“صمت المتوسط”.. عالم من الموسيقى وطبول التزاوج في أعماق البحر

ماذا سيحدث لو توقف العالم فجأة؟ وماذا لو توقف تأثير الأنشطة البشرية على الطبيعة؟ لعلها ستكون كارثة، أو ربما فرصة لنطرح على أنفسنا بعض الأسئلة. لم يكن أحد يتصور أن يواجه مجتمعنا سؤالا وجوديا بسبب شكل بدائي من أشكال الحياة؛ إنه الفيروس.

لكن هذا ما حدث خلال الإغلاق العام، وحظر الأنشطة الترفيهية البحرية، كركوب القوارب والغوص والرياضة والسياحة في المياه الإقليمية والداخلية، بسبب انتشار فيروس “كورونا” عام 2020.

ويسلط فيلم “صمت المتوسط” -الذي بثته الجزيرة الوثائقية- الضوء على حالة الصمت غير المسبوقة منذ بداية الحقبة الصناعية التي سادت البحر المتوسط، صمت سُمع فيه صوت الطبيعة.

ومن أجل القيام برحلة صوتية في أرجاء المتوسط، كان من المهم السفر بصمت، لذلك ركب فريق الفيلم مركبا شراعيا. ففي الوقت الحاضر، يعد الصمت البشري أمرا نادرا، لهذا السبب كان الإغلاق الناتج عن انتشار وباء “كورونا” فرصة العمر لوضع آلات تسجيل تحت سطح البحر.

لغة الصوت.. وسيلة التواصل بين أطراف المحيط

أخذ “هيرفي غلوتين” المحاضر في الذكاء الصناعي والصوتيات الحيوية بجامعة “تولون”، طائرات عائمة بدون طيار، وزودها بسماعات مائية شديدة الحساسية، ثم ربطها ببرنامج ذكاء صناعي قادر على عزل أصوات الحيتان المهددة بالانقراض.

يقول “غلوتين”: تُعد المياه وسطا طبيعيا لتطبيق علم الصوتيات؛ فالحيوانات التي تعيش في هذه البيئة تكون ذات رؤية محدودة، لكنها تمتلك قدرات مختلفة لمراقبة بيئتها من خلال الأصوات، فهي ترى باستخدام الصوت، لذا فإن عالمها عبارة عن خريطة أو منظر طبيعي صوتي مكون من أصداء وانعكاسات للإشارات التي ترسلها إلى هذا العالم.

كما تستمع كذلك إلى الإشارات الصادرة عن المخلوقات أو الأشياء الأخرى التي تدمجها في مشهدها الصوتي، فنحن نعلم أنه يمكن للحيوانات التواصل باستخدام الصوتيات من أحد طرفي المحيط إلى الآخر.

ويكشف “غلوتين” عن بعض الأصوات التي سجلها أثناء الإغلاق؛ حيث يمكن سماع سلسلة من النقرات الخفيفة، وعند لحظة ما نسمع صوتا كبيرا، فهذا ما تصدره حيتان العنبر لرؤية بيئتها، وهي إشارات معقدة إلى حد ما، ويمكننا معرفة حجم الحيوان من هذه النقرات، ففي داخل رأس حوت العنبر، يتردد صدى الإشارات وصدى الأصوات لفترة أطول أو أقل حسب حجم الرأس، فالرؤوس الأكبر حجما تخلق صدى أكبر.

وقد استخدم العلماء أجهزة لرصد أصوات الكائنات البحرية، وقد أعطت فكرة عن الاتجاه الذي تُرسَل النقرة إليه، وبالتالي فهي توضح الاتجاه الذي ينظر إليه الحيوان، حيث يرصد العلماء النقرات والأصداء في عالم حيتان العنبر على عمق 700 متر تقريبا في المياه، حيث لا يوجد ضوء، وإنما أصداء ونقرات.

نداء التزاوج.. طبول تدق في أعماق البحار

تحت رعاية معهد “كوروس” للأبحاث، تتعاون روسيا مع بعض فرق السواحل المحمية، لدمج الصوت بوصفه أداة لفهم النظم البيئية البحرية الساحلية وإدارتها.

خريطة لحوض البحر الأبيض المتوسط

فهذا “باتريك بونوم” المسؤول عن مهمة التنوع البيولوجي في صيد الأسماك في حديقة “غالانك” الوطنية بجنوب فرنسا، وقد أراد الاحتفاظ بسجل للصمت البشري أثناء الإغلاق، فشرع مع “لوسيا دي لوريو” الباحثة في علم صوتيات الصدى، في جمع أجهزة الاستشعار الصوتية التي تسجل أصوات الطبيعة في حالتها النقية تقريبا منذ أبريل/نيسان 2020، وقد حظيا بفرصة علمية غير مسبوقة في فترة الإغلاق التي صاحبت كورونا، للحصول على صوت طبيعي للبحر دون وجود الناس.

فعلى سبيل المثال، فإن سمكة الكرد تتفاعل مع مرور القوارب بجوارها، فهناك دراسات تبين أنها تميل لزيادة الأصوات التي تصدرها عند مرور القوارب، وتميل للاختباء أكثر أو للهروب.

وباستخدام أجهزة الاستشعار الصوتية، استطاعت “لوسيا” تسجيل أصوات نداءات التزاوج عند أسماك الكرد، وهي أشبه بصوت الطبول. وعند مرور قارب عبر منطقة يوجد بها عدد من أسماك الكرد التي تصدر نداءات التزاوج، فإن الضوضاء تقلل من فرصة سماع الأسماك لبعضها، فتقل مساحة التواصل بينها، وقد تنتج ردود فعل سلوكية، وإن كنا لا نعرف تأثير ذلك على الحيوانات على المدى الطويل.

وتقول “ميشيل لودوك” -التي تعمل ضمن برنامج “ستيركامبميد” الذي يقيس تأثير تغير المناخ والبشر على البيئة- إنهم يدرسون جميع النظم البيئية، وخصوصا عشبة بوسيدون المحيطية أو الأعشاب الشريطية، وهي ضرورية لأنها تمثل رئتي البحر، إذ تتيح له الحصول على الأوكسجين، كما أنها تلعب دورا مهما، لكونها حاضنة للأسماك التي تلجأ إلى العشب لتنمو. وتضيف أنه لمعرفة ما إذا كانت حقول الأعشاب البحرية سليمة، فإننا نستمع إليها كما نستمع إلى النظام البيئي الموجود هناك بأكمله.

وتتعاون “ميشيل لودوك” مع فريق معهد “كوروس” للأبحاث الذي وضع آلة تسجيل في المنطقة منذ خمس سنوات، وهو يسجل باستمرار ليرى كيف يتصرف المحيط الحيوي.

ضوضاء السواحل.. سلوكيات تؤثر على عوالم الحيوان

تقول “جولي لوسان” -وهي المديرة الفنية لمعهد الأبحاث “كورس” في مدينة غرونوبل الفرنسية- إن تأثير الصوت يختلف اختلافا كبيرا اعتمادا على قوة الصوت، فبالنسبة للأسماك أو اللافقاريات، يمكن أن يتراوح التأثير من الاختفاء إلى الاضطراب السلوكي. وحين يتعلق الأمر بضوضاء حركة المرور البحرية، يمكننا أن نرى تأثيرات قد تصل إلى فقدان مؤقت للسمع.

ولكن بشكل أساسي، يكون التأثير على شكل اضطرابات سلوكية وتغيرات فسيولوجية، وإفراز هرمونات التوتر غير الطبيعية. لذلك، فإن السلوك يتأثر. فعلى سبيل المثال، تجد الحيوانات صعوبة أكبر في تناول الطعام أو في العثور على الطعام والصيد أو صعوبة أكبر في التكاثر.

وقد تكون التغييرات السلوكية صغيرة للغاية، ولكن يمكن أن تكون لها تأثيرات كبيرة طويلة المدى على الحيوانات. فعلى سبيل المثال إن منعنا الذكر من مراقبة البيوض، فإننا لا نقتل الذكر، ولكن من المحتمل أن نؤثر على الجيل القادم بأكمله.

الحياة البرية في البحر الأبيض المتوسط

وفي الوقت الذي نتحرك نحن البشر فيه على طول الساحل، مستمتعين بسرعة التنقل، وبينما نشاهد المناظر الطبيعية التي نمر بها، تنتشر ضوضاء محركاتنا في كل مكان تحت الماء وفي الهواء، ويمكن أن يكون هذا الضجيج مرهقا ومزعجا ومهيّجا لمخلوقات لا نعلم بها، ويمكن أن تهدد عواقب هذه الضوضاء الملاذات الطبيعية التي تعد مواقع تراث عالمي.

العقاب النساري.. طائر حساس تهدده ضوضاء السياحة

استطاع “جان- ماري دومينيتشي” -الذي أدار محمية “سكاندولا” مدة 40 عاما- أن يطوّر علاقة وطيدة بالطيور والحيوانات البرية، فمثلا في سبعينيات القرن الماضي، لم يكن هناك سوى زوجين فقط من العقاب النساري، وهي طيور حساسة جدا للاضطرابات، لكن إنشاء منطقة هادئة زاد هذا العدد إلى 38 زوجا خلال سنوات إدارته.

وقد أبرم “دومينيتشي” اتفاقية أخلاقية مع منظمي الرحلات في المنطقة، مؤكدا أنه إن استثمر أصحاب القوارب في إدارة المحمية -التي تشكل أساس أعمالهم- فإن طيور العقاب النساري وغيرها من الطيور والأسماك ستختفي.

على مدى السنوات العشر الماضية، انخفض نجاح تكاثر العقاب النساري، بسبب الضوضاء الساحلية المتزايدة الناتجة عما يسمى بالأنشطة السياحية التي تزور المواقع الطبيعية.

على كوكب اجتاحه البشر، تحافظ المحميات الطبيعية على آخر ما بقي من البراري. نحن جميعا بحاجة للطبيعة، لكن عدد البشر في ازدياد مستمر، وهذه السياحة الجماعية تساهم في انحدار التنوع البيولوجي.

واليوم ترى لجنة خبراء أوروبية حول المناطق الطبيعية أن عدد السياح الذين يزورون “سكاندولا” لا يتوافق مع وضعها بوصفها منطقة محمية، وهو ما يُحتّم علينا التقليل من الضوضاء والأنشطة، فالعلماء متحمسون لجعل لغة الطبيعة مفهومة لنا، فالبحر الأبيض المتوسط لا يصرخ من الألم، بل يتوقف عن الغناء لقلة المغنين.

وأما الهدف النهائي لفنيي الصوت، فهو فهم أغاني الأحياء البحرية وصيحاتها وصمتها، وما نفعله بالمعلومات التي يقدمونها لنا يبقى منوطا بالضمير الفردي ورؤية كل فرد للمجتمع.

حيتان البحر الأبيض.. فوضى تفسد حياة ملوك السطح

من خلال مشاركته مع جمعية تهدف لحماية الحيتان في البحر الأبيض المتوسط، طوّر “باسكال مايول” معرفة دقيقة بالتفاعلات بين الإنسان والحيتان، ويقول إن حوت العنبر يُصدر نقرات متتالية إلى أن يجد فريسته ويقوم بتحليلها، بعدها يعاود الصعود ويبدأ بإصدار الصوت من جديد لأربعين دقيقة.

ويتساءل “مايول” عن تأثير الصمت على الأحياء البحرية، فيقول إن أقدم الحيتان في البحر الأبيض المتوسط ينبغي أن تكون في الثمانين من عمرها الآن، أي أنها وُلدت في عالم مختلف تماما عن العالم الذي نعرفه اليوم، ولا شك أنه كانت فيه ضوضاء بالتأكيد، لكنها على أي حال لا تُقارن بمستوى الضوضاء الموجودة اليوم.

يغوص العلماء عميقا لفهم الحياة في المتوسط

وقبل 40 مليون سنة كانت الحيتان تتنفس على السطح، لأنها كانت وحدها على سطح الماء، ولكن منذ ذلك الحين، وفي الأعوام المئة الماضية، أصبحت مضطرة لمشاركة السطح مع القوارب التي باتت أكبر حجما وأكثر إزعاجا وقوة.

وثمة من يرى أنه في هذا البحر الكبير لن يكون إزعاج هذه الحيوانات بالأمر الجلل، لأن بمقدورها أن تذهب إلى أي مكان آخر، ولن تشعر بالضيق، لكن الحجم الهائل للبحر لا يعني أن هناك عددا كبيرا من المناطق الصالحة للتكاثر أو للتغذية أو الراحة، لذا إن كانت الحيتان في منطقة بعينها، فثمة سبب لذلك.

وحين نفكر في الحيتان، تتبادر إلى أذهاننا صورة سطح الماء وحيوان يتنفس في بيئتنا الهوائية، لكن الواقع أن عالمها عالم عمودي، فحين تنشط في مجموعة فإنها تتموضع في شكل عمودي لتتواصل وتستمع لبعضها. وهذه المعلومات معقدة وتتطلب الكثير من الانتباه، لذا حين تصعد إلى السطح قد تفقد الانتباه، أي القدرة الذهنية للانتباه للقوارب التي تبحر بسرعة 15 عقدة.

همس الحيوانات.. صرخة الإنقاذ من ضجيج السطح القاتل

منذ بداية هذا القرن، كانت هناك زيادة في حركة المرور التي أخذت تتضاعف في البحر الأبيض المتوسط كل خمس سنوات تقريبا، حيث توجد أكبر حركة مرور في العالم. ويبلغ عدد حيتان العنبر في شمال غرب البحر الأبيض المتوسط حوالي 400 حوت لا أكثر، وفي كل عام يتعرض حوالي 10 حيتان للإصابة أو الاصطدام بسبب حركة الشحن.

وسيوفر مشروع “جيّس” أدوات علمية حساسة عالية الجودة، لتمكيننا من سماع نقرات هذه الحيوانات الصيّادة من مسافة بعيدة وبدقة كافية، من جميع زوايا المراقبة لحساب تحركاتها وسلوكها، والسرعة التي تصعد بها إلى السطح، ومن ثم تُقدّم تحذيرات من وجود أنشطة محددة في أماكن معينة، تتطلب من القوارب الموجودة في المنطقة أن تنتبه جيدا عند عبورها.

وترتكز طموحات مجتمعنا على أساس هش؛ ألا وهو الطبيعة، والإنسانية تسير فوق الهاوية، فالطبيعة لها احتياجات أساسية، ويفتح هذا الوعي البطيء سبلا مختلفة للعمل، بما فيها الانتقال إلى مصادر طاقة جديدة. وستُبنى قريبا محطة لتوليد الطاقة من الرياح قبالة سواحل جنوب فرنسا، ومرة أخرى تفتح الصوتيات البيئية آفاقا جديدة لفهم كيفية تفاعل البحر مع هذا التحول.

توربينات الرياح.. منطقة تجذب الكائنات الصغيرة من الأعماق

تحسبا لتوربينات الرياح التي تُبنى، وضعت الفرق البحثية عوّامة لمراقبة التنوع البيولوجي، تُعرف باسم عوامة المراقبة الأساسية “بوب” قبالة ساحل مدينة تولون الفرنسية، ومن بين الأدوات المختلفة المثبتة عليها أجهزة استشعار صوتية قدمها فريق “كورس”، ويمكن من خلالها الاستماع إلى الأصوات البيولوجية سواء كانت لنباتات أو حيوانات.

الإنصات بإمعان لأصوات البحر الأبيض المتوسط

وستُبنى ثلاثة توربينات رياح يفصل بين كل اثنين منها كيلومتر واحد، ويبلغ عرض العوامات حوالي 80 مترا وارتفاعها 20 مترا، وسيكون ارتفاع التوربين الواحد 180 مترا. إنها هياكل كبيرة جدا ستوفر موطنا وسطحا صلبا في منطقة لا يوجد فيها سوى الماء في الوقت الحالي.

ويرى الباحثون أن المنطقة مواتية لصغار الكائنات القادمة من أعماق البحر باتجاه الساحل، فستجد قواعد توربينات الرياح هذه في طريقها، وتأتي لسماع صوت التنوع البيولوجي، وصوت القشريات، ومخالب السلطعون والروبيان التي تصفق، أو الأسماك التي تصدر أصواتا، وتنجذب إلى هذه الكتلة التي ستصبح في نهاية المطاف موئلا بحريا جديدا.

تكاثر الكائنات البحرية.. موئل طبيعي بعيد عن أضواء الساحل

مما يثير الاهتمام أن الكائنات البحرية التي نجدها في عوامة المراقبة الأساسية -والتي ستتضاعف بقدر لا نعلمه على توربينات الرياح- ستجذب كائنات من أعماق البحر، تماما كما يفعل الساحل، باستثناء أننا على الأرجح سنسمع أصواتها على نحو أفضل، لأننا في بيئة صامتة إلى حد كبير.

وإن نحن ضاعفنا ما نراه من كائنات بحرية على العوامة، فقد يصبح مكافئا للأعداد التي نراها على الساحل، وهي أعداد كبيرة بلا شك، فهذا الموئل الطبيعي بعيد عن الساحل بأضوائه وضوضائه، وبعيد إلى حد ما عن التلوث الكيميائي، وعن مصادر الصوت البشري.

لقد مررنا جميعا بحالة من الشك بسبب الإغلاق المصاحب لكورونا وحرماننا من إيقاع حياتنا المحموم، فوجدنا أنفسنا وجها لوجه مع أنفسنا، وخلال هذا الوقت -في البحر كما على اليابسة- استمرت الحياة في الظهور، فانصرف الكثيرون منا إليها.

وفي قلب البحر الأبيض المتوسط، وللمرة الأولى منذ الحقبة الصناعية، بدأت العوالق الصغيرة تُغنّي في ظل الصمت، فقد أصبح لدينا جميعا الخيار في التوجهات التي نتخذها، وفي مدى صخب حياتنا، والأمر متروك لنا لمنح سيمفونية البحر مساحتها.


إعلان