئا فشيئا.
هنالك ميل إلى ربط عصر الحداثة البترولية بأسلوب الحياة الأمريكي، فقد استخدم هذا المجتمع البترول على أسس فكرية أكثر من أي مجتمع آخر. لقد أقنع الساسة الأمريكيون مجتمعاتهم أن استهلاك البترول واستخدام وسائل الراحة والسيارات الفارهة من شأنه أن يوقف المدّ الشيوعي.
وقد شهدت أواخر الأربعينيات من القرن العشرين تحولا لافتا، من ثقافة كانت تعاني شحا في الطاقة إلى ثقافة أصبح لديها فائض من الطاقة، وعليها إيجاد طرق لاستخدامها، وصار السؤال: كيف نتخلص من هذا النفط الذي يفيض علينا من الدول العربية؟ وهذا يعني إيجاد طلب لم يكن موجودا، عبر ابتكار نمط استهلاكي لم يكن موجودا من قبل، فظهرت السيارات التي تستهلك 25 لترا لقطع مسافة 100 كم.

وهنالك مصور أمريكي بعدُّ مؤسس التصوير الملون هو “وليام إجليستون”، أنتج سلسلة أدخلته عالم الشهرة، اسمها “لوس ألاموس”، توثق بشكل أساسي رحلته إلى الولايات الجنوبية، ونلحظ في كل صورة منها صراع الحضارات، فالألوان الباهتة للعمارة الخشبية القديمة، والألوان الزاهية البرّاقة التي تزين السيارات ومحطات الوقود وواجهات المحلات.
“الانتصار على الشمس”.. غطرسة الإنسان على البيئة
كان تأثير النفط قد بدأ قبل ذلك بكثير، وفي مكان بعيد عن أمريكا تماما، فحتى عام 1900 كانت “باكو” عاصمة آذربيجان مركز استخراج النفط على مستوى العالم، قبل أن ينتقل مركز الزيت الأحفوري إلى “تولسا” وهيوستن في الولايات المتحدة.

وهنالك روايات من العصور الوسطى عن قوافل من مئات الجِمال كانت تنقل النفط يوميا، وفي عام 1900 تحولت باكو، البلدة الصحراوية الصغيرة، إلى حاضرة يقطنها الملايين خلال فترة وجيزة، وسط توافد أرباب النفط عليها من أنحاء العالم، وكانت تنتج نصف الطلب العالمي من النفط، واستقرت فيها معظم شركات النفط العالمية.
تقول المصورة الأذرية “رينا أفندي”: كان والدي عالما، اصطاد أكثر من 90 ألف فراشة في جبال القوقاز، وتوفي في 1991، والأثر الباقي من حياته 50 شريحة لفراشات نادرة اصطادها بنفسه، انقرضت جميعها أو تكاد، وأنا أقوم بالجمع بين فراشاته والصور التي التقطتها لأشخاص يعيشون حول باكو.

إحدى فراشات أبي تعيش على أشجار الدفلى، لكنها انقرضت بسبب قطع كل أشجار الدفلى، ومن دون معرفة علمية مسبقة، جمعت بين تلك الفراشة وصورة لمشهد حضاري تظهر فيه شجرة دفلى نادرة جدا. فخلال الحقبة السوفياتية، كانوا يضخون النفط دون أدنى اعتبار للمعايير البيئية، وحتى اليوم تبدو بعض حقول النفط في باكو في حالة مزرية، ويعيش الناس حولها في أجواء ملوثة بالأبخرة.
ويستهلك سكان الكوكب ما يعادل 14 مليار لتر نفط يوميا، ولا يزال استخدامنا غير المنضبط في تصاعد، مع علمنا بالعواقب الوخيمة التي ستلحق بكوكبنا، فقبل أكثر من 100 عام كان الفنان الروسي “كازيمير ماليفيتش” سبّاقا إلى التعبير عن الغطرسة على الطبيعة بطريقته الخاصة، فرسم لوحته الشهيرة “المربع الأسود” بالنفط الخام.

استخدمت هذه اللوحة في أوبرا “الانتصار على الشمس”، وتحكي رؤية طوباوية مستقبلية مفادها استغناء البشر عن الشمس، وحبسها في باطن الأرض، والاستعاضة عنها بدورة حياةٍ صناعية تستمد طاقتها من الوقود الأحفوري.
وقف النفط العربي.. صحوة الغرب من غيبوبة الاستهلاك
يقول الفنان “إلبرت شوبفلين”: أستخدم الإسفلت في لوحاتي، وهو مخلفات النفط بعد تقطيره واستخراج الوقود منه، وبالنسبة لي يحمل الإسفلت عبقا من التاريخ، وهو يخرج من الأرض، الأمر الذي يجعله قريبا مني، أبذل جهدا بدنيا هائلا في إعداد اللوحات، ولكنه يغمرني بالارتياح.
ثم يتساءل: “هل صناعة السيارات إلى أفول، أم ستصمد في المستقبل؟ كنت أبحث عن أيقونة تخلد عصر السيارات، ووجدت ضالتي في سيارة “بورشه” قديمة، أتت عليها النيران في المرآب، وتركت تحت المطر لـ25 عاما، إنها رمز مجازي لعصر مالت شمسه للغروب”.

من المدهش في فن الحداثة البترولية أن هذا التصنيف لم يكن موجودا من قبل، وهو أمام تحدي تمثيل عصر ما بعد الحرب، ولقد استفاد الفنانون الذين يعملون لصالح الدولة، وأولئك الفنانون الناقدون من الحداثة البترولية والمنتجات النفطية بنفس القدر.
واصطدم الإحساس بالحرية وسهولة التنقل وأحلام النمو غير المحدودة في الستينيات بنهاية مفاجئة، تمثلت بقطع البترول العربي عن الأسواق الأوروبية والأمريكية في حرب 1973، لقد خلت الشوارع تماما أيام الآحاد، نتيجة تدابير صارمة في مواجهة أزمة النفط الصادمة، كل ذلك كان نتيجة خفض الإمدادات بواقع 10% فقط، لكنها كانت كافية لإظهار مدى تأثير النفط على السياسة.

ولم تؤثر ثورة النفط على السياسة فقط، بل على البيئة أيضا، فقد نشر نادي روما تقريره الشهير “حدود النمو” في 1972، ويتنبأ إلى حد كبير بالفظائع البيئية التي نواجهها اليوم، ولكن ماذا فعل العالم حيال ذلك؟ لا شيء، ففي ألمانيا -وهي معقل جماعات البيئة- تضاعف عدد السيارات ستة أضعاف، وتضاعف إنتاج واستهلاك كل شيء له علاقة بالنفط.
المصور البارز “ستيف ماكوري” له مساهمات كثيرة في مواطن الأزمات، فخلال حرب الخليج التقط صورا صارخة لمظاهر الحرب الوحشية، كان مشهد احتراق آبار النفط في الكويت مفزعا. لكن صور “سيباستياو سالغادو” بالأبيض والأسود كانت أكثر تجسيدا لحجم الكارثة.
لعنة النفط.. رفاهية المستهلكين ومعاناة المنتجين
كانت المجتمعات الغربية أوفر حظا بالاستمتاع بعوائد الثروة النفطية من مجتمعات البلاد المنتجة للنفط، فكان الأفراد الغربيون يستمتعون بالاستهلاك دون حدود، بينما كان على أفراد الدول المنتجة دفع الفاتورة من حصص تعليمهم وصحتهم وغذائهم، إنها “لعنة النفط”.
ويمكن أن تكون دلتا النيجر، والكوارث البيئية فيها، أوضح تجسيد لمفهوم لعنة النفط، فلقد عم الخراب هذه الجنة الأرضية التي سكنها البشر واستمتعوا بخيراتها منذ عصور ما قبل التاريخ، لقد دمرتها شركات النفط الجشعة.

وتعتبر نيجيريا من أكبر الدول المنتجة للنفط، وتعاني جارتها بنين من عدم وجود النفط في أراضيها، ويضطر مواطنوها لتهريب البنزين من نيجيريا في حاويات بلاستيكية صغيرة، وهذا البلدان مثالان صارخان على عدم استفادة الدول النفطية من خيراتها، وقد جسّد الفنان “رومولد هازومي” معاناة شعب بنين في نقل البنزين بلوحات تركيبية تمثل سيارات متهالكة تحمل أوعية البنزين المهربة.
وفنزويلا كذلك تعاني من لعنة النفط، فهي تملك أكبر احتياطي نفط في العالم، ومع ذلك يعاني اقتصادها مشاكل وأزمات كبيرة على مدى العقود الماضية، ومع أن السلطة في فنزويلا بيد حكومة اشتراكية تنادي بعدم تكرار أخطاء الماضي، أو التفريط بأصول البلاد فإن الأوضاع ساءت أكثر من أي وقت مضى، وبلغ التضخم وانخفاض قيمة العملة مستويات غير مسبوقة.

وقد جسدت الفنانة “آنا ألنزو” هذا التدهور بعرضها الساخر “مليون في المئة”، ويرمز إلى وعود الحكومة بتحقيق نمو قياسي في 2018، لكن النتائج جاءت خيبات متتالية، ومعدلات تضخم غير مسبوقة، حتى صارت عملة البلاد بلا قيمة تذكر، ومجرد أدوات فنية يستخدمها الفنانون في أعمالهم.

وتقول “آنا”: ليس الأمر مقتصرا على الدولة وعملتها، إنه ينعكس على الأفراد، فمطلوب منا تقليص الاستهلاك إلى الحد الأدنى، وإعادة استخدام الأشياء أكثر من مرة لأكثر من غرض، وبينما تستمتع دول أخرى بخيرات أرضنا، فإننا نعاني وعملتنا تعاني، والتضخم يزداد. حتى أنا كفنانة توجهت نحو الفن التركيبي، من أجل إعادة تفكيك أعمالي واستخدام القطع والمركبات في أعمال أخرى.
آفات البلاستيك.. مرارة الصحوة بعد حلاوة النشوة
يحاصرنا البترول ومشتقاته في كل مناحي حياتنا، فلقد وُجِدت جزيئات البلاستيك الدقيقة في أجسامنا ودمائنا، وأصبح الحلم كابوسا، وها نحن نتجرع مرارة الصحوة بعد حلاوة النشوة.
فقد كانت أحلام البشر منذ قديم الزمان وحتى القرن الـ18 تتمحور حول تحويل المواد الرخيصة إلى ذهب، وهو العنصر الأغلى، وفي الطريق لتحقيق هذا الحلم كانت هنالك اختراعات تنتج بالصدفة، مثل البورسلان. وحتى البلاستيك يقع في هذا الإطار، وهو تحويل المخلفات والنفايات إلى ذهب.

وفي 1984 أنتج النحات البريطاني “توني كراغ” لوحة ضخمة نافرة، تكونت من قطع نفايات بلاستيكية، ومفادها أننا نعيش في بيئة أعيد تشكيلها من البلاستيك، بل لقد شُكّل “الإنسان البلاستيكي” الجديد، وأصبح البلاستيك في جميع مياه ورمال العالم.
وتستخدم الفنانة “مونيكا غريزيمالا” أشرطة البلاستيك اللاصقة في عمل لوحات فنية فراغية، أو “الرسم المكاني”، وتستفيد فيها من الفراغات الكبيرة في الصالات والمتاجر. تقول مونيكا: الرسم والفراغ يشتركان في إنتاج فن ذي أبعاد جديدة، ولولا النفط لما أمكنني فعل ذلك، فالنفط له خصائص السيولة واللزوجة، فيتدفق في الفراغ ويبسط وجوده على الأشياء، ككائن طفيلي.
لوحات النفط.. رسومات الحداثة والتغول على الطبيعة
في كل مرة نزور محطة البنزين لتعبئة سياراتنا، فإننا ننبش في تاريخ يمتد 150 مليون سنة، ونأخذ من الكوكب ذاكرته الزاخرة الطويلة، لنحرقها في أجزاء من الثانية، إننا نمتص شيئا تستحيل إعادة تشكيله مرة أخرى، ومثل مصاصي الدماء نترك وراءنا قشرة فارغة.

وقد عمد الفنان التركيبي الأمريكي “مات كينيون” إلى رفّ صغير وضع عليه علبا من زيت السيارات، لشركات عالمية مختلفة، بينما يبدو الزيت يتدفق من قاعدةٍ أسفل الرف باتجاه الأعلى نحو ثقوب في العلب الفارغة، في مسارات رمزية تناقض الجاذبية وقواعد الفيزياء، وإشارة إلى الوهم الذي نعيشه، بديمومة النفط واستمراره غير المحدود.
لكل فنان منظوره الخاص تجاه النفط واستخدامه في اللوحات الفنية، فهنالك مسحات جمالية تستفيد من الواقع المعاش في ظل النفط، تحاول إضفاء الإيجابية على تعاملنا مع حقبة الحداثة النفطية، ولوحات أخرى تجريدية تنعى على بعض البشر تغوّلهم على الطبيعة، ونهبهم لخيرات الكوكب بدلا من عدالة توزيعها بين أبناء جنسهم.
ويجب أن يقف الناس جميعا أمام مسؤولياتهم تجاه الكوكب، والبدء بإصلاح الأضرار التي أحدثناها على الأرض خلال فترة وجودنا القصيرة عليها، والبدء بعملية تنميةٍ مستدامة للحد من التلف. من أجلنا ومن أجل الأجيال القادمة، شئنا أم أبينا.