مغارة جعيتا.. متحف فني يجذب السياح ويحفظ تاريخ لبنان المناخي

لا يختلف اثنان ممن زاروا أو شاهدوا أو قرأوا عن مغارة جعيتا في لبنان على روعتها وجمالها الساحر الذي يأسر كل من يدخل إليها، فكل سائح يأتي إلى لبنان يكون مطلبه الأول زيارة أكبر مغارة طبيعية موجودة في “بلاد الأرز”.
ولأنها استثنائية وتتجسد فيها إبداع الخالق جل وعلا، أنتجت الجزيرة الوثائقية فيلما عن المغارة التي اكتشفها المبشر الأمريكي “وليام تومسون” في القرن الـ19، ثم لحقه عدد من المستكشفين والمستغربين واللبنانيين منذ ذلك الحين وحتى يومنا هذا. ومن خلال رواية تاريخ المغارة نرى ونتمتع باللقطات الجمالية التي تكشف لنا أجزاء المغارة وتفاصيلها وعظمتها.
مغارة جعيتا.. موقع استثنائي على ضفاف نهر الكلب
مغارة جعيتا هي مغارة لا مثيل لها في العالم، بسبب غرفها الكبيرة والتشكيلات المكونة من صواعد ونوازل ذات قياس كبير جدا، إضافة إلى تكوين المغارة نتيجة تفاعل يعود لملايين من السنوات، فالماء هو المهندس الأساسي في تشكيلها، فعلى الرغم من أنه ناعم وطري ونقي وضعيف، فإنه يستطيع تحويل الصخور إلى لوحات فنية إبداعية.
تقع المغارة على ضفاف نهر الكلب في محافظة جبل لبنان بقضاء كسروان، وتبعد عن العاصمة بيروت نحو 30 كيلومترا، ويعد موقعها استثنائيا، لأن كل مغارات العالم تقريبا سياحية وبعيدة جدا عن العاصمة والمطار.

ويقول نبيل حداد رئيس الشركة المستثمرة لمغارة جعيتا: تتألف المغارة من طبقتين، الطبقة الجافة طولها 2200 متر وتحتوي على ارتفاعات مختلفة، والجزء الآخر من المغارة يبلغ طوله مع كافة تشعباته 7800 متر، ويشكل مجرى فرعيا لنهر الكلب، ويزود سكان العاصمة بيروت بالمياه.
“ويليام تومسون”.. رصاصة تكشف سر المغارة الضخمة
يتحدث جوني طوق عضو النادي اللبناني للتنقيب في المغاور قائلا: أول شخص دخل إلى مغارة جعيتا عام 1836 كان المبشر الأمريكي “ويليام تومسون” في جولة لاكتشاف مغاور نهر الكلب، وعن طريق الصدفة وجد مدخلا صغيرا للمغارة، واستطاع الدخول منه إلى الجزء المائي من المغارة، وكان يحمل بندقية، وأطلق النار منها لكنه لم يسمع صوت الرصاصة، وعندما عاد من المغارة، كتب في تقريره أنه دخل إلى المغارة ولكنه لم يستطع اكتشافها كلها لأنها كبيرة جدا، وهذا ما يؤكده عدم سماعه لصوت الرصاصة التي أطلقها من البندقية.

وتابع أن “طبيعة الجبال اللبنانية (السلسلتان الشرقية والغربية) كلسية وأكثر من 60% منها مكونة من صخور كلسية، وهذا النوع من الصخور يتأثر بسقوط الأمطار والتحلل النباتي، مما يترك تجاويف في الصخور الكلسية، ولهذا فإن المياه تبحث دائما عن مخارج، وخلال هذه العملية تقوم بتوسيع الفجوات والفتحات في هذه الصخور الكلسية.
ويتحدث غواص المغاور جوزيف شاربين قائلا: التكوينات الجيولوجية الموجودة في مغارة جعيتا (أي الصواعد والنوازل) هي نتيجة للأمطار التي تحمل معها أحماضا تكونت بفضل الأعشاب المتحللة، وتمر في الطبقات الغنية بكربونات الكالسيوم التي تلتصق بالصخور، وهكذا تتراكم وتعطينا هذه المنحوتات الجميلة، فالصاعد الذي يبلغ طوله 15 مترا يحتاج إلى مليوني سنة ليتكون.
جر مياه المغارة.. مشروع يفتح باب اكتشافات جديدة
وفي عام 1873، استعانت دائرة “مياه بيروت” بمهندس أمريكي لجر مياه مغارة جعيتا إلى بيروت حتى يشرب منها سكان العاصمة، وشكّل هذا المهندس فريقا ودخل إلى المغارة وخلال جولتهم داخلها، أطلقوا على كل شيء شاهدوه اسما، ولا تزال هذه الأسماء مستخدمة إلى يومنا الحالي، بحسب جوني طوق، عضو النادي اللبناني للتنقيب في المغاور.

يقول جوني: كل الاكتشافات السابقة كانت بعثات أجنبية، ولم تستطع تجاوز 1500 متر، وعام 1946 بدأ المستكشفون والغواصون اللبنانيون الدخول إلى المغارة، وقد وصلوا إلى عمق 2500 متر من مدخل المغارة، وعام 1951، وسّع الغواصون اللبنانيون اكتشاف مغارة جعيتا من 1500 إلى 6400 متر.

وتقرر يومها أن يتحول مجرى النهر الجوفي إلى مغارة سياحية، ودشن الرئيس اللبناني السابق كميل شمعون المغارة عام 1956. وفي عام 1958 اكتشفت المغارة العليا، وكان من النادر في العالم أن الجزء العلوي من المغارة يطل على المغارة السفلى.
حقبة الحرب الأهلية.. 17 عاما من الركود السياحي
افتتح الرئيس اللبناني السابق شارل حلو المغارة العليا عام 1969، ودشنت بأول حفلة موسيقية تقام داخل مغارة، وكانت السياحة في لبنان مزدهرة بشكل كبير حينئذ، وكان الناس يتقاطرون يوميا لرؤية المغارة، وكانت هناك برامج سياحية وترويجية مشجعة واستثنائية، وقد طبعت صور المغارة على الليرة اللبنانية والطوابع البريدية وفي الحملات الترويجية التي كانت تدعو الناس لزيارة المغارة والاستمتاع بالكنز الموجود في لبنان.

وفي عام 1975، اندلعت الحرب الأهلية في لبنان، وخلال هذه الفترة اتخذ القرار بإغلاق مدخلي المغارتين السفلى والعليا بالأسمنت حتى لا يستطيع أحد الدخول إليهما، وبعد انتهاء الحرب التي امتدت لـ15 عاما، عاد الشباب إلى المغارة عام 1992، وحصروا الأضرار الجسيمة خارج المغارة، بينما لم تتأثر من الداخل، لأنه لم يدخل إليها أحد خلال 17 عاما.

ويقول نبيل حداد رئيس الشركة المستثمرة لمغارة جعيتا: بعد قرار الدولة اللبنانية إعادة بناء المرافق السياحية، وضعت خطة لتسريع عمليات إعادة البناء بالتعاون مع القطاع الخاص، وكان الوضع خارج المغارة كارثيا ومحيطها مليئا بالألغام، وعلى الرغم من الصعوبات عادت المغارة إلى سابق عهدها، وبعد 16 شهرا بدأت تستقبل الزوار من جديد، وفي 6 يوليو/ تموز 1996 افتتحت المغارة مجددا أمام الزوار ووُضعت على الخارطة السياحية اللبنانية.
قرية جعيتا.. جيران المغارة التي تمد النهر بالماء
سميت القرية التي تقع فيها المغارة “جعيتا”، ويعني هدير الماء القوي، نسبة إلى تدفق مياه نهر الكلب، ففي فصل الربيع كان سكان المنطقة يسمعون صوت هدير مياه نهر الكلب القوي يخرج من المغارة، في حين لم يكونوا يسمعون بعضهم، ولهذا سميت القرية “جعيتا”.

سكان العاصمة اللبنانية بالماء. واستمرت رحلات الاستكشاف من 2005 حتى 2011 حيث اكتشفت 350 مترا إضافيا، فالغوص في المغارة صعب وخطير، لأن الطين فيها يعكر المياه فتصبح عمليات التصوير صعبة والرؤية معدومة.
ولا تأتي المياه القوية داخل مغارة جعيتا من مصدر واحد، بل من عدة مصادر تخرج من باطن الأرض، ثم تتجمع على شكل شبكة وتخرج من المغارة.
بطش الإنسان.. تهديد حافظة تاريخ لبنان المناخي
تتعرض المغارة لتهديد وجودي بسبب سرعة البناء العشوائي حولها، إضافة إلى أن المياه الآسنة تصب في المغارة لعدم وجود بُنى تحتية في المنطقة، كما تنتج عن استخدام آلات ومعدات حفر ثقيلة خلال البناء ارتجاجات وتحركات في المغارة، وهذا يؤذي النوازل المتدلية من سقف المغارة.

ويلخص جوني طوق عضو النادي اللبناني للتنقيب في المغاور تداعيات ذلك قائلا: أجرينا دراسة على صاعد طوله متر و20 سنتيمترا موجود في المنطقة العليا، وهذا الطول يعني أنها تشكلت منذ 11 ألف عام. وهذه الصواعد مهمة جدا لدراسة المغارة، لأنها تخبرنا كيف كان المناخ في لبنان منذ 11 ألف سنة حتى أيامنا الحالية، ونقوم بدراسة كل طبقة من هذه الصواعد وكم استغرقت وقتا لتتكون، ونستطيع أن نعلم ما إذا كان هناك تصحر أو أمطار غزيرة في كل سنة من السنوات. وتعد الصواعد مرجعا أساسيا للمناخ في لبنان ومن خلال التعرف على مناخ لبنان يمكن أن نكتشف تاريخ البلاد العمراني.
مغارة جعيتا مليئة بالألغاز والأسرار، لأن أي فجوة -مهما صغر حجمها- قد تكون مدخلا لدهاليز مجهولة وغير مكتشفة، تمتد لعدة كيلومترات، ولهذا فإن الاكتشافات في المغارة لن تتوقف، ودائما سيبقى السؤال: ما التالي في هذه المغارة العجيبة؟