“حواري القدس”.. آثار عمرانية وثقافية راسخة لا تمحوها أقدام الغزاة
حجارتها تكاد تنطق، وشقوق جدرانها تُنبِئك عن ابتسامة فرحٍ أو لحظة حزن، ومنعرجات حاراتها تحكي قصصا عن ماضٍ سحيق، وبلاط أزقّتها الضيقة يُسمعك رجْعَ صدى أحذية الجنود وسنابك الخيل ومواكب الأباطرة والملوك. إنها القدس، مدينة السلام، وبوّابة السماء، ومهوى أفئدة البشر من كل أنحاء الدنيا.
زارتها كاميرا الجزيرة الوثائقية، والتقت أهلها، وسمعت منهم آلام المدينة المقدسة وآمالها، وسجّلت محاولات طمس هويتها والقفز على تاريخها، واختزاله في حقبة دموية دنّست خلالَها أحذيةُ الجنود وجنازيرُ دبّاباتهم، طُهْرَ المدينة وقُدسيّةَ المكان. ثم أنتجت هذه الزيارة فيلما عرضته على شاشتها بعنوان “حواري القدس”، وهي حارات المدينة المقدسة.
أهل القدس القديمة.. ذكريات يعكّر صفوَها واقع الاحتلال
يتحدث هايل صندوقة، الباحث في شؤون الاستيطان في القدس، عن البلدة القديمة قائلا: هي قلب القدس وفلسطين، تقع داخل السور العثماني، وتبلغ مساحتها 878 دونما (الدونم يساوي 1000 متر مربع)، وأنا أسكن في رأس عقبة الخالدية الممتدة على امتداد سوق القطّانين، أحد الأسواق المؤدية إلى أبواب المسجد الأقصى المبارك.
“ومن ذكرياتي في البلدة القديمة الاحتفالات المسيحية بمختلف طوائفها والأعياد الإسلامية، واختلاط البخور بالبهارات في دكان والدي، والخبز المقدسي والكعك بالسمسم، والحلويات مثل كنافة جعفر ومُطَبَّق زلاطيمو، فهي جميعا تُشكّل الهوية المقدسية وخصائصها”.
ويقول الدكتور نظمي الجعبة، أستاذ التاريخ الإسلامي: ولدتُ في البلدة القديمة، في الحي الذي يسمى الآن “حارة اليهود” عام 1955، وكان والدي يملك دكانا للعائلة في طريق باب السلسلة، ولقد درست في المدرسة العمرية على الجدار الشمالي للحرم الشريف، وقضيت أوقات طفولتي في أحياء وأزقة البلدة القديمة.
ويتحدث عن تسمية الأحياء قائلا: سُمِّيت الأحياء قديما بأسماء مهنية مما يمتهنه أهلها، أو بمسميات طبوغرافية بناء على موقعها في المدينة، أو بمسميات عرقية ودينية بناء على أصل أهلها وديانتهم، وليست كما سماها الأوروبيون مربعاتٍ للمسلمين والنصارى والأرمن واليهود.
“لا فرق فيه بين مسلم ومسيحي ويهودي”
التقينا مع الأديب سامي برصوم، فأخبرنا بأنه ولد في حارة السريان كما كانت تسمى سابقا، ولكنها تغيّرت بعد حربَي 1948 و1967، فسكنها اليهود وسمّوها “شارع حاباد”. وهو يقول: من أجمل الذكريات القديمة أن هذا الشعب كان واحدا، لا فرق فيه بين مسلم ومسيحي ويهودي.
أما محمود جدة، وهو من الجالية الأفريقية في القدس، فقال: أنا مقدسي من جذور أفريقية، نشأت وترعرعت في البلدة القديمة ودرست في مدرسة الفرير، ثم عبد الله بن الحسين ثم الرشيدية والإبراهيمية، حتى أنني سجنت في سجون الاحتلال. أحب التجول في أحياء القدس، وأنقل للشباب هذا الحب، وأخبرهم عن معاني الأسماء في المدينة، فباب العامود مثلا هو نُصب بناه الإمبراطور “هدريان” لتمثاله، عندما احتل القدس وإسماها “إليا كابوتولينا”.
أما المهندس محمد هديب فقال: أنا جزء من القدس، أشعر بالأمان فور دخولي المسجد الأقصى، على ما يحدث حوله من تهديد وهجمات، وأعمل على ترميم المباني في جميع الأحياء، مثل منطقة الحرم الشريف وكنيسة القيامة، وعدة أبنية أهمها المتحف الأرمني في الحي الأرمني.
ويقول الدكتور نظمي الجعبة، أستاذ التاريخ الإسلامي: ومن ذكرياتي في البلدة القديمة الاحتفالات المسيحية بمختلف طوائفها والأعياد الإسلامية، واختلاط البخور بالبهارات في دكان والدي، والخبز المقدسي والكعك بالسمسم، والحلويات مثل كنافة جعفر ومُطَبَّق زلاطيمو، فهي جميعا تُشكّل الهوية المقدسية وخصائصها.
شواهد التاريخ.. عراقة تجسدها المباني والخرائط
تصف هيام عليان -وهي المديرة التنفيذية لجمعية السرايا- أحد المباني القديمة، فتقول: يعود هذا المبنى لعام 1865، وكان منزل الحاكم التركي، وفي عام 1922 امتلكته عائلة القواس، حتى اشترته الجمعية بتمويلٍ من مؤسسة التعاون في 1988 وافتتحته عام 1991، وفي 2007 حاولت جمعية “عطيرات كوهانيم” الصهيونية اقتحام المبنى وفتح باب باتجاههم، ولكن أهل المنطقة تصدّوا لهم وأغلقوا الفتحة.
وتتحدث عن عمل الجمعية وأهدافها قائلة: نحن نعمل مع المقدسيين الفلسطينيين الذين يعانون من مشاكل عدة بسبب الأوضاع الراهنة، ونستهدف الأطفال والنساء بشكل أساسي، ونعمل مع العائلات المقدسية بشكل عام.
وتحدث إلينا “غارو ساندروني”، وهو رسّام سيراميك من أصول أرمنية، فقال: أرسم لوحة الفسيفساء الموجودة في كنيسة مار جرجس في مادبا بالأردن، وهي من أقدم الخرائط للبلدة القديمة في القدس، حيث يمكننا رؤية باب العامود وطريق الآلام وكنيسة القيامة وكنيسة مار يعقوب وباب الأسباط وباب الخليل. والحي الأرمني من أصغر أحياء القدس، ويشكل 18% من المدينة، ومعظمه عبارة عن دير.
ويروي قصة أصل قدوم الأرمن إلى القدس قائلا: عندما قرر السلطان سليمان تغيير معالم قبة الصخرة في القرن الـ16، دعا فناني السيراميك الأرمن من تركيا للعمل في المشروع تحت رئاسة “داود أوهنسيان”، وبعد سنتين من عمله في المشروع بدأت المذابح في تركيا، فلم يستطع العودة إليها، وهذا سبب بقاء الفنانين الأرمن في القدس.
الحجاج وجنود الإنجليز.. تشكيلات عرقية تشكل سكان المدينة
يقول د. نظمي الجعبة، وهو أستاذ التاريخ الإسلامي: في بداية دراستي للقدس تخصصا، كانت تشدني إليها أكثر فأكثر، فهذا التداخل في العمارة الدينية والوطنية، وشكل الحياة اليومي لأهل المدينة، مع وجود السياح والحجاج والزوار على مدار العام، هو ما يميز القدس. فهنالك تعايش وانسجام عزّ نظيره، في مدينة تقل مساحتها عن كيلومتر مربع واحد.
وقبل تقسيم الأوروبيين للأحياء إلى أرباع، كان فيها تركيز على ديانة أو مهنة معينة، ولكنها لم تكن أحياء نقية بديانة واحدة فقط، فلم يكن هناك ما يسمى بحارة النصارى أو المسلمين، وهذا لم يقتصر على الحارات فقط، بل حتى البيوت ذات الأحواش، تجد فيها عائلة مسلمة وأرمنية -وحتى يهودية- يسكنون معا.
وتحدّث محمود جدة عن الوجود الأفريقي في القدس فقال: هنالك سبب ديني، فقد كان الحجاج بعد أداء المناسك في مكة يزورون المسجد الأقصى، فيما يسمى بتقديس الحجة. وهنالك سبب عسكري، فقد كان الأفارقة يشكلون جزءا من الجيش البريطاني الذي غزا فلسطين.
ويتابع: تقطن الجالية الأفريقية في رباط البصير “الأباصيري” أو الرباط المنصوري. والرباط هو موقع عسكري لحماية المسجد الأقصى من الاعتداءات، ولكن بعد استقرار المنطقة وتوقف الحروب تحول الرباط إلى مكان لإيواء الفقراء والمتعلمين والمتعبدين في المنطقة، وكان هذا في فترة الحكم المملوكي في القرن الـ13.
حروب الاحتلال.. بداية الصراع اليهودي في الأرض المقدسة
لم تشهد مدينة القدس قرنا واحدا من السلام طوال تاريخها، وذلك بسبب موقع فلسطين الإستراتيجي، وكونها ملتقى لقارات العالم القديم، آسيا وأوروبا وإفريقيا، فكانت دائما ممرّا للجيوش ومحطّة للصراع على الملكية والشرعية، بسبب أهميتها الاقتصادية والدينية. فهي بوابة السماء ومدينة السلام.
يقول الأديب سامي برصوم: في حرب 1948 نشبت معارك طاحنة بين المقاومة الفلسطينية -ممثلةً بالمجاهدين واللجان الشعبية- وبين الصهاينة، دارت رحاها في حارة اليهود، فطُهّرت المنطقة وسُلمت للجيش الأردني، ونُقِل من بقي من اليهود إلى الجانب الغربي من القدس، بواسطة لجنة الصليب الأحمر، ولكن في حرب 1967 تغير كل شيء، وبسط الاحتلال الصهيوني سيطرته على كامل البلدة القديمة.
ويقول هايل صندوقة الباحث في شؤون الاستيطان في القدس: خلال حرب الأيام الستة من يونيو/ حزيران 1967، استولى ضباط جيش الاحتلال على بعض العقارات في حي الواد وحي باب السلسلة وعقبة الخالدية، وطردوا سكانها العرب، بحجة أنها كانت ملكا لليهود قبل عام 1948، ثم هجّروا بعض الأهالي في حافلاتٍ باتجاه عمّان، وأجبروهم على التوقيع على وثائق تفيد بأنهم تركوا المنطقة طوعا، ولن يعودوا إليها.
وأنشؤوا حيّا يهوديا في المنطقة الجنوبية من البلدة القديمة، ويضم الأحياء الجنوبية ما عدا حارة الأرمن، وسيطروا على حي المغاربة، وهدموا العقارات في الأحياء الجنوبية جميعها، ليبنوا عقارات جديدة يهودية، وأنشؤوا ساحة في حي المغاربة، وأصبح يسمى بالحي اليهودي، وتوسّع هذا الحي حتى بلغ أربعة أضعاف مساحته الأصلية، على حساب حي السريان والأرمن وسويقة باب السلسلة من الناحية الجنوبية.
كما زرعوا بؤرا استيطانية في حي باب حِطَّة وحي السعدية وطريق حي الواد وسويقة باب السلسلة وعقبة الخالدية وعقبة السرايا وحوش الشاويش -المتفرع من سوق باب خان الزيت- وعقبة التكية. وفي حارة النصارى في الدَّبّاغة أخذوا موقعا كبيرا، وهو نُزُل سان جورج، وأيضا في باب الخليل، وأخذوا فندق البتراء الذي يقع في رأس سويقة عَلُّون، وفندق الأمبريال في ساحة عمر بن الخطاب قرب باب الخليل.
حارة اليهود.. توسع أحياء الاحتلال وتفرقة السكان الأصليين
ينفّذ الاحتلال الإسرائيلي منذ 1967 برامج خطيرة وواضحة المعالم، عدا عن عزل المدينة عن امتدادها العربي في الضفة الغربية، وإحاطتها بجدران وسلاسل وحلقات الاستيطان، وهذا البرنامج هو محو الفواصل العمرانية والطوبوغرافية بين القدس الشرقية والغربية في مناطق محددة، بحيث تصبح البلدة القديمة جزءا من القدس الغربية.
يقول الأديب سامي برصوم: تبلغ مساحة حارة اليهود الآن أربعة أضعاف ما أتذكره سابقا، إذ لم تكن تحوي إلا 100 بيت تقريبا، أما الآن ففيها الآلاف، فقد استحوذوا عليها بيتا بيتا ودكانا دكانا وحارة حارة. وبعد أن كان المسلمون والمسيحيون يسكنون معا في منطقة مار مرقس، استولى اليهود على المنطقة وأخذوا بيوتا ليست لهم، مثل هذا البيت الذي كانت تملكه عائلة “الجواعنة”.
ويقول المهندس هديب: لا يقتصر عمل الإسرائيليين على التوسُّع، بل أيضا على التفرقة، فحين تذهب إلى مخفر مثلا تجد لوحة كبيرة عليها رقم للحي المسيحي وآخر للحي الإسلامي، فهم يتعمدون هذه التفرقة، مع أنها لم تكن موجودة في الشعب الفلسطيني أصلا، وتجدهم يتغلغلون بين أحياء المجتمع المقدسي، ويبدو التغلغل في المجتمع الإسلامي بشكل أوضح.
طمس الهوية.. سعي حثيث لتهويد العمارة والثقافة
يحاول اليهود السيطرة على المشهد الحضاري للمدينة، ففي باب الخليل يبدأ مشروع دمج القدس الغربية بالبلدة القديمة في منطقة “ماميلا”، وسيكون هذا المحور المركزي الذي يربط القدس بإسرائيل بأكملها، لأنه يربطها بشارع يافا الذي سيكون المدخل الرئيسي للبلدة القديمة، وبذلك تظهر البلدة القديمة وكأنها جزء من القدس الغربية لا العكس.
والمحور الآخر الذي تجري السيطرة عليه هو محور سلوان/ باب المغاربة، ويبدأ بهدم حي البستان وتحويله إلى “حدائق داود”، مرورا بمدينة داود الأثرية، ثم الدخول من باب المغاربة إلى حي المبكى، وعند ربط مقطع “ماميلا” مع مقطع سلوان تصبح زاوية هائلة جدّا، تأخذ جزءا من البلدة القديمة، وتجعله جزءا أساسيا من القدس الغربية.
والمظهر الثاني الذي يعمل الاحتلال عليه، خارج المحورين السابقين، هو النقاط المختلفة من البلدة القديمة، مثل إعادة بناء كنيس الخربة الذي يتوسط حارة اليهود، وإظهار قبته الكبيرة داخل البلدة القديمة، حتى تنافس القبتين المهيمنتين، قبة الصخرة وقبة كنيسة القيامة، فهناك إذن محاولة للسيطرة على المشهد الثقافي واقتسامه، وإسقاط هوية يهودية جبرية على المدينة.
يقول هايل صندوقة الباحث في شؤون الاستيطان في القدس: لقد استحوذوا على حاكورة (حديقة) الصبرة، وأقاموا فيها مدرسة سميت “غاليتسيا” بادّعاء أن من اشترت المنطقة في العهد العثماني كانت تسمى “غاليتسيا”، أما القسم الباقي من المنطقة فأزيلت أشجار الصبر الموجودة فيه، وبنوا فيها ساحة وأماكن للألعاب الترويحية لطلاب المدرسة، وضموا هذه الساحة بأكملها لهم.
تضييق المعيشة وتجهيل الأجيال.. محاولة للتهجير
تقول هيام عليان -وهي المديرة التنفيذية لجمعية السرايا-: تحدث تغيرات يومية في القدس، منها زيادة المستوطنات، وتضييق المعيشة على المقدسين وسحب هوياتهم في بعض الأحيان، وتلك محاولة لتهجير الناس من المدينة. ولذلك أصبح الاهتمام الوحيد للسكان أن يحافظوا على مكانهم وهويتهم المقدسية، فهم الآن بلا جواز سفر فلسطيني ولا أردني، ولا حتى إسرائيلي.
ويحاول الاحتلال بناء الأنفاق في البلدة القديمة لربطها بحائط البراق، وللبحث عن أي أثر يهودي يساعد في سرديتهم المزعومة، ولمحو كل أثر غير يهودي، فقد عجزوا عن السيطرة على الجانب الديموغرافي للبلدة، فهناك 36 ألفا من العرب يسكنون البلدة القديمة الآن، مقابل 3 آلاف فقط من اليهود.
ويعمل الاحتلال على تدمير التعليم في القدس، وتجهيل الأجيال الصاعدة بهويتهم العربية الفلسطينية، فهناك اكتظاظ شديد في المدارس، وتبلغ نسبة التسرب بين الطلاب 45%. وتؤدي زيادة الضغط على البنية التحتية المتهتكة في المدينة إلى حالة من الاستسلام والعجز لدى سكان المدينة بهدف ترحيلهم، وهذا هو التحدي الأكبر الذي يواجهونه.
لكنّ أهل القدس لا يزالون يقاومون خطط المحتلّ، ويتمسكون بأهداب الأمل، لتعود مدينتهم مدينة السلام كما كانت قبل الاحتلال، وزهرة المدائن قبل أن تدنسها الهجمة الصهيونية، فالعابرون على طرقها يمضون ولا يرجعون، وتبقى هي عصيَّة على الرحيل، متشبثة بتاريخها العربي والإسلامي العريق.