بابل.. عظمة الآثار المهملة لحضارة سادت ثم بادت

تقول الأسطورة إن البابليين قرروا أن يصارعوا الربّ المنافس لإلههم مردوخ، فبنوا برجا عاليا على جبل مرتفع، فأغضب ذلك الربّ وهدّم برجهم وفرّقهم على بقعة واسعة من الأرض، وبَلْبَلَ ألسنتهم حتى ما عادوا يفهمون كلام بعضهم، ولذلك سُمّوا بالبابليين.
واليوم، وبعد حضارة ضاربة في العظمة والقدم، صارت بابل أثرا بعد عين، وبعد أن كانت تُشَرِّع للحضارات من حولها وبعدَها، أصبحت مدينة مهملة، قلّما يزورها أبناؤها، فضلا عن السعي وراء انجذاب السائحين الأجانب إليها.
ومساهمةً في تسليط الضوء على هذه المدينة الأثرية المتميزة، أنتجت الجزيرة الوثائقية فيلم “بابل” ضمن سلسلة “دهاليز”، تناولت فيه أهم المعالم الباقية من هذه الحضارة، وكشفت عن المساهمات الحضارية لمملكة بابل العريقة.
عشتار.. بوابة منهوبة لحضارة ملأت عين الزمان والمكان
كانت بابل تسمّى بالسومرية “كادنقرّاه”، أي طوابق الآلهة، وسمّيت بالأكّدية “باب إيلي”، أي باب الإله، أما في اليونانية القديمة فكانت تدعى “بابلونيا”، وفي القرآن الكريم وردت في الآية 102 من سورة البقرة باسم “بابل”، إذ يقول الله تعالى: ﴿وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ﴾.

والداخل اليومَ إلى بابل العتيقة يمر من بوابة عشتار الرمزية التي بنتها دائرة الآثار العراقية، وهي مزيّنة بنقوش نافرة للثور المجنّح والتنّين المقدس، ثم يعبر إلى “المتاهات”، وهي صفوف من غرف عدة متلاصقة، بُنيت من طوب الآجُرّ الطيني، والهدف من بنائها على شكل متاهة هو حماية القصر الرئيسي الجنوبي.
وكان اليونانيون يطلقون اسم بابل على العراق كلها وأجزاء من سوريا، أما بابل المدينة فيبلغ محيطها 18 كيلومترا، ومساحتها حوالي 10 كيلومترات مربعة. ويعتبر شارع الموكب المعلمَ الرئيسي لمدينة بابل، وقد سمّي بهذا الاسم لمرور مواكب الملوك والآلهة من خلاله، مثل الملك “نبوخذ نصر الثاني” والإله “مردوخ”، وكانت تقام فيه احتفالات رأس السنة البابلية التي تصادف الشهر الرابع من كل عام.

أما بوابة “عشتار” المزجّجة الأصلية فكانت موجودة داخل السور التاريخي للمدينة، وتعدّ من أقدم آثار بابل، فقد بُنيت سنة 625 قبل الميلاد، على يد الملك “نبوبلاصر”، وأعاد بناءها نبوخذ نصر الثاني الذي حكم بابل بين 604-563 ق.م. وقد نُقلت البوابة على شكل قطع إلى متحف برلين، على يد مُنقِّب الآثار الألماني “روبرت غولدواي” بين 1899-1914، وأعيد بناؤها هناك.
وقد عثر على نص يعود إلى عهد نبوخذ نصر الثاني، وفيه إشارة إلى آخر عملية صيانة لهذه البوابة، وذلك عام 575 ق.م. “إكراما لسيده الإله مردوخ”.
حدائق بابل المُعلَّقة.. رومانسية بطعم العَظَمة
بُني برج بابل في 626 ق.م. على يد الملك نبوبلاصر، وأكمله ابنه نبوخذ نصر الثاني في 600 ق.م، وهو بناء مدرَّجٌ ومكوَّن من 7 طبقات، كل واحدة منها أصغر من الأخرى، وفي الجزء الثامن الأعلى معبدٌ يسمّى “شاخورو”، وقد بُني البرج لعدة أسباب، أهمها تكريس عبادة الإله مردوخ.

وقد تعددت الروايات حول مكان حدائق بابل المعلقة، أو الجِنان المعلقة، فبعض الباحثين يرجحون أنها تقع في القسم الشمالي الشرقي من القصر الجنوبي محاذية لبوابة عشتار. وقد وجدت بالفعل بناية غريبة وهي عبارة عن صفوف من الغرف الصغيرة بينها ممرّ، وتعلوها سقوف تبين أن نباتات كانت زرعت في أتربة فوق هذه السقوف.
بينما يرى باحثون آخرون أن الجنان المعلقة موجودة في القسم الجنوبي الغربي للقصر الجنوبي، بمحاذاة نهر الفرات، حيث تُرفع المياه من النهر إلى هذا البناء المرتفع لريّ النباتات والأزهار فوقه.

ويقال في سبب بناء هذه الحدائق المعلقة، أن زوجة الملك نبوخذ نصر كانت من قرية جبلية مشهورة بالأشجار والأزهار، فخشي الملك أن تستوحش عروسه من تغيُّر المكان، فبنى لها هذه الجنان المرتفعة فوق المباني الشاهقة، تعبيرا عن حبه لها، وحتى لا تشعر بالغربة عن موطنها الأصلي.
“في بابل اخترعت أول آلة حربية”.. أم الحضارات المهملة
يتحدث لنا علي المخزومي -وهو ناشط في مجال الآثار- عن مبادرته من أجل إعادة إحياء السياحة المحلية والإقليمية لمدينة بابل، ولفت الأنظار إليها من جديد بقوله: مع الأسف، مدينة بابل اليوم مهملة، وقلما يرتادها الناس من المواطنين فضلا عن الأجانب، فالحكومة لا تروّج لها، ولا حتى القطاع الخاص ممثلا بالشركات السياحية.

ويتابع المخزومي: في بابل اخترعت أول آلة حربية، وفيها وُضع أول نظام تقويم، فقد قسموا السنة إلى 12 شهرا، والشهر إلى 30 يوما، والأسبوع إلى 7 أيام، وهو النظام المتبع اليومَ في التقاويم العالمية.
الآثار الباقية اليوم في بابل هي للحضارة البابلية المتأخرة، أي منذ أيام الملك نبوخذ نصر الثاني، أما القديمة فلم يبق منها شيء، وتصور الثقافة البابلية الإله مردوخ على شكل حيوان أسطوري، رأسه رأس تنّين، وجسده سمكة، ورجلاه الأماميتان رِجلا أسد، بينما رجلاه الخلفيتان مخالب صقر، وذيله على شكل أفعى.

ويظهر داخل أسوار المدينة تمثال لأسد عظيم يربض على إنسان، ويمثل الأسد عظمة مملكة بابل، بينما يمثل الإنسانُ المسحوق تحته العدوَّ في لحظة انهزام وانكسار. وقد عَثر عليه باحثو آثار ألمان في 1890 في القصر الشمالي المركزي الذي يحتوي مقتنيات نبوخذ نصر.
“شريعة حمورابي”.. أقدم القوانين التنظيمية في التاريخ البشري
تعتبر شريعة حمورابي من أهم الإنجازات الحضارية التي قدّمها ذلك الملك لدولته ورعيّته، وتحتوي حوالي 300 مادة قانونية تنظم علاقة الأفراد ببعضهم، ثم مع المجتمع والدولة، وتتناول هذه الموادّ القانونية أنظمة الزواج والطلاق والميراث والعلاقات التجارية والزراعية، وكذك تنظيم المهن المختلفة، كالطب وغيرها، وأجور الأطباء والمهنيين وبقية العمّال.

وقد دوِّنت هذه الشريعة على مسلَّة من حجر الديوهانت، بارتفاع 225 سم، وقطرها من المنتصف حوالي 60 سم، وفي أعلى المسلّة نقش يمثل الملك حمورابي وهو يستلم مقاليد الحكم من الإله “شمش”، وذلك حتى يضفي على سلطته الدنيوية بُعْدا دينيا.
وقد اهتمت البعثات التنقيبية العالمية اهتماما بالغا بحضارة بابل، فجاءت البعثة الفرنسية في 1853، ثم تبعتها البعثة الشرقية الألمانية بقيادة “روبرت غولدواي” في 1899 واستمرت حتى 1914، ثم تتابعت البعثات التنقيبية العراقية واستمرت حتى بداية الألفية الثانية، ولكنها توقفت تماما بعد سقوط النظام العراقي السابق.

وفي 2015 سُلّم ملف متكامل عن بابل القديمة إلى منظمة اليونسكو، من أجل إدراج المدينة على لائحة التراث العالمي، ويحرص البابليون اليوم على إضفاء مسحة ترفيهية بنكهة تراثية على المدينة، من أجل اجتذاب السياح من أنحاء العالم إلى هذه الحضارة الراسخة في العظمة والقدم، مثل إقامة المنتجعات والمتنزهات ومسرح بابل الكبير، بالإضافة إلى مهرجانات سياحية سنوية.