” صغار في المنزل”.. يُتم وأخطار ودلال في الأيام الأولى بمملكة الحيوان

الخطوات الأولى في الحياة هي لحظات سحرية، وفي عالم الحيوان كما في عالم الإنسان، تتعرف الصغار من خلال تلك اللحظات على أسرار الحياة الجديدة التي جاءت لها. وتكون محظوظة تلك الحيوانات التي ترافق والديها، وتنعم بدفء الأمان في كنفهما، وتتعلم منهما كيف ستخوض غمار هذا العالم الجديد.
وفي هذه الحلقة من سلسلة “روابط عائلية” التي عرضتها الجزيرة الوثائقية، سوف نتعرف على ماهية نشأة الصغار في عالم الحيوان، ونجيب عن أسئلة مثل: كيف يبدو تسلق المرتفعات للمرة الأولى؟ وما التحديات التي يواجهها الصغار من الأجناس المختلفة، وكذلك أهم الدروس التي يجب أن يتعلمها الصغار، كل هذا وأكثر في حلقةٍ بعنوان “صغار في المنزل”.
أفعى الشجر الخضراء.. أم هاربة تورث صغارها جينات البقاء
في أدغال أستراليا تحتضن أفعى الشجر الخضراء بيضها مدة 50 يوما متواصلة، دون راحة أو طعام أو أي نشاط آخر، ثم تهجر البيوت قبل أن تفقس البيوض بقليل، حتى لا تغريها غريزتها بالتهام صغارها.

وعندما تفقس البيوض عن فرخ الثعبان الأخضر يتعين عليه أن يواجه الحياة وحده منذ اليوم الأول، فيسير بين الأغصان ويصيد فرائسه وحده دون أي توجيه من الأبوين البعيدين، وهذه شجاعة نادرة لصغير كهذا. لكن الخسائر كبيرة، فمن بين 20 ثعبانا تفقس، يصل ثعبانان فقط سن البلوغ، ويقاتل الثعبان الصغير بشراسة دفاعا عن حياته، ولا يستسلم حتى اللحظة الأخيرة.
الكوالا.. ثلاثة أعوام من الدلال في جراب الأم
في أعالي أشجار الأوكاليبتوس الشاهقة، هنالك وافد جديد، إنه “الكوالا”، ولكنه شديد التعلق بأمه على عكس الحيّة الخضراء، وتبقى صغار الكوالا من الإناث متعلقة بأمها لمدة عام كامل، بينما لا يرغب الذكور بترك حياة الطفولة، فيبقون في جِراب أمهاتهم أكثر من ثلاث سنوات.

وتنام الكوالا حوالي 20 ساعة يوميا، وتستخدم ما بقي من يومها في قضم أوراق شجر الأوكاليبتوس، ولكنها ليس بهذه الراحة التي نظنّها، فمن بين 900 نوع من شجر الأوكاليبتوس، فإنها تأكل من 10 أصناف فقط، وليس هذا فحسب، بل إنها انتقائية لدرجة أنها تشم كل ورقة قبل أن تأكل، والسبب ليس رفاهية، بل لأن معظم أوراق هذه الشجرة مسممة بمادة السيانيد.
ومن حسن حظ الكوالا أن أمعاءها تحتوي بكتيريا يمكنها تحييد “تأييض” هذه السموم، لكن المشكلة تكمن في الصغار، فهي لا تحتوي هذه الميزة في أمعائها، ولذا فإن لها خيارين لا ثالث لهما، إما أن تأكل من فضلات أمها، أو أن لا تأكل أبدا. ومن حسن حظ الصغار أن هذه الميزة تتطور مبكرا في أمعائها، لتقوى على مضغ أوراق الشجر دون خوف تقريبا.
أشبال الوشق.. غريزة الصيد والاستكشاف تحت الخطر
في أقصى شمال الكوكب، وفي غابات فنلندا الكثيفة تعتني أنثى الوشق الأوراسي بأشبالها المولودة حديثا، وتلعقها باستمرار، ليس للتنظيف فقط ولكن لتقوية الروابط بين أفراد العائلة الصغيرة. فأحد الشبلين مدلل وملازم لأمه معظم الوقت، أما الآخر فهو مستكشف جريء، والأم حائرة بين كثرة طلبات الأول، وتمرد الثاني وسعيه وراء الأخطار.

وبعد حوالي أربعة أشهر يجف حليب الأم، وتتفجر غريزة الصيد والقتال عند الشبلين اليافعين، وتزيد لديهما طبائع المغامرة وحب الاستكشاف، ولكنهما ما يزالان تحت سمع ونظر أمهما، فهي تراقبهما باستمرار، لدرجة أنها تحسّ بخطر سقوط أحدهما بعدما تسلّق شجرة، وكاد يسقط، فما كان من الأم الحريصة إلا أن أسرعت إلى أعلى الشجرة وأنقذته من سقوط محقق.
ذئاب العرعر.. آداب المائدة والصيد تحت كنف الأم
ننتقل إلى صديقتنا الذئبة في غابات العرعر في شبه الجزيرة الأيبيرية، فها هي ترى النور لأول مرة هي وجراؤها بعدما خرجوا من الجُحر الذي وُلِدوا فيه قبل أكثر من شهر، وتبدأ معهم رحلة التدرب على كسب الطعام، لأن ما لديها من الحليب سينضب خلال أيام قليلة، وعليها أن تسرع في تعليمهم الصيد.

وستعلمهم على الوجبات الخفيفة السريعة أولا، كصيد أرنب بري مثلا، ثم تعلمهم آداب المائدة في عالم الذئاب، فالزعيم يأكل أولا، وهذا الترتيب الهرمي الصارم يجب أن يحترَم بكل حذافيره، وتتعلم الجراء كل يوم مهارة جديدة، ودرسا في ثقافة القطيع، قبل أن تنضم إلى الذئاب الكبيرة.
بيض السرعوف.. ذرية الجراب التي لن ترى أمها أبدا
يحل الخريف، وتوحي الأوراق الصفراء المتطايرة أن مظاهر الحياة قد انتهت لهذا الموسم، ولكن جذوع الأشجار ما زالت تحمل بين تجاويفها كائناتٍ تنبض بالحياة، مثل حشرة السرعوف التي تفرز جرابها المخاطي اللزج، لتستودعه أكثر من 400 من بيضها، وسيتصلب الجراب بمجرد ملامسة الهواء، ليحفظ ما بداخله من البيوض التي ستفقس دون أن ترى أمها أبدا.

وفي الربيع التالي سوف تفقس بيوض السرعوف هذه عن “حوريات” تشبه أمها تماما، ولكنها لن تصل إلى حجمها النهائي قبل أن تخلع ثوبها الخارجي بين 6-9 مرات، وحينها سوف تكتسب لونها الأخضر الذي سيساعدها في عمليات التمويه، للصيد أو الاختباء من خطر محدق.
فرخ النسر الأسود.. مدلل العش ذو الحظ العظيم
فرخ النسر الأسود وحيد والديه محظوظ أكثر من غيره من الأحياء التي فقست هذا الربيع، فوالداه يحومان حوله باستمرار، يطعمانه ويرعيانه، وما عليه سوى أن ينتظر في العش ريثما يأتي أحدهما بطعام يضعه في منقاره النهم المفتوح دائما.

بينما يعاني والداه من أجل نيل حصتهما من الطرائد النادرة في الغابة، إذ تتشارك فيها مع أسراب النسور الأخرى، وتخوض من أجلها المعارك والمناوشات، وعندما تعود إلى العش لا تقتصر مهمتها على إطعام فرخها فحسب، وإنما تفرد أجنحتها الكبيرة لتظلّله من أشعة الشمس الحارقة في الصيف.
خفاش الثمار.. صغار لا تفارق عباءة الأمهات
على الساحل الشرقي للقارة الأفريقية تقع جزيرة مدغشقر، وهي ذات تنوع بيولوجي مذهل، إذ تسكنها حيوانات مستوطِنة، لا يمكن أن تجدها إلا في هذه الجزيرة، وفيها يَعتبر الليمور نفسَه الزعيم الروحي للغابة، فهو موجود في كل مكان، ويراقب كل ما يحدث، ويعرف جميع سكان الغابة.

وأحد هؤلاء السكان هو خفاش الثمار، أو الثعلب الطائر الملغاشي، وهو يعيش في زُمرٍ تعدّ بالآلاف، ويقضي فترة استراحته متعلقا بالأشجار رأسا على عقب، ويتدلى مثل ثمار الفاكهة الناضجة. وتحتضن الأمهات صغارها التي لا تكاد تفارقها، تحت أجنحتها، تماما كما يغطي أحدهم طفلَه بعباءته.
وهي مصاصةٌ للسوائل في الأشجار والنبات، وتقدم خدمة مقابل ذلك، إذ تنقل حبوب اللقاح بين هذه النباتات، وتنشر البذور في النظام البيئي، وإذا اضطرت الأم للمغادرة للحصول على وجبة سريعة، فإن صغيرها يتشبث بها أثناء الطيران ولا يفارقها، أما إذا كان سيئ الحظ وسقط أرضا لسبب أو لآخر، فإن فرص نجاته ضئيلة للغاية أو معدومة.
أشبال الأسود.. هيبة الملوك وشراسة الصيادين
ننتقل إلى سهول سيرينغيتي الشاسعة، حيث دورة الحياة والموت هي الأشد وضوحا هناك، ودراما لقاء المفترس والفريسة التي تخلِّف آلاف الضحايا، وهي المشهد الذي لا يغيب عن السهول في أي لحظة من ليل أو نهار. لكن التوازن محفوظ هناك، فالأبناء والأحفاد من الطرفين يعوّضون أولئك الذين اختفوا عن مسرح الحياة.

تتربى أشبال الأسود في أكناف والديها، وتقضي فترة الطفولة تلعب وتتعلم أساليب الصيد والافتراس والسيطرة على الغابة، وهي تراقب كل حركة صغيرة أو كبيرة تقوم بها الأم والخالات عند تنفيذ عمليات الصيد المختلفة، بينما يتعلم الذكور الذين تسري في عروقهم دماء المَلَكية والزعامة، كيف يكون لهم هيبة وحضور طاغٍ بين سكان السهول.
دببة القطب البيضاء.. أشهر من رضاعة الأمهات الجائعة
عندما يحل الربيع بالمناطق الجليدية في شمال كندا، تبدأ الكتل الجليدية بالذوبان، وتضطر الدببة القطبية البيضاء للهجرة من السطوح الجليدية إلى اليابسة الأكثر أمانا. لقد كان شتاء طويلا، وقضت الأمهات أكثر من خمسة أشهر دون طعام تقريبا، ففقدت 40% من وزنها نتيجة إرضاع صغارها.

وهناك تنمو الدياسم (صغار الدب) بسرعة، وتحتاج لثلاثة أشهر قبل أن تأكل طعاما صلبا تصطاده بنفسها، ولكن قبل ذلك تكون معتمدة على حليب أمها فقط. والدببة آكلة للحوم بشكل رئيسي، ولكن إذا تعذر وجوده فقد تضطر إلى أكل الخضار والأعشاب المائية.
غناء الحيتان.. وسيلة التواصل وهداية الصغار التائهة
في أقصى الجنوب من أمريكا اللاتينية، وعلى سواحل صحراء باتاغونيا، تتجمع الحيتان لولادة صغارها قبل أن تنطلق في رحلة طويلة إلى الدائرة القطبية الجنوبية. تتربى الصغار في كنف أمهاتها، وتتواصل معها غالبا بالملامسة الجسدية، وتحرص الأمهات على هذه الملامسة لتقوية الروابط العائلية، وللتأكد من قرب الصغير منها بشكل دائم.

أما إذا ابتعدت الصغار لسبب أو لآخر، فإن غناء الحيتان الفريد يرد العجول الشاردة حتى لو ابتعدت عدة كيلومترات. ومن أكثر الأخطار التي تهدد هذه الصغار هجمات أسماك القرش، أو الحيتان المفترسة الكبيرة، ولذا تحرص الأم على أن تكون الصغار قريبة، وأن يبحروا في قطعان من عدة أمهات، وقد تأتي الهجمات المزعجة من الجو، من طيور النورس، ولكنها تتجنبها بمجرد النزول تحت سطح الماء.
لقد أودع الله سبحانه غريزة الرعاية والحماية، في قلوب هذه الحيوانات العجماء تجاه صغارها، وقد رأيناها في صور مختلفة، قد تستمر الرعاية أشهرا وسنوات، وقد تكون دقائق ولحظات، ويمكن أيضا أن لا تكون بالمرافقة أبدا، بل تودِع الأمهات أسرار الرعاية وشيفرة الحرص في البيوض التي تبيضها، حتى قبل أن تفقس.