أعجوبة المهندسين الرومان.. ينابيع من جبل زغوان تسقي قرطاج تونس منذ فجر التاريخ

يمتد جبل زغوان الشامخ على طول 9 كيلومترات في الشمال الشرقي من تونس، ويرتفع بمقدار 1295 مترا فوق سطح البحر، ويعد مصدر ثراء طبيعي وحيوي متنوع. وقد شكّل هذا الجبل وينابيعه الغنية بالمياه العذبة والقنوات أو “الحنايا” التي تحمل الماء إلى المدن حوله، علامةً فارقة في هذه البقعة الهامة في غرب المتوسط، ولجميع الممالك التي سكنتها.

من أجل هذا فقد أفردت الجزيرة الوثائقية حلقة خاصة من سلسلة “دهاليز”، سلّطت فيها الضوء على هذه الثنائية المقدسة الفريدة، زغوان والحنايا، وبيّنت أهميتها لمختلف الحضارات التي تعاقبت على هذه المنطقة على مرّ العصور، وعرضت الحلقة على شاشتها تحت عنوان: “الحنايا.. شريان الحياة”.

جبل زغوان.. البلاد التي لا تعرف معنى العطش

تقول راندة الدزيري الباحثة في علم المياه إن جبل “زيكوا” (اسمه في العهد الروماني) يتكون من سلسلتين متوازيتين من الجبال يفصل بينهما “وادي القلب”، ويتبع سلسلة جبال أطلس التونسية، وقد تشكَّل من حجر الكلس “الجير”، وهو يعود إلى العصر الجيوراسي. وقد شهد هذا الجبل عددا من التحولات عبر ملايين السنين، بالنظر إلى طبيعة صخوره من نوع “كارست”.

جبل “زيكوا” كما كان اسمه في العهد الروماني يتبع سلسلة جبال أطلس التونسية وهو جبل ثريّ بعيون الماء العذبة

وكلمة “زيكوا” تعني بالرومانية الماء، وذلك لأن الجبل ثريّ بعيون الماء العذبة، وتقع على سفحه مدينة زغوان التي حفرت اسمها في التاريخ بحروف من ذهب، وتقع في الشمال الشرقي من تونس، وهي مدينة لم تعرف العطش أبدا.

ومن أشهر ينابيع الجبل عين الحورية، وهي التي بنى من أجلها الرومان معبد المياه، ويتدفق ماؤها في الحنايا لتسقي مدينة قرطاج بصفة أساسية، ولا يزال سكان زغوان يتوارثون على مرّ العصور مقولات عن قدسية مياه جبل زغوان.

ويروي الباحث في المعهد الوطني للتراث حمدان بن رمضان، أن معبد المياه في زغوان يعد من أهم معابد المياه في النصف الغربي للمتوسط، ولا يزال حتى اليوم يقاوم الاندثار، ويحافظ على أهم أجزائه، ويعد المعبد من أكبر المعالم الرومانية من حيث الشكل والمساحة والهندسة، فقد كان الرومان يخصصون معابد للمياه عند منابعها، ونوافير في مناطق وصولها داخل المدينة.

معبد المياه في زغوان واحد من أكبر المعالم الرومانية من حيث الشكل والمساحة والهندسة

ويتكون المعبد من بيت الآلهة، وتوضع فيه تماثيل الآلهة، ثم الرواق الذي يجتمع فيه عامة الناس من أجل طقوس التعبد، ويُمنع عليهم دخول بيت الآلهة، فهي تخص الكهنة فقط، وتتوزع في الرواق عرائس المياه، وهي تماثيل لـ12 عروسا.

الإمبراطور “أدريان”.. عبقرية هندسية في سيدة المدن الأفريقية

وينقل أستاذ علم الآثار الحبيب بقلوطي عن المصادر الرومانية أن قدوم الإمبراطور “أدريان” لمدينة قرطاج رافقه هطول الكثير من الأمطار، وذلك بعد 5 سنوات من الجفاف، ولهذا أولاها الإمبراطور مزيدا من الاهتمام حتى صارت أهم مدن مقاطعة أفريقيا، والمدينة الثانية في الإمبراطورية بعد روما، وجاء قراره ببناء أطول الحنايا في ذلك الوقت بطول 128 كيلومترا.

في جبل زغوان بني معبد المياه فوق أكبر عين ماء هي عين “الحورية”

والحنايا هي تلك القنوات التي تنقل الماء من المصدر إلى المصب، ويتفاوت بناؤها فوق الأرض وتحتها، وكانت مدينة قرطاج سبّاقة في تكنولوجيا نقل المياه هذه على حواضر الإمبراطورية الأخرى.

وما زالت الحنايا حتى يومنا هذا شاهدة على عبقرية المهندسين الرومان، ومقترنة بجبل زغوان الذي كان سببا لوجودها، فقد ساعد وجود الماء والحجارة ومواد البناء، والانحدار الكافي من أعلى الجبل إلى مستوى المناطق المسكونة على إنشاء هذه الحنايا لنقل الماء.

ولا تنقضي أسرار جبل زغوان، فهو يحتفظ بشاهد آخر على أهميته عبر العصور، وهي تلك المغارات ذات التشكيلات الرسوبية الكلسية فائقة الجمال.

مغارات جبل زغوان تتميز بتشكيلاتها الرسوبية الكلسية فائقة الروعة والجمال

ويقول ماهر ملوحية عضو جمعية الاستغوار والتسلق بزغوان، إن الأمطار عندما تهطل تختلط بالأتربة والحشائش، فتأخذ منها الأحماض والتراكيب الكيميائية المختلفة، وخلال تسللها عبر الشقوق إلى المغارات والكهوف تعمل على إذابة الصخور الكلسية، فتتدلى مشكلة هذه “الصواعد” و”النوازل” الكلسية الأخّاذة.

قنوات قرطاج.. ينابيع من الجبل تسقي المدينة

استُخدمت ثلاث تقنيات لبناء حنايا قرطاج؛ الأولى تحت الأرض، وهي قنوات تحت الأرض بُنيت بالحجارة، وتكون عادة في المناطق المرتفعة شديدة الانحدار، وفي المناطق المنبسطة بُنيت الحنايا على مستوى سطح الأرض، أما في الوديان والمناطق المنحدرة فقد بُنيت القنوات على أقواس حجرية ضخمة وممتدة، تتفاوت ارتفاعاتها بحسب انحدار المكان.

الحنايا أو قنوات المياه.. آثار رومانية تمتد لعشرات الكيلومترات وتنقل الماء إلى مدينة قرطاج

وهنا يقول أستاذ علم الآثار الحبيب بقلوطي إنه كان يُراعى في بناء الحنايا أن لا تكون شديدة الانحدار، حتى لا يحطم الماء المتدفق القنوات، وأن لا تكون قليلة الانحدار حتى لا يفقد الماء اندفاعه، فلا يصل إلى الهدف المنشود، وإنما المطلوب هو الاعتدال في الانحدار، ولذا فإن أطوال الحنايا عادة أكبر من المسافة الحقيقية بين المنبع والمصب.

وقد حرصت الحضارات القديمة على إخفاء قنوات المياه تحت الأرض خوفا من تخريبها بواسطة الأعداء، أما الرومان فقد شيّدوا قنواتهم ظاهرة للعيان، دلالةً على القوة والازدهار المعماري، بفضل قرنين من المنعة والاستقرار.

خزان هائل مبني على مساحة كبيرة من الأرض في الطريق إلى مدينة قرطاج يتسع لـ42 ألف متر مكعب من المياه

وكانت المياه تتجمع في خزان هائل مبني على مساحة كبيرة من الأرض، قبل أن تصل إلى مدينة قرطاج، ويتكون الخزان من 15 صهريجا، طول كل صهريج 100 متر وعرضه 7.5 أمتار، وتبلغ السعة القصوى لهذه الصهاريج حوالي 42 ألف متر مكعب من المياه، وهو أكبر خزان في العهد الروماني في غرب المتوسط.

حنايا الجبل.. أسسها البيزنطيون وحطمها الملوك المتعاقبون

قد شهدت الحنايا أول موجة تحطيم في العصر الواندالي، يوم حاصروا قرطاج وبادروا إلى تحطيم القناة، ولم تعد المياه إلى قرطاج من خلال هذه الحنايا إلا في العهد البيزنطي، ثم حُطمت ثانية على يد حسان بن النعمان في عام 698 من الميلاد، وبقيت القناة غير مستعملة إلى الفترة الحفصية.

بحيرة ماء تصب فيها قنوات الماء القادمة من جبل زغوان

ويقول مدير البحوث بالمعهد الوطني للتراث عدنان الوحيشي إن الحنايا رُممت بين عامي 1259-1267 على يد المستنصر بالله الحفصي، وحُولت وجهتها لتصل إلى باردو وجنان أبي فهر في أريانة، واستخدموا الطوب الصلب في البناء، وهنالك وصف لعملية البناء هذه في مقدمة ابن خلدون.

ولم تنتهِ قصة مياه زغوان بنهاية الحقبة الحفصية، بل إن فرنسا في القرن الـ19 أرادت جلب مياه زغوان إلى تونس العاصمة، لكن فرنسا والباي لم يكونوا على دراية بحقيقة “مِلْكية الماء” في زغوان، وقد بدأت بقدوم المهاجرين الأندلسيين من إسبانيا إلى تونس في 1609-1610.

مقامات الأولياء وعيون العلاج.. جبل يفتن الحضارات

يوجد على جبل زغوان كثير من مقامات الأولياء والصالحين، ممن كان يقصدون الجبل للعزلة والتعبد، كما يقول قدور هنية، وهو منشط سياحي وحكواتي من زغوان.

موجات متتالية من التدمير شهدتها الحنايا المتحدرة من جبل زغوان في تونس من قبل الغزاة

وهنالك عيون مياه ساخنة تتدفق من الجبل وتصب في “حمّام الزريبة”، وأخرى باردة بقيت في الذهنية التونسية على مرّ العصور، وتستخدم للشفاء من الأمراض وعلاج الأسقام، فيأتيها الناس من كل حدب وصوب طلبا للشفاء. وقد اهتمت الثقافة التركية -كسابقتها الرومانية- بالحمّامات، ليس من أجل النظافة والطهارة فحسب، بل اتخذتها أماكن للعلاج وملتقيات ثقافية واجتماعية.

“حمّام الزريبة”.. عين ماء ساخنة تتدفق من جبل زغوان يقصدها الناس للاستطباب

زغوان هو هذا الجبل الرابض بكبرياء على الأراضي التونسية، الذي لم يزل ينظر إلى المدن والحواضر على سفوحه وفي وديانه بعين فيها من الشفقة والرحمة، وقد بقي على مرّ العصور إلى يومنا يمثل مصدرا للأمن والغذاء والسقيا، وركيزة حضارية لكثير من الممالك التي تعاقبت عليه.


إعلان