“فنون التودد”.. رقصات وطقوس تلوّن قصص الحب في مملكة الحيوان
في عالم البشر هنالك تحضيرات كثيرة ومعقدة، ينبغي على الفرد القيام بها قبل الارتباط بشريك العمر وتكوين أسرة مستقرة ومستمرة، وتكون هذه التحضيرات مادية في بعض جوانبها، مثل بناء البيت وتأمين الغذاء والحاجات الأخرى. ومعنوية من وجه آخر، مثل الحب والعاطفة والجمال والجاذبية وغيرها. وقد وُجد أن الأمر نفسه ينطبق على عالم الحيوان.
فما هي هذه التحضيرات التي تقوم بها الحيوانات قبل عملية التزاوج؟ وما هي التقنيات والآليات المتبعة لجذب شريك الحياة؟ وهل الحب والعاطفة والتودد والانجذاب مفرداتٌ تصلح لوصف العلاقة بين الأزواج في الكائنات الحية الأخرى؟ هذا ما ستجيب عنه هذه الحلقة المشوِّقة من سلسلة “روابط عائلية”، التي بثتها الجزيرة الوثائقية تحت عنوان “فنون التودد”.
التنينة الطائرة.. استعراض جذاب يشغل عن المأدبة الشهية
ستكون الوجهة الأولى جزيرةَ بورنيو الرطبة التي تتشاركها ثلاث دول من جنوب شرق آسيا، وهي إندونيسيا وماليزيا ومملكة بروناي، ويعتقد أن هذه الجزيرة المطيرة تحوي أكثر من مليون نوع من أشكال الحياة، لم يُكتشَف منها بعد إلا القليل.
تعتبر الحشراتُ الأكثرَ عددا في هذه الجزيرة المورِقة الرطبة، فهي تعيش في كل جزء من الغابة، ويشكل كثير منها مصدر إزعاج لبعض سكان الجزيرة، بينما تكون الحشرات مصدر غذاء شهي وغني للبعض الآخر.
فعلى أحد جذوع الأشجار الباسقة تتعامل سحلية التنّينة الطائرة باحترافية في اصطياد أسراب النمل التي تتسلق جذوع الأشجار، ولا تكاد تفلت نملة من بين شفاه (منقار) هذه التنينة، فالتقاط الحشرة والتهامها يقع في زمن قياسي في القِصر.
وليس يشغلها عن مأدبتها الشهية شاغلٌ إلا أن يكون ذكَرا يستعرض أمامها أناقته وقوته من أجل جذبها للتزاوج معه، فهو ينشر غَبَبَه (قطعة من الجلد زاهية الألوان ينشرها من تحت ذقنه)، ويستخدم هذه الحيلة في إظهار قوته لتحديد منطقته في مواجهة الذكور الأخرى، وللفت أنظار الإناث وجذبها نحوه.
رقصة المخلب.. أنغام على قعقعة أفكاك السرطان
على شواطئ جزيرة بورنيو تنشط ظاهرة المد والجزر، وتبقى بعض المناطق مغمورة بمياه البحر عدة ساعات كل يوم، وهذه ظروف لا يقوى معظم النباتات على تحملها، باستثناء شجر “المانغرو”. في هذه الظروف القاسية تهرب معظم الحيوانات باتجاه أعالي الأشجار حتى يحدث الجزر، لتعود إلى مساكنها على الأرض وتلتقط طعامها بنهم.
وتخرج السرطانات الكمانيّة من جحورها بهدوء وخجل، وتبدأ فورا بممارسة طقوسها الخاصة، وأداء رقصة المخلب الإيقاعية الجميلة على أنغام قعقعة أفكاكها العظيمة. قد يكون الهدف الأول لهذه الرقصة هو إظهار القوة وتحديد مناطق نفوذ الذكور، ولكنها من جانب آخر واحدة من طقوس التودد للشريكة المحتملة.
سلاحف مدغشقر.. قفز الأرانب الباحثة عن شريك الزواج
على الساحل الشرقي للقارة الأفريقية تقع جزيرة مدغشقر المنفصلة عن البر الرئيسي للقارة، وهي أكبر موطن للكائنات الحية المستوطِنة على وجه الأرض، إذ تعيش فيها كائنات لا توجد في أي مكان آخر على سطح الكوكب.
فثمة أنواع من السلاحف تبدي نشاطا لافتا بعد موسم الأمطار، بحيث لا تبدو ذلك الكائن البطيء البليد، بل على العكس، تراها تجري في كل مكان مثل أرنب برّي، تبحث عن طعامها من جهة، ومن جهة أخرى تبحث عن شريك تشاطره حياتها في موسم التزاوج القصير هذا، أما إذا لم يحالفها الحظ، فعليها الانتظار حتى موسم الزواج التالي.
زئير اللبؤة.. حماية للعرين ودعوة إلى التزاوج
نبقى في شرق القارة الأفريقية، ونتوجه في هذه المرة إلى براري كينبا، حيث تختلط أصوات الحيوانات بين العواء والصراخ والزئير، بين أصوات متناغمة توحي بالتودد واللطف إلى عشوائية نشاز تهدد بالرعب والخوف.
ويمثل الزئير في أحد صوره أن الأسود تريد التأكيد على حدودها ومناطق نفوذها، وهو تحذير يمكن سماعه على بُعد 8 كيلومترات، كما يمكن لعائلات الأسود أن تعرف العدد الدقيق لجيرانها من خلال الزئير، وهذا يُجنِّب العائلات مخاطر الاشتباك الجسدي المباشر مع بعضها، كما أن اللبؤات تزأر لجذب انتباه الذكور، عندما تكون مستعدة للتزاوج.
أعشاش اللقلق.. وسيلة التعبير عن المودة بين الزوجين
في نفس سهول السافانا يُمضي اللَّقْلقُ الأبيض صيفه الجنوبي، وبعد إجازة طويلة يتجه مرة أخرى شمالا عبر الصحراء الكبرى إلى أوروبا، فينتشر في الأجواء أكثر من نصف مليون طائر، تحلق آلاف الكيلومترات في رحلة تستغرق أكثر من 50 يوما. واللافت للنظر أن طيور اللقلق تعود -في الغالب- إلى أعشاشها التي بنتها سابقا.
عند العودة تبدأ طيور اللقلق بترميم بيوتها، مع شريكها الدائم مدى الحياة، وتبني أعشاشا كبيرة يصل قُطر الواحد منها إلى مترين، ويتجاوز وزنه نصف طنّ، وكل هذا الجهد الكبير هو تعبيرٌ عن المودة بين الزوجين، ويظهر امتنان أحد الشريكين للآخر على جهوده في البناء، بمعزوفة شجيّة يعزفها بقعقعة منقاره الضخم. وبعد التزاوج ينتظر الزوجان شهرا لتفقس البيوض عن الجيل الثاني.
عنف وملاطفة.. طقوس الراكون اللاحم في تبادل الحب
على الجانب الآخر من الكوكب، حيث الغابات المطيرة الكوستاريكية التي تعد موطنا مثاليا لملايين الأزواج الأخرى من الكائنات الحية، ومن بينها “الراكون اللاحم” الذي يمكنه أن يعيش في جميع التضاريس والأجواء، فهو دائب العمل ليلا ونهارا في البحث عن الطعام، ويفضل ضفاف الأنهار الضحلة حيث يجد أشهى أطعمته، سرطان البحر.
لدى ذكر الراكون مهارة قوية في الصيد وملاعبة الفريسة حتى لا تؤذيه بأفكاكها الحادة القوية، مما يثير إناث الراكون التي ترى أنها وجدت ضالتها في ذكر قوي وذكي يصلح أن يكون زوجا، ثم تدور معركةٌ طاحنة بين الذكر والأنثى قبل عملية التزاوج، لا تدري هل هي طقوس تودد وانجذاب، أم هي مواجهة مميتة بين عدوّين لدودين. وبعد إتمام عملية التزاوج يختفي الذكر بسرعة، تماما مثلما كان اللقاء.
طيور أستراليا.. رقصات ومهارات معمارية مذهلة
من الكائنات المثيرة للاهتمام طيور الجَنَّة في الغابات الاستوائية بشمال شرق أستراليا، فقد طوّرت ذكورها رقصة معقَّدة خلّابة لإغواء الإناث، ومن بين أجمل الأمثلة على هذه الرقصة المدهشة هو ما تأتي به طيور “فكتوريا رايفل”، إنها تقوم بتشكيل أجنحتها بشكل مستدير، بينما تميل برؤوسها وجذوعها بأناقة وخفّة، تماما مثلما يفعل راقصو الباليه أو الراقصون على الجليد.
نبقى في أستراليا، ولكننا سننتقل إلى الغابات الجنوبية، حيث نجد طيورا لا تقلّ إدهاشا في توددها لشركائها عن طيور الجنة في الشمال، فالطيور الساتانية التعريشية تأتي إلى الدنيا بمهارات هندسية معمارية فائقة الإدهاش، فهي لا تبني العشّ فحسب، بل تبنى شرفة التزاوج الخاصة “التعريشة”، ويمكن اعتبارها بمثابة “كوشة” الزواج عند بني الإنسان في بعض المناطق.
ويتفنن هذا الطائر في استخدام العيدان والأزهار والأوراق والبذور، وحتى النفايات البشرية، من أجل تزيين تعريشته، ويبنيها بتماثل عجيب، بحيث تبدو مثل قوس النصر في المدن الرومانية القديمة، ولا يألو جهدا حتى آخر لحظة، قبل أن تقع إحدى الإناث في شِراكه الجميلة. وإذا ما حدث أن تهدّمت هذه التعريشة بفعل الطبيعة أو بعض الجيران المتطفّلين، فإنه لا ييأس أو يستسلم، بل يعاود البناء حتى يتمّ له ما أراد.
مفترسات الشمال.. عادات مختلفة لعشاق الغابات الفنلندية
ننتقل إلى نهاية الكوكب المقابِلة، إلى أقصى شمال أوروبا، حيث الغابات في فنلندا تزخر بالحياة من جديد عندما تتسلّل إليها خيوط الشمس الخجولة بعد شتاء بارد وطويل. إذ تتدفق هرمونات حب البقاء في عروق أنثى الوشق الأوراسي، وتدفعها للبحث عن ذكر يشبع جوعها للتزاوج وإنجاب القطط البرية التي تعتبر سيّدة جليد الشمال.
وإلى الجنوب تسعى الذئاب الرمادية إلى الحفاظ على نوعها الذي بدأ يتناقص بشكل ملحوظ بفعل أنشطة الصيد الجائر التي يمارسها بنو البشر. وبينما يكون لقاء أزواج الوشق قويا وعنيفا وسريعا، فإن الذئاب تحرص على لقاء أكثر حميمية، بعيدا عن أعين الفضوليين والمتطفلين. وبعد اللقاء الحميم سوف تبتعد أنثى الذئب بعيدا عن القطيع حتى تلد جراءها، وتكبر قليلا.
وهكذا، فسوف تُؤتي أشكال التودد المختلفة ثمارها عما قريب، وستولد على امتداد الكوكب أجيال جديدة من الكائنات الحية، لتحافظ على استمرار وتنوّع هذه السلالات التي خلقها الله، لتبقى ما بقيت حياةٌ على هذه الأرض، ولتمضي سُنّة الخالق سبحانه بإعمار هذا الكوكب حتى يأتي وعد الله.
وسوف يصبح عُشّاق اليوم آباءَ وأمهات الغد، وسيتحملون مسؤوليات جديدة ومختلفة حيال صغارهم، من الرعاية والإطعام والحماية، بدلا من الغزل والإغواء وبناء البيوت والتعريشات.