فنون الأبوة.. حماية فلذات الأكباد في عالم متوحش

في عالم الإنسان يحل الصخب على العائلة عندما يولد طفل جديد، وتتغير مسؤوليات الآباء وواجبات الأمهات تبعا لاحتياجات هذا الضيف الجديد، فهل ينطبق هذا أيضا على عالم الحيوان؟ وكيف يشعر الآباء من الكائنات الأخرى عند ولادة صغارهم، وما هي الإستراتيجيات المتبعة في رعايتهم وإطعامهم وحمايتهم من الأخطار؟
هذا وغيره الكثير، هو مدار هذه الحلقة الممتعة من سلسلة “روابط عائلية”، وقد عرضتها قناة الجزيرة الوثائقية تحت عنوان “فنون الأبوة”.
جحر الولادة.. بحث عن مكان آمن لوضع جيل من الذئاب
بعد أن أمضت أياما حميمة مع الذئب المهيمن في القطيع في شبه جزيرة أيبيريا، تسعى الذئبة لاعتزال بقية القطيع، والبحث عن مكان آمن تلد فيه صغارها، فولادة الجراء بين الذئاب المفترسة يشكل خطرا جسيما يتهدد حياتها.

والبحث عن مكان آمن ليس بالمهمة السهلة في هذا الوقت من السنة، فكثير من الأمهات تنتظر مواليدها كذلك، وهي قد سبقت الذئبة إلى المخابئ والجحور التي تتوفر في هذه المرتفعات. وبعد لأي وجدت مأوى مشتركا مع نزيل آخر، إنها العنكبوت الذئبية، تضع بيوضها الثمينة وتغلفها بكيس مصنوع من لعابها، وتحمل الكيس طوال الوقت حتى تفقس جميع البيوض.
ولدت الذئبة 7 جراء جميلة، تبدو بريئة ولطيفة حتى الآن، وتستمتع بتذوق وجبتها الأولى من حليب أمها، ثم تخرج بعدها الأم وتبحث عن طعام تتقوى به على إرضاع صغارها، ويحتاج الأمر 3 أسابيع في هذه العزلة الموحشة قبل أن تتمكن الأم وصغارها من الالتحاق بقطيع الذئاب.
طيور اللقلق.. استنفار لملء أفواه الفراخ الجائعة
نبقى في شبه الجزيرة الأيبيرية، نتابع تصرفات آباء جدد آخرين، وكيف يجهزون أنفسهم لاستقبال صغارهم، فطيور اللقلق الأبيض ما تزال مشغولة في ترتيب أعشاشها العملاقة على قمم الأشجار، ويتناوب الذكر والأنثى على تهيئة العش وتدفئة البيوض حتى تفقس، ومهما كانت الظروف الجوية المحيطة، يحرص الأبوان على إبقاء البيض في درجة حرارة ثابتة لضمان سلامة الصغار.

وبعد حوالي شهر من وضع البيوض تتصدع القشرة عن أول الفراخ الجائعة، ويتوالى بعدها ظهور المناقير المشرعة لاستقبال الطعام، وتبدأ المعاناة الحقيقية للأبوين.
فمع ازدياد أعداد الفراخ الجائعة في الأعشاش المجاورة تصبح قرية اللقلق الأبيض في حالة استنفار عام لتأمين الطعام لهذه الأفواه المفتوحة على الدوام، وتبدو الأمهات رائحة غادية، لتفرغ ما بأجوافها في بطون الصغار.
ومن بين الكثير من العائلات، تعد طيور الدقنوش الرمادية من أكثر الأزواج انشغالا في الغابة، فوظيفتها لا تقتصر على إحضار الطعام للفراخ وإصلاح العش، بل تتعدى ذلك إلى تنظيف صغارها من فضلاتها، وإخراجها بعيدا عن العش. وعند حلول الظلام يهدأ الحي إلا من قعقعة مناقير اللقلق الأبيض، إيذانا بوقت النوم القصير.
صغار الليمور.. مشاكسون مزعجون تترصدهم جوارح السماء
ننتقل إلى غابات مدغشقر، حيث تعيش بعض أهم أنواع الرئيسيات، وهي رتبة من الثدييات تستوطن أغصان الأشجار، ومنها الليمور الحلَقيّ الذيل الذي يتميز بذيله ذي الحلقات البيضاء والسوداء المتناوِبة، وهو يقضي معظم وقته على أعالي الأشجار، يستمتع بحرارة شمس الصباح الدافئة، في أيام الشتاء قارس البرودة.
ويأخذ الليمور وضعية القرفصاء، ويمارس طقوسه التأملية وكأنه في جلسة “يوغا”، ثم يمدّ أرجله لتعريض أكبر مساحة من جسده للشمس، وينضم بقية أفراد العائلة للمشاركة في حمّام الشمس، وتتبادل تنظيف وَبَرها وتنظيف أجساد صغارها بلعق كل جزء منها، وتستمر حفلة الشمس هذه عدة ساعات يوميا.

ثم تأتي فترة الإفطار، والوجبة الشهية هي أوراق الأشجار الغضة الطرية بالطبع، لكنها صعبة المنال في هذه الغابة الشائكة،ويضطر الليمور حلقي الذيل إلى توخي الحذر الشديد لدى انتقاله بين الأشجار خشية الوخزات المؤذية جدا من أشواكها الحادة، بينما يبدو الأمر سهلا جدا لدى ليمور “السيفاتا” الذي يتنقل برشاقة وسرعة بين الأشجار، بفعل القفّازات السميكة والمتينة التي تحميه من وخز الأشواك.
لكن ليمور الذيل الحلقي يتفوق في مهاراته على الأرض، إذ يتفنن في اصطياد حشرات البق الدرعي المقرمشة والغنية بالبروتينات، ويفعل كل هذا وهو يتمتع بجلَد وصبر كبيرين على صغاره، فهي لا تكاد تدعه يتنفس أو يأكل، فهي دائمة التعلق بعنقه وركوب ظهره بحركات سريعة ومستفزة، فلا تكاد تستقر على حال طوال الوقت.
لكن الأوقات الجميلة لا تدوم، فعلى حيوانات الليمور أن تنسحب بسرعة إلى الأشجار ثانية، وهي تحمل جميع صغارها، وذلك عندما ترى الطيور الجارحة تحلِّق في الأجواء، لأن وجودها على الأرض يعني أنها ستكون فريسة سهلة لهذه الجوارح.
نهاية الشتاء.. أيام خطرة لا تخرج فيها الأمهات والدياسم
ننتقل إلى فنلندا في أقصى شمال أوروبا، حيث يشهد شهر أبريل بداية تحسن الأجواء في تلك المناطق الجليدية الباردة، وتبدأ الحيوانات بالاستيقاظ من سباتها العميق خلال فصل الشتاء الطويل، ويكون الدب البني أولها استيقاظا، أما الأمهات وصغارها الدياسم، فتحتاج لشهرين آخرين للخروج من مخابئها.

وتبقى الدياسم (صغار الدببة) بحاجة لرعاية أمها مدة عامين كاملين، وهي فترة طويلة محفوفة بالأخطار، يتعيّن على الأم خلالها أن تُبقي صغارها تحت عينيها طوال الوقت، وإلا فالأخطار تتهددها من الأرض والجو على السواء، فالأجواء مليئة بالطيور الجارحة الضخمة التي تتضور جوعا، وتبحث عن فريسة مهما كان حجمها لتسد بها رمقها.
أما على الأرض فهنالك ذكور الدببة التي تتدفق في عروقها هرمونات التناسل، فتبحث بجنون عن الإناث لتروي من خلالها عطشها الجنسي، وتضمن استمرار نوعها، وهي تعرف أن الأنثى لا تعبأ باللقاء الحميم إلا إذا لم يكن لديها صغار، لذا تعمد ذكور الدببة لافتراس الدياسم حتى تتمكن من الفوز بالإناث.
بيض الضفادع.. حياة مرهونة بقناعة الأفاعي
ننتقل إلى كوستاريكا، حيث يهبط الليل على الغابات المورقة المطيرة، هذه البيئة الحارة الرطبة كثيرة المياه تجعلها نظاما مثاليا تعيش فيه أنواع لا تعد ولا تحصى من الكائنات الحية، من بينها أكثر من 180 من أنواع الضفادع المختلفة. وبسبب الرطوبة الزائدة، فإن هذه الضفادع لا تحتاج للبحث عن الماء للعيش أو لوضع بيوضها.

وبدلا من ذلك فهي تلصق بيوضها أسفل أوراق الأشجار الرطبة، فتأمن عليها من حيوانات البحر التي تلتهمها بشراهة، لكنها في المقابل لا تأمن عليها من بعض أنواع الأفاعي التي تتلذذ بهذه الوجبة الشهية من بيوض الضفادع، ولا تستطيع الأمهات حيالها أن تفعل أي شيء لحماية بيوضها، وتكل الأمر فقط إلى تلك الأفاعي القنوعة التي لا تأتي على كل البيض.
جذع الفئران.. عوالم خفية تحركها حاسة الشم
في جذع شجرة ضخمة عمرها مئات الأعوام، تكمن عوالم خفيّة من الكائنات، ومثلَ مدينة عتيقة تروح وتأتي بين أزقّتها الضيقة، وتسكن في جحورها المعتمة عائلات كثيرة من القوارض والزواحف والحيوانات المختلفة. من بينها هذه الفأرة البالغة التي لا يتجاوز عمرها شهرا ونصف الشهر، ولكن هذا العمر القصير أهّلها لتكون أُمّا لـ12 فأرا صغيرا وُلِدوا للتو.

ترشدها حاسة شمّها الحادة إلى صغارها بين دهاليز الشجرة المعمرة، وهي نفس الحاسة التي ترشد الصغار العمياء الصماء التي تتضور جوعا إلى أثداء أمها. لكن حياة الأم لا تجري دائما بهذه السهولة، فهي تضطر إلى إخلاء جميع صغارها في حالات الطوارئ، ونقلها إلى أماكن أكثر أمنا، عندما تتعرض لهجمات السحالي الجائعة التي ترشدها حاسة شمّها كذلك إلى أماكن ضحاياها.
بيض الكروان.. مفترسات في السماء وزواحف على الأرض
في جزر الكناري تجترح أنثى الكروان الصخري حِيَلا شتّى للحفاظ على بيضها من هجمات طائر النورس، فتغطي البيض ببعض الريش أحيانا حتى لا يكتشف النورس أمره، وفي أحيان أخرى كثيرة ترقد أنثى الكروان على البيض بنفسها، وتبقى لفترة طويلة دون حراك، في حالة سكون تامّ حتى ينجلي الخطر وتذهب الطيور المتطفلة.

وعلى بُعد أكثر من 18 ألف كيلو متر، وتحديدا في أستراليا، ما يزال الكروان الصخري يواجه نفس الأخطار التي يواجهها أبناء جنسه في جزر الكناري، ولكن من مفترسات أخرى، ويبتدع هو حيلا أخرى لحماية بيوضه وفراخه، ويأتي الخطر هنا من الأرض، من سحلية الورل الضخمة.
ويحاول الكروان أن يخفي صغاره بجسده، لكن هذه الحيلة لا تنطلي على السحلية، إذ تستخدم حاسة الشمّ أكثر، وتميز رائحة الفراخ، فيتحول الكروان إلى حيلة أخرى، وهي نشر جناحيه بطريقةٍ يبدو فيها حجمه الضئيل مضاعَفا كثيرا، فيخيف بذلك سحلية الورل، ويجعلها تتراجع عن خططها في الافتراس.
لقد أودع الله سبحانه في فطرة هذه الحيوانات العجماء من عاطفة الأمومة وحرص الأبوة ما تحار به الألباب، وكلُّها سائرةٌ بتوجيهات غريزتها إلى حفظ نوعها عن طريق حماية صغارها وإطعامها ورعايتها، حتى تصبح آباء المستقبل وتكمل دور الأجداد.