“حديث الجبل الأخضر”.. قصة الوجه الآخر الذي غُيّب طويلا في ليبيا

ثمة أفراح وإطلاق نار في أحد شوارع درنة الليبية، فالمدينة في استقبال أحد أبنائها الذين عادوا إلى ليبيا بعد 30 عاما في المنفى القسري، مثله مثل مئات الليبيين الذي تعرضوا للنفي جراء مواقفهم المعارِضة لسياسات النظام الليبي السابق في عهد معمر القذافي.

لقد فتحت الثورة الليبية في 17 فبراير/شباط 2011 أبواب البلاد أمام المنفيين من أبنائها، وكشفت وجه البلاد الحقيقي للصحافة العالمية بعد أن كان لعقود خلت مختفيا عن المشهد العالمي وراء صورة “الزعيم الأوحد”.

هذا الفيلم الذي أنتجته الجزيرة الوثائقية، وعرضته على شاشتها تحت عنوان “حديث الجبل الأخضر.. قصة الوجه الآخر لليبيا”، مَدين لشهداء ثورة 17 فبراير، فلولا تضحياتهم لما استطعنا أن نحكي قصة منطقة من مناطق ليبيا المنسية، قصة الجبل الأخضر شرقي ليبيا، ولبقيت هذه المنطقة وغيرها من مناطق ليبيا، مغيَّبة في ظلمات الفقر والتهميش والتجهيل.

“هوا فطيح”.. كهف استوطنته أقدم الحضارات الإنسانية

يقع كهف “هوا فطيح” على بعد 8 كيلومترات شرق مدينة سوسة، وقد اكتُشِف عام 1954 من قبل مجموعة من الباحثين من جامعة كامبريدج برئاسة البروفيسور “ماك بيرني”، وقد اكتُشف فيه فكّ سفليٌّ لإنسان من سلالة “نيانتردال” التي يرى العلماء أنها عاشت في هذه البقعة قبل 40 ألف عام، وهو يمثل بداية الحضارة الإنسانية في مجمل أفريقيا.

منحوتات قديمة موجودة في الجبل الأخضر بليبيا تركتها حضارات تعاقبت على هذا الموقع

وهذا معبد ليبي صرف في منطقة الجبل الأخضر، ذكرته المصادر الإغريقية القديمة باسم “لاسامسيس”، وهو معبد للقبائل الليبية التي سكنت قرب مدينة قورينا (شحات). فبين الجبل والبحر عاشت أقدم السلالات البشرية، وعلى سواحل هذا البحر الهادئ الذي كانت تعبره السفن بأمان وسهولة، تشكلت معظم حضارات العالم القديم.

وفي سنة 631 ق.م. وصلت إلى قورينا أول مجموعة من المهاجرين الإغريق، كانوا حوالي 90 شخصا على قاربين، فاستقبلهم السكان المحليون من قبائل الأسبوستاي، وتعايشوا وتزاوجوا. وظهر منهم الملك “باتوس” الذي بنى المدن الخمس المعروفة باسم “بنتابوليس”، وكانت قورينا هي عاصمة هذا الإقليم.

في كهف “هوا فطيح” اكتشف فكّ سفليٌّ لإنسان من سلالة “نيانتردال” التي يعتقد أنها عاشت قبل 40 ألف عام

والمسافرون اليوم على الطريق الرابط بين شحّات وسوسة، معتادون على رؤية كمّ هائل من الآثار الإغريقية والرومانية والبيزنطية المنتشرة في كل مكان، وتصنف مدينةُ قورينا الأثرية على مشارف شحات ثالثَ أجمل المدن الأثرية العربية، وقد افتدى أحدُ سكانها الأثرياء الفيلسوفَ أفلاطون عندما وقع في الأسر على أيدي القراصنة. وهي تحوي أجمل معابد أبولو وأحد أكبر تماثيل زيوس في العالم.

حركة السنوسيين.. معقل الجهاد الفكري والحربي في ليبيا

دخل الإسلام إلى ليبيا عام 22 هـ الموافق 642 م، وعبرها المسلمون إلى الأندلس دون حروب تذكر، وقد استوقفت مدينة درنة الفاتحين بسبب كثرة مياهها وهوائها العليل، وما زالت إلى اليوم محافِظة وشديدة الارتباط بتراثها الإسلامي، ففيها قبور 3 من الصحابة الأجِلّاء، وهم زهير بن قيس البلوي أمير الحملة، وعبد الله بن بَرّ، وأبو منصور الفارسي، وكان معهم حوالي 70 من التابعين، استشهدوا في معركة غير متكافئة مع جيش من الروم البيزنطيين.

قبور ثلاثة من الصحابة المجاهدين الذين ساروا نحو الأندلس فاتحين

أما مدينة البيضاء فهي عاصمة الجبل الأخضر، وهي مدينة آخر الملوك الليبيين قبل انقلاب القذافي عام 1969، وكانت تستعد لتكون عاصمة ليبيا كلها، وهي التي جاءها الشيخ علي بن محمد السنوسي في القرن الـ18، وأقام بها أول زاوية سنوسية في أفريقيا كلها، ولكنها تعرضت لإهمال شديد في عهد القذافي.

هاجرت العائلة السنوسية من مدينة مستغانم في الجزائر، واستقرت في الجبل الأخضر الليبي، ثم انتشرت في سائر الصحراء الليبية، وأقامت عدة زوايا في عدد من الواحات، وقد نشرت تعاليم الإسلام الصحيح المبني على الكتاب والسنة، وحاربت الخرافات والأساطير التي تسللت إلى المسلمين جراء اختلاطهم بالوثنيين الأفارقة.

محمد إدريس السنوسي آخر ملوك ليبيا قبل انقلاب 1969 الذي قاده القذافي

وكان للحركة دور بارز في مقارعة الاحتلال الإيطالي، وذلك بعد أن سلّمت تركيا العثمانية ليبيا إلى الطليان بموجب معاهدة لوزان عام 1912، وفتحت الحركة زواياها لتربية أبناء الأمة الليبية على الجهاد في سبيل استقلال البلاد، وقدّمت خيرة أبنائها شهداء على الثرى الليبي، وفي مقدمتهم شيخ الشهداء عمر المختار.

الجبل الأخضر.. بذرة التضحيات وحصاد الاستقلال

تشهد دروب الجبل الأخضر وأوديته وجسوره على المعارك التي خاضها المجاهدون الليبيون ضد المحتل الإيطالي، وعلى رأسهم شيخ المجاهدين عمر المختار، ويعد وادي الكوف من أبرز المعالم التي وقعت فيها المواجهات بين الليبيين والطليان.

كهوف الجبل الأخضر التي كان يأوي إليها مجاهدو ليبيا في مقاومتهم للمستعمر الإيطالي

وقد انضمت إلى عمر المختار تركيبات اجتماعية من عموم أنحاء ليبيا، فحاربت تحت لوائه المحتلَّ بين 1922-1931، وفي كهوف هذه الأودية كان يجتمع المجاهدون ويخزنون أسلحتهم ومؤونتهم، وهي الأودية والجبال التي شاهدها شيخ الشهداء عمر المختار لآخر مرة، قبل اعتقاله ونقله مكبلا عبر سوسة إلى بنغازي، ليحكم عليه بالإعدام هناك.

وفي منطقة الجبل الأخضر نزلت القوات الألمانية في الحرب العالمية الثانية، وخلال تلك الحرب أيضا تبلورت القضية الليبية كبلد ينشد الاستقلال، بعدما قدم التضحيات الجسيمة في سبيل ذلك، وتحقق له ما أراد في 1951، حين نودي بإدريس السنوسي ملكا على البلاد.

حياة بئيسة كان يعيشها أهالي الجبل الأخضر في عهد القذافي

وعلى مدى عقدين من الزمان تمتع الليبيون بحكم ملكي دستوري نيابي، وتنسموا بعض الحريات، إلى أن انقلب الضابط الشاب معمر القذافي على الملكية في سبتمبر/أيلول 1969، وبعدها أدرك بعض العقلاء والمحافظين من أتباع السنوسية أن البلاد مقبلة على منعطف خطير.

وقد نال الجبل الأخضر وشرقي البلاد من التهميش الكثير، والسبب أن القذافي وأتباعه كان يعتبرون المنطقة معقل السنوسية “الرجعية” في مقابل الغرب “الثوري التقدمي”.

عهد القذافي.. فوضى اقتصادية وتوزيع جائر للثروة

بعد ثورة النفط ساد البلاد نوع من التخبط الاقتصادي، فأكثرية الشعب -وخصوصا في الشرق- لم ينعموا بهذه الثروة التي تفجرت بين أيديهم، بل كان الأجانب وقلة من أتباع النظام الحاكم هم من يتحكمون في ثروات البلاد وينعمون بخيراتها.

كان هنالك إقصاء وتهميش ممنهج لبنغازي والمنطقة الشرقية عموما، باستثناء فترة قليلة في مطلع السبعينيات نالت فيها المنطقة بعض ثمار التنمية، لكن فترة القذافي عموما اصطبغت بتشوُّهٍ تنموي متعمد، فهنالك مشاريع ضخمة في بعض المناطق، وفقر مدقع وبيوت من الصفيح في مناطق أخرى.

الجبل الأخضر يتميز بمناظر طبيعية خلابة وطقس ربيعي لطيف

ويتحدث المهندس جمعة عبد السيد عن هذه الفوضى الاقتصادية قائلا: يعد ميناء رأس الهلال إستراتيجيا، فهو يصلح لأن يكون منطقة جذب سياحي واقتصادي في آن معا، فقد كان يقدم خدمات تجارية مهمة في فترة الستينيات حتى انقلاب القذافي.

انقلبت أحوال الميناء في حقبة القذافي وتجاهلته الطفرة الاقتصادية، حتى استولى عليه أحد أبنائه ليستخدمه استخداما شخصيا. يقول المهندس جمعة: في عهد القذافي الفوضوي، كنا نسمع عن أشخاص متنفذين يستولون على البيوت والمزارع بالقوة، أما أن يستولي أحدهم على ميناء إستراتيجي كامل فهذه سابقة لم نسمع بها إلا في ذلك العهد المشؤوم، فقد استولى سيف الإسلام معمر القذافي على هذا الميناء بالكامل، وجعله محطة ترفيه خاصة به وبمن شابهه من أصدقائه الأجانب.

ثورة التسعينيات.. نيران ملتهبة تحرق الإنسان والبيئة

في منتصف التسعينيات نشأت حركة مقاومة من بعض الشباب في منطقة شرق الجبل الأخضر، من مدينة درنة والمناطق المجاورة، ولجأ الشباب إلى الغابات في الجبال خوفا من بطش النظام، ولتوفر الماء ومصادر الغذاء فيها، فقد أحرق القذافي هذه الغابات كلها عن طريق الطائرات وبراميل الوقود.

آثار كثيرة في منطقة الجبل الأخضر الليبية وضعته في المركز الثالث عربيا في الآثار

يقول شكري الحاسي، وهو إمام مسجد في مدينة درنة: ليبيا بلد رائع وغني بخيراته وموارده، فهنالك مناطق سياحية، وآثار موغلة في القدم، وطبيعة خلابة وأناس طيبون، ولكن القذافي كان أقبح ما في ليبيا، لقد حجب جمالها عن العالم لعدة عقود.

ومنطقة الجبل بيئة نظيفة على امتداد 350 كليومترا، وأجواءٌ بِكرٌ لم تتلوث بالمصانع ولا غازات الصناعة، وهي رئة طبيعية تتنفس ثاني أوكسيد الكربون وتنتج الأوكسجين النظيف، ومياه نقية شفافة ورقراقة، عذبةٌ تتدفق من أعالي الجبال لتختلط بمياه البحر الصافية. وهناك تنوع بيئي حيوي يزيد على 41 نوعا من النباتات البرية المفيدة، وشواطئ جميلة ينقصها الترويج الإعلامي الجاذب.

ظروف معيشية صعبة تركت أثرها على الأسواق في عصر القذافي

ولكنك إذا تجولت في أسواق الجبل الأخضر، ستدرك مدى التدهور الاقتصادي الذي أصاب البلاد، فالتجارة بدائية، والمنتوجات الزراعية لا تجد رعاية منظمة ولا إشرافا صحيا وزراعيا مدروسا. ولو توفرت للجبل الأخضر خطط اقتصادية وزراعية مستندة إلى بحوث علمية رصينة ودراسات جدوى حقيقية، لأصبحت هذه المنطقة الخصبة الغنية بالمياه والخيرات مصدرا للمنتوجات الزراعية على مستوى دولي مرموق.

وأد الحركة الأدبية.. سوسة الاحتكار في عصر الزعيم الأوحد

لم يجرؤ أهل الجبل الأخضر في أيام نظام القذافي على الاستثمار بأراضيهم وأموالهم، فقد كان المتنفذون يستولون على أموالهم وتجارتهم دون وجه حق، أو يأخذونها بالدَّيْن ولا يسددون، وكانت امتيازات استثمار الأراضي تذهب لشركات معينة مقربة من النظام.

وفي عهده أيضا طمست الحركة الأدبية، وهُمِّش الأدباء والشعراء والمفكرون، إلا من كان يهتف منهم باسم “الزعيم الأوحد والقائد الملهم”، فقد صودرت الكلمات حتى بين الشاعر ونفسه، وكأن الرقيب الأمني يحصي على الشاعر كل شيء، حتى أنفاسه وأحاسيسه الداخلية.

في عهد القذافي كان الإعلام موجها لتمجيد الزعيم وإنجازات الزعيم وكلمات الزعيم

وكان الإعلام موجها لتمجيد الزعيم وإنجازات الزعيم وكلمات الزعيم، ولا توجد حرية للكلمة كما كان النظام يدَّعي، وكان مصير كل من تحدثه نفسه أن يجهر بهموم الوطن أو المواطن أن يلقى رصاصة بين عينيه، أو أن يودع في غياهب السجون.

ثورة فبراير.. أنسام الحرية تعانق الجبل الأخضر

عندما انطلقت شرارة الثورة الليبية كانت مدن وبلدات الجبل الأخضر من أوائل المناطق التي ثارت على حكم العقيد، وبدأ تحرير البلدات من فلول النظام السابق وكتائبه الواحدة تلو الأخرى، وانخرط سكان الجبل الأخضر بكافة أعمارهم ومهنهم في انتفاضة التحرر من حكم الرجل الواحد.

نساء يمحين الأمية فيما وراء عهد القذافي

وبدأت تتشكل منذ ذلك الوقت نواة مجتمع مدني غاب عن المشهد لأكثر من 42 عاما، وشاركت النساء لأول مرة -جنبا إلى جنب مع أشقائهن من الرجال- في بناء الدولة الحديثة المبنية على أسس العدل والحرية واحترام الفرد. وكتبَ الصحفيون لأول مرة -رجالا ونساء- عن رفع شأن الشعب لا العقيد، وعن تمجيد الثورة لا الانقلاب، وعن مكانة العلم والتعلم، وليس عن التجهيل والتهميش.

بمجرد انطلاق الثورة الليبية انخرط سكان الجبل الأخضر بكافة أعمارهم في انتفاضة التحرر من حكم الرجل الواحد

وعاد الشباب إلى حفظ كتاب الله دون خوف من مساءلة رجال الأمن، وتوجهت النساء إلى مراكز محو الأمية حتى ولو بلغن من الكبر عتيا، وانطلقت حناجر الأطفال تغني للثوّار والشهداء، ولجميع مدن ليبيا ومناطقها:

ارسم طلقة، ارسم ثوّار.. ارسم أحفاد المختار

ارسم درنة، ارسم طبرق .. ارسم اسم البيضا يبرق

ارسم مصراتة الزنتان .. ارسم حُرّ رفض ينهان