الكعبة المشرفة.. تاريخ من تنافس القبائل والملوك على خدمة البيت العتيق

في زمن غابر، يروى أن مضاض بن عمرو الجرهمي، قال أبياتا يرثي فيها زمنا علا فيه مقام قبيلة جرهم، فقد توارثت الولاية على الكعبة، وحكمت مكة أجيالا كثيرة، فلما خرجت من سلطتها قال مضاض:
وقائلةٍ والدمعُ منها مبادِرُ .. وقد شرِقَت بالدمعِ منها المَحاجِرُ
كأن لم يكُن بينَ الحَجونِ إلى الصَّفا .. أنيسٌ، ولم يسمُر بمكةَ سامرُ
بلى نحنُ كنا أهلَها فأبادَنا .. صروفُ الليالي والجدودُ العواثِرُ
وكنا ولاةَ البيتِ من بعدِ نابتٍ .. نطوفُ بذاك البيتِ والخيرُ ظاهرُ
فأخرجَنا منها المليكُ بقُدرةٍ .. كذلك يَا للناسِ تَجري المقادِرُ
وتَبكي لبيتٍ ليس يُؤذى حمامُه .. يظلُّ به أَمنًا وفيهِ العصافِرُ
وقد قيل إن كل سلطان في زمن الخلافة كان يتوجس من هذه الأبيات خيفة، وكأنها تنذر بزوال حكمه.
لم يحدد تاريخ دقيق لتلك الأبيات، ولم يُحسم هل مضاض الجرهمي هو قائلها، لكن في المقابل، يثبت التاريخ مكانة الكعبة عبر مر العصور، والقداسة التي اكتسبتها، حتى جعلت كل القبائل التي تولت شؤونها ذات شأن ورفعة وجاه.
إبراهيم عليه السلام.. رفع القواعد في وادٍ غير ذي زرع
لم تحسم المصادر التاريخية تاريخا دقيقا لبناء الكعبة وأول وجود لها، لكن أغلبها متشابه، فتورد روايات دينية عن أول ظهور للكعبة، تناقلها مؤرخون مسلمون، ممن أرّخوا لحقبة الإسلام المبكر أو الحقب التي قبلها.
لكن المؤرخ اليوناني “ديودور الصقلي” (90-30 ق.م)، ذكر في المجلد الثاني من موسوعته “مكتبة التاريخ” وجود معبد مهم تقصده جميع القبائل العربية، وذلك في المنطقة القريبة من ساحل جدة.
يقول الباحث المتخصص في تاريخ ونظريات الهندسة رضا عساسي، في بحث له بعنوان “الكعبة بيت بني تحت الشمس”: الكعبة، المبنى الأكثر قدسية في الإسلام، التي تقع في مكة، تأخذ اسمها من الشكل الهندسي لبنيتها. في اللغة العربية، كلمة الكعبة تعني حرفيا المكعب. ولا توجد الكثير من التقارير التاريخية الموثوقة حول أصول بنائها، ومع ذلك، كان المبنى معبدا مقدسا مهما لقبائل شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام، وترجع الروايات الإسلامية بناء الكعبة إلى زمن إبراهيم. ويسمي القرآن هذا المكان بالبيت العتيق.

ويروي عساسي وجود إشارات واضحة تعود إلى التاريخ المبكر لمدينة مكة في الأدب القديم قبل ظهور الإسلام، لكن الروايات الإسلامية عن بناء الكعبة ترجع إلى زمن أبعد، فتربط ظهورها بالتوطين في وادٍ خالٍ بمكة، بعد تدفق ماء زمزم الذي كان هبة الله لهاجر زوجة النبي إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام، وقد تمركزت قبيلة جرهم قرب النبع، وشكلت نواة أولى لمكة.
وتروي بعض الروايات الإسلامية أن الكعبة بُنيت في زمن كهولة النبي إسماعيل عليه السلام، وكان قد تزوج في قبيلة جرهم. وفي ذلك يقول الله تعالى في كتابه الكريم: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا ۖ إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾. (سورة البقرة الآية 127).
لكن روايات أخرى تذكر أن النبي إبراهيم عليه السلام رفع قواعد الكعبة، وأن وجودها كان قبل ذلك، وبناءها كان من الملائكة ثم آدم، ويستدل أصحاب هذه الرواية بالآية الكريمة: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ) (سورة البقرة الآية 96)، وهذا أغلب رأي علماء المسلمين.
“حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام”.. بيت بنته الملائكة
يقول المؤرخ علي حسين الخربوطلي في كتابه “تاريخ الكعبة” إن بعض المؤرخين ينسبون بناء الكعبة إلى الملائكة، وآخرون يرجعون بناءها إلى آدم، ثم يستعرض أقوالهم قائلا: أما المؤرخون الذين ينسبون بناء البيت إلى الملائكة، فيذكرون أن الله عز وجل غضب على الملائكة حين قال لهم ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ (سورة البقرة آية 30)، فلاذ الملائكة بالعرش وطافوا به سبعا كما يطوف الناس بالبيت الحرام، وهم يقولون، لبيك اللهم لبيك، ربنا معذرة إليك، نستغفرك ونتوب إليك.
فنظر الله إليهم ونزلت الرحمة عليهم، ووضع الله سبحانه وتعالى بيتا تحت العرش هو البيت المعمور، ثم قال للملائكة: طوفوا بهذا البيت ودعوا العرش، فكان طوافهم بهذا البيت أيسر عليهم من طوافهم بعرش الخالق.
ثم أمر الله الملائكة أن يبنوا في الأرض بيتا على مثال البيت المعمور، وأمر من في الأرض أن يطوفوا به كما يطوف أهل السماء بالبيت المعمور، فبنته الملائكة قبل نزول آدم بألفي عام، وكانوا يحجون إليه، فلما حج آدم إلى هذا البيت قالت الملائكة له: بر حجك يا آدم، حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام. انتهى كلام الخربوطلي.
وروى أحمد ابن فضل الله العمري في كتابه “مسالك الأبصار في ممالك الأمصار” نقلا عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال: خلق الله البيت قبل الأرض بألفي سنة، وكان عرشه على الماء، على زبدة الماء. وأنه حين حلّ زمن الطوفان رفع الله البيت، وطهره من أن تصيبه عقوبة أهل الأرض، فصار معمورا في السماء، إلى أن تبع النبي إبراهيم أثره بعد ذلك فبناه.
قرين البيت المعمور.. طين وحجارة من أيام شيث بن آدم
ينسب ابن قتيبة الدينوري في كتابه “المعارف” بناء الكعبة إلى شيث بن آدم، فيقول: كان شيث بن آدم أجلّ ولد آدم وأفضلهم وأحبهم إليه، وكان وصي أبيه وولي عهده، وهو الذي بنى الكعبة بالطين والحجارة، وكانت هناك خيمة لآدم وضعها الله له من الجنة.
كما يذكر المؤرخ المسعودي في كتابه “مروج الذهب” أن قوم عاد قصدوا مكة حين أصابهم القحط، وأنهم كانوا يعظمون موضع الكعبة قبل أن يبنيها النبي إبراهيم، وكان في مكان الكعبة معبد قديم للعماليق، لكنه اندثر قبل قدوم إبراهيم إلى الحجاز.

وتختلف الروايات الإسلامية عن أصل بناء الكعبة، لكن معظمها يُجمع أن النبي إبراهيم عليه السلام كان أول من بناها على هيئتها اليوم.
يروي الباحث رضا عساسي أن الكعبة التي بنيت في عهد النبي إبراهيم كانت عبارة عن بيت ذي جدران أربعة بلا سقف، ويقول: وفقا للروايات الإسلامية، قام آدم وحواء ببناء بيت للعبادة في هذا الموقع، والذي فقد أثناء الطوفان العظيم في زمن نوح، ثم أعاد إبراهيم وابنه إسماعيل بناءه بأمر من الله.

وبينما كان إبراهيم يبني الكعبة، أحضر له ملَك حجرا أسود، ووضعه في الزاوية الشرقية من البناء، ولا يزال هذا الحجر الأسود جزءا من المبنى الحالي.
وبصرف النظر عن الرواية الأسطورية التي تنص على أن الموقع ظهر لآدم وحواء من خلال الحجر الذي سقط من السماء، فهناك رواية إسلامية مهمة أخرى حول السمات الجغرافية الفريدة للكعبة.
يقتبس ابن رسته -وهو مستكشف فارسي في القرن الثالث الهجري- عن ابن عباس قوله إن الكعبة مبنية مباشرة تحت بيت سماوي، يسمى البيت المعمور، بحيث إذا سقط حجر من ذلك البيت وقع على الكعبة. وبحسب مصادر أخرى، فإن البيت المعمور يقع في الطبقة الرابعة من السماء، وتطوف به الملائكة في الليل والنهار.
“يا إسماعيل إن ربك أمرني أن أبني له بيتا”
من المعلوم أن النبي إبراهيم عليه السلام سيّرته أقدار الله لترك زوجته هاجر وابنه الرضيع إسماعيل في وادٍ غير ذي زرع، قال تعالى على لسان إبراهيم: ﴿رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ (الآية 37 من سورة إبراهيم)، ويقع ذلك الوادي في مكة.
وقد رأف الله بهاجر وابنها، وفجّر لهما نبعا من الماء أصبح معروفا ببئر زمزم، وستحاذيه الكعبة فيما بعد. تقول الروايات التاريخية الإسلامية إن ذلك البئر كان سببا في توطين قبيلة جرهم في ذلك المكان الخالي، ومنها تشكلت النواة الأولى لمدينة مكة في ذلك المكان، لا سيما بعدما بنى إبراهيم عليه السلام الكعبة ورفع قواعدها.
يقول المؤرخ علي حسين الخربوطلي في كتابه “تاريخ الكعبة”: صادف أن مرت قبيلة جرهم بذلك المكان، فشاهدت طيورا تحوم في السماء، فأدركت أن هناك ماء، فعجبوا من ذلك، فقد كانوا يمرون بالمكان فيجدونه قفرا جدبا، ومروا حذو هاجر، واستأذنوا منها الإقامة إلى جانب البئر، فأذنت لهم، فشب إسماعيل في قبيلة جرهم، وتعلم منهم اللغة.

وتروي المصادر التاريخية الإسلامية أن الله أمر النبي إبراهيم ببناء الكعبة، لذلك سار نحو مكة وقد عمرت، وكان ابنه إسماعيل قد بلغ الثلاثين يومئذ، فأمره الله ببناء الكعبة فبناها مع ابنه.
ويروي الطبري أن إبراهيم قال لإسماعيل: يا إسماعيل إن ربك أمرني أن أبني له بيتا. فقال له إسماعيل: فأطع ربك فيما أمرك. فقال إبراهيم: قد أمرني أن تعينني عليه. فقال: إذن أفعل. فقام معه فجعل إبراهيم يبنيه وإسماعيل يناوله الحجارة، فيقولان: ﴿رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا ۖ إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾. فلما فرغ إبراهيم من بناء البيت، أمره الله أن يؤذن بالحج: ﴿وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ﴾.
صراع العماليق وجرهم.. حروب وطغيان وأطماع حول الكعبة
أشرف إسماعيل عليه السلام على الكعبة بعد انتهاء بنائها، وحين توفي ترك رعايتها لابنه نابت، ثم افتكّت قبيلة جرهم الولاية على الكعبة من نسل إسماعيل. يقول الكاتب علي حسين الخربوطلي: تولى الحارث بن مضاض شؤون الكعبة، وكان ينزل مكانا على مشارف مكة يدعى قعيقعان، وكان كل من دخل مكة بتجارة أخذ عشرها.
وكان للعماليق يومئذ ملك يدعى السميدع بن هوبر، وكان ينزل في أسفل مكة يستولي على أعشار التجارة التي تدخل إلى مكة من جهته، واندلع نزاع بين الملكين، ونشب القتال مدة، ثم جنحوا للسلم، واتفقوا على أن يتولى العماليق الإشراف على الكعبة، وظلوا يتولون ذلك حتى استعاد الجرهميون نفوذهم، وظلوا يشرفون على الكعبة 300 سنة، وكان آخر ملوكهم الحارث بن مضاض الأصغر، وزادوا في بناء البيت ورفعته على ما كان عليه من بناء إبراهيم عليه السلام.
ثم طغت قبيلة جرهم وتجبرت وتهاونت في المهمة الكبرى الموكولة إليهم فاستولوا على أموال الكعبة. انتهى كلام الخربوطلي

أصبحت الكعبة مطمعا لقبائل أخرى تنازعت من أجل الولاية عليها، حتى ثارت حرب بين قبيلتي مضر وإياد، فاستولت إياد -حين استشعرت هزيمتها- على الحجر الأسود ودفنته.
وصادف أن شاهدت امرأة من قبيلة خزاعة مكان دفن الحجر الأسود، فأخبرت قومها بمكانها، فساوموا على كشف مكانه مقابل الاعتراف بولاية خزاعة على الكعبة.
عمرو بن لحي.. سيد خزاعة الذي جلب الأصنام إلى العرب
يقول كتاب “تاريخ الكعبة”: تحولت الكعبة إلى بيت للعبادة الوثنية، حين استولت خزاعة على ولاية الكعبة، على يد عمرو بن لُحَي الخزاعي. فيروي اليعقوبي أن عمرو بن لحي سار إلى الشام للتداوي، فرأى أهلها يعبدون الأصنام، فقال لهم: ما هذا الذي تعبدون؟ فقالوا: نستنصرها فتنصرنا، ونستسقي بها فنسقى بها. فاستقدم منها صنما يقال له هُبَل، ووضعه عند الكعبة.

وقد اتسع نفوذه عند ولايته على مكة، حتى صارت العرب على العقيدة الجديدة، وحلت محل العقيدة التي دعا لها إبراهيم وإسماعيل، ونُصب هُبل في قلب الكعبة، فاحتج العرب من قبيلة جرهم. فينسب لشحنة بن خلف الجرهمي قوله:
يا عَمرُو إنكَ قد أَحدثتَ آلهةً .. شَتَّى بمكةَ حولَ البيتِ أنصابا
وكانَ لِلبيتِ رَبٌّ واحدٌ أبدًا .. فقد جعلتَ له في الناسِ أربابا
أصبحت مكة وبيتها المعظم مكانا تقدسه العرب، فكانت القبائل تشد لها الرحال من كل مكان للحج كل عام، وأصبح الحج موسما للنشاط الاقتصادي، فأصبحت مكة مركزا دينيا وتجاريا، وذلك ما جعلها محط أطماع القبائل القوية.
قصي بن كلاب.. رجل ذكي منح قبيلته كنزا عظيما
قبل ظهور الإسلام بزمن طويل، سكنت قبيلة قريش مكة، وسيطرت على المكان، وأصبحت الكعبة تحت وصايتها.
يقول جورجي زيدان في كتابه “تاريخ التمدن الإسلامي”: كانت مكة أشهر مدن الحجاز، لاتخاذها محجا يؤمه الناس من أقاصي البلاد لزيارة الكعبة، فأصبحت بتوالي الأجيال مركزا للتجارة، يتوافد إليها الحجاج في المواسم كل عام، فطمحت إليها أنظار أهل السلطة من القبائل القوية.
وكانت في أوائل أزمانها في حوزة الحجازيين بني إسماعيل، وهم سدنة الكعبة أي حجابها، ثم نزح إليها بنو خزاعة من اليمن بعد سيل العرم، نحو القرن الثاني للميلاد، وتسلطوا عليها، وغلبوا الحجازيين عليها.
وكان الإسماعيليون أو العدنانيون يومئذ ضعافا لا يقوون عليهم، ولكن قُضي عليهم كما قضي على سواهم، فدارت الدائرة بعد عدة أجيال على بني خزاعة وضعف أمرهم، وقوي أمر العدنانية، فتفرع منهم كنانة، وتشعب من كنانة قريش. انتهى كلام جورجي زيدان.
وحسب الكتاب ذاته، فقد كان قصي بن كلاب بن مرة سيد قريش في القرن الخامس الميلادي، وكان ذا حكمة ودهاء سياسي، فتزوج ابنة القائم بأمر الكعبة آنذاك، وهو من قبيلة خزاعة، طمعا في منصب الولاية على ذلك البيت المقدس.
وحين توفي القائم على سدانة الكعبة، تسلم الولاية عليها ابن له، فاحتال عليه قصي بن كلاب، ليسلمه سدانة الكعبة، وحينها تحولت ولاية الكعبة من قبيلة خزاعة إلى قريش.
ثم ورث السدانة من قصي ابنه عبد مناف، ثم أوصى بها قبل وفاته لابنيه هاشم وعبد شمس، لكن هاشما استأثر بها وحده، وورثها من بعده ابنه عبد المطلب، وهو جد الرسول محمد ﷺ.
عصر قريش.. عاصمة التجارة والعبادة في بلاد العرب
يقول جورجي زيدان في كتابه “تاريخ التمدن الإسلامي”: كانت قريش أهل تجارة، وتجارتهم قائمة أكثرها على الحجاج الذين يردون مكة، فكان من مقتضيات مصلحتهم تسهيل طرق القدوم وترغيب الناس في الحج.
وفي جملة ما بعث القبائل على زيارة الكعبة، أنه كان لكل قبيلة صنم خاص بها، تأتي في المواسم لزيارته والذبح له، حتى زاد عدد الأصنام في الكعبة على 300 صنم، وفيها الكبرى والصغرى، ومنها ما هو على هيئة الآدمي، أو على هيئة بعض الحيوانات أو النباتات.
فالكعبة كانت مصدر رزق أهل مكة، ولولاها لما استطاعوا المقام في ذلك الوادي وهو غير ذي زرع، على أن أسفارهم ومخالطتهم العالم المتمدن في أطراف العراق والشام، جعلتهم أوسع العرب علما، وأكثرهم خبرة ودراية.
ونظرا لعلاقة الكعبة بأسباب معائشهم، بذلوا العناية في القيام على شؤونها، وسهلوا على الناس القدوم إليها، فأنشؤوا فيها أماكن للسقاية، وأخرى للطعام، وجعلوا ما يجاورها حرما لا يجوز فيه القتال، وتولى بعضهم السقاية، وبعضهم الرفادة. انتهى كلام جورجي زيدان.

أنشأت قريش مناصب لتسيير الكعبة، وكان أعلاها السدانة أو الحجابة، ويتولى ذلك المنصب قرشي بيده مفتاح الكعبة، يفتح بابها للزوار ويغلقها، أما منصب السقاية فيتولى صاحبه سقاية الحجاج من أحواض جلد أقيمت في فناء الكعبة، قبل إعادة حفر زمزم، وأما المنصب الآخر فهو الرفادة، فكانت قريش تخرج مالا وتعطيه للقائم على الرفادة، لإعداد طعام يقدم للفقراء.
شكّلت مكة والكعبة مطمعا للقبائل المحاذية للحجاز، وفي منتصف القرن السادس الميلادي، سار الأحباش نحو الكعبة بفيلتهم من أجل غزوها، وعُرف ذلك العام بعام الفيل، وكان في عهد ولاية عبد المطلب جد رسول الله ﷺ.
عصر محمد ﷺ.. البعثة التي قلبت تاريخ مكة إلى الأبد
مع ولادة سيد الخلق محمد بن عبد الله رسول الله ﷺ في مكة، كانت قريش قد حققت بالكعبة جاها عظيما ومالا كثيرا، وكانوا بحاجة إلى السلم مع باقي القبائل لحماية الكعبة، وأنشأت الحرم حولها، وهي مناطق يحرم فيها القتال.
وينقل الرواة أن الرسول الكريم ﷺ كان قد شارك في إعادة بناء الكعبة، وذلك قبل البعثة بخمس سنوات، وكانت قريش قد تنازعت فيما بينها على شرف وضع الحجر الأسود في مكانه عند إعادة البناء، فحكم محمد ﷺ بينهم في ذلك، ورضيت القبائل بحكمه.
يقول الكاتب جورجي زيدان في كتابه “تاريخ التمدن الإسلامي”: كان النبي ﷺ قبل ظهوره بالدعوة موضع احترام أهل مكة كافة، وأهله يحبونه ويكرمونه، وهو في عيش هنيء.
فأصبح بعد ظهوره بالدعوة وقد ناصبه أهل مكة العداء، وساموه أنواع العذاب وأهانوه، حتى نقموا على بني هاشم، لأنهم أهله، فتعاقدوا على ألاّ يناكحوهم ولا يبايعوهم، وكتبوا بذلك صحيفة أودعوها في جوف الكعبة، فاضطر بنو هاشم أن ينفروا إلى الجبال، فأقاموا في الشعب 3 سنين، لا ينزلون مكة إلا خفية، إلا من جاهر بعداوته للمسلمين، كأبي لهب ونحوه. انتهى كلام جورجي زيدان.

كان الرسول ﷺ يومئذ في حماية عمه أبي طالب، فلما توفي خيف على من دخلوا الإسلام من بطش قريش، فاضطر المسلمين إلى الهجرة، لكن كتب الله لهم النصر، وعاد الرسول ﷺ إلى مكة سنة 8 من الهجرة (630م)، ففتحها وتوجه إلى الكعبة.
﴿جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ﴾.. تحطيم أصنام مكة
يقول الباحث “سيمون بايدج” في كتابه “مكة.. قلب الإسلام المبارك”: يتوافق المعنى الروحي للكعبة مع الأسطورة أو الوحي، ويرتبط دورها -بوصفها مركزا طقسيا للعالم الإسلامي- ارتباطا مباشرا بحقيقة أنها تشكل رابطا حاسما مع النبي إبراهيم، ومع أصول جميع الديانات التوحيدية تبعا لذلك.

لم تدمر الأصنام الموجودة في الكعبة وما حولها إلا بعد فتح مكة على يد النبي ﷺ، وقد ساهم بنفسه في تدمير الأصنام، وهو يتلو قول الله تعالى: ﴿وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ ۚ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا﴾ (سورة الإسراء، الآية 81).
وبعبارة أخرى، فقد أعاد النبي ﷺ مكانة الكعبة والحرم حولها إلى دورها الإبراهيمي الأصلي، بوصفها مركزا للعبادة التوحيدية، ومنذ ذلك الحين، أصبحت الكعبة قلب الإسلام، والوجهة التي يولي لها المسلمون وجوههم، وبقيت بيت الله الحرام في أرضه.