براكين نابولي.. 3 ملايين إنسان تحت رحمة الوحوش النائمة
يُعدّ خليج نابولي من أهم مناطق إيطاليا وأشهرها على الإطلاق، وله مكانة روحية وثقافية واقتصادية متميزة منذ أقدم العصور، لكن سكينة هذا المكان وطمأنينته خادعة، فهو أحد أخطر الأماكن في العالم، والبراكين التي تحيط به من أنشط براكين الأرض.
كيف لا، وهذا جبل “فيسوفيوس” أو “فيزوف” جاثم على صدره منذ بدء الخليقة، يُحرقه بزفراته إذا غضب، ويبث الذعر والترقب في قلوب السكان وهو نائم، ولا يزال الجميع يتذكرون غضبته التي أحرق فيها مدينة بومبي، وأودت نيرانه بحياة الآلاف.
يبدو البركان اليوم هادئا، ويعيش في سفوحه أكثر من 3 ملايين إنسان حياة طبيعية في مدينة حديثة صاخبة، على أطلال ما بقي من عظمة المدينة القديمة، ولكنهم يعلمون أن هذا الوحش النائم قد ينفث سمومه الغاضبة في أي لحظة.
وليس فيزوف وحده هو مصدر الخطر، فالمدينة محاطة بشبكة من البراكين العملاقة لا تكاد ترى، وانفجار أحدها قد يدمر المدينة ويمتد إلى أوروبا، لكن البشر سكنوا هذه المناطق من دون خوف، طمعا في أراضيها الزراعية الخصبة، وثرواتها المعدنية الثمينة.
وبالقرب من نابولي، في جزيرة صقلية يقذف بركان إتنا حممه بانتظام، ويعد من أكبر البراكين التي تنتج غازات الكبريت في العالم. وقد يثور بركان سترومبولي في قاع البحر، فتصل موجاته إلى نابولي في 20 دقيقة. ولهذا يسابق العلماء الزمن للسيطرة على هذه الوحوش، ويراقبون ليل نهار التغييرات التي يمكن أن تدل على ثوران قريب.
الحقول المشتعلة.. شبكة بركانية تغلي تحت السطح
على الجانب الآخر من خليج نابولي يكمن خطر آخر مميت، يهدد حياة 350 ألف نسمة، فتحت السهول الخصبة المنخفضة توجد سلسلة براكين “كامبي فليغري” أو “الحقول المشتعلة”، وهي شبكة من 72 بركانا، تنتشر على مساحة 100 كليومتر مربع غرب نابولي، على اليابسة وتحت سطح البحر.
وهي براكين غير منتظمة، وتكاد لا ترى على السطح، وتصنف من البراكين الهائلة، وتعطي إشارات تحذيرية بانفجار وشيك، ومنها بركان سولفاتارا الخاضع لمراقبة العلماء، وهو ينفث أكثر من 2500 طن من ثاني أكسيد الكربون والكبريت يوميا.
يقول “ماورو ديفيتو” من المعهد الوطني للفيزياء والبراكين: عندما تسير في قاع الفوهة سترى الشقوق تنبعث منها الغازات، وتعمل على تفتيت الصخور وجعلها مسامية هشة، بحيث تبتلع من يمشي عليها، ومع كل هذا يعيش آلاف السكان حول فوهة البركان.
وبقربه يغلي بركان بيشاريلي، وقد اضطر بعض السكان لترك منازلهم ومتاجرهم، بسبب تسرب الغازات الكثيفة داخلها، فرائحة الكبريت النتنة والأملاح المترسبة على الجدران، ودرجة الحرارة التي تفوق 100 مئوية تجعل البقاء فيها مستحيلا.
ينفث بشاريلي أكثر من 600 طن من الغازات يوميا، وقد يشير اختلاف نسب مكونات الغاز إلى اقتراب الصهارة من السطح، ثم اقتراب ثوران البركان. وبعد التحاليل الدقيقة يرى العلماء أن براكين “الحقول المشتعلة” باتت على وشك الثوران، وهو ما يهدد حياة السكان.
بركان كامبانيا.. الصهارة التي بنت مدائن الرومان واليونان
كانت ثورة بركان كامبانيا قبل 15 ألف عام الأكثر إثارة للدهشة، فقد نفثت 300 كيلومتر مكعب من الصهارة، وملايين الأطنان من الصخور البركانية المسامية “الحجر الخَفّاف”، وكانت تلك المقذوفات المدمرة ذات فائدة للرومان واليونانيين، فبنوا مدنهم من تلك الصهارات والصخور.
ومن تلك المدن نابولي ذات الطابع الفريد، ويصفها “كلاوديو سكارباتي” أستاذ الجيوكيمياء وعلم البراكين قائلا: لدينا كنيسة يسوع الجديد، وهي مكونة من شظايا وكتل حجرية، استُخرجت من ثوران كامبانيا، وكذلك كنيسة سانتا كيارا المبنية من حجر طفّ نابولي الأصفر. إنه التجسيد الحقيقي لاستيلاد الإيجابية من رحم السلبية.
وكذلك خزان المياه الضخم، وهو تصميم فريد يبلغ ارتفاعه 15 مترا، وسعته 12 مليون لتر من المياه، وقد استخدم لإمداد الأسطول الروماني آنذاك، وهو مبني في الصخر، لكن عيب طف نابولي الأصفر هو أنه مساميّ، فاخترعوا ملاطا خاصا مكونا أساسا من الرماد البركاني، لسدّ المسامات.
ثورة فيزوف.. هواجس التنّين النائم منذ 80 عاما
أصبح ثوران سلسلة “الحقول المشتعلة” يهدد ما بناه أهل نابولي على مر العصور، وما زال جبل فيزوف يهدد بطغيانه وجبروته أهل نابولي، وما زالت ثورته في 1944 ماثلة أمام أعين الناس، فعلى مدار 11 يوما دمرت حممه قرى كاملة، وقتلت 26 نسمة. وصمتُه منذ ذلك الحين يحير العلماء.
يقول البروفيسور “ديفيتو”: يرى أهل نابولي أن فيزوف هو البركان الأكبر، لقد هيمن على ثقافتهم، أما نحن العلماء فندرس الطبقات الجيولوجية لهذا البركان المدمر، ونكتشف الجديد كل يوم، فالطبقات الجيولوجية مثل صفحات كتاب التاريخ، كل واحدة منها تخبرك عن ثورة من ثوراته، قد تكون أول ثورة قبل 400 ألف عام.
فالطبقات الرمادية المحمرّة تتوافق مع السحب الدخانية التي ارتفعت 6700 متر في السماء، ونثرت الرماد على مساحة شاسعة وصلت إلى كالابريا، لكن صمت فيزوف لم يعد يخدع العلماء، فنشاطه الزلزالي البالغ 700 هزة سنويا يعني أنه ما يزال نشطا، وقد يثور في أي لحظة.
ولكي نفهم ألغاز البراكين وصهارتها ينبغي أن نعود إلى بدء تكوين الأرض، فقبل 250 مليون عام كانت القارات متحدة في قارة واحدة هي قارة “بانغيا”، ومع الأنشطة الجيولوجية انقسمت إلى صفائح تكتونية، مشكّلة القارات التي نعرفها اليوم. وجدير بالذكر أن نصف قطر الأرض يبلغ 6370 كيلومترا، وحرارة قلبها تصل إلى 6 آلاف درجة مئوية.
يكمن هذا النشاط في قشرة الأرض التي يبلغ سمكها 30 كيلومترا، ثم تأتي طبقة الوشاح العلوي بعمق 650 كيلومترا، وهي صخور مذابة تتداخل تياراتها كأنها ممرات متحركة، وتنتج عنها إزاحات في القشرة بمقدار عدة سنتمترات سنويا، خلال ملايين السنين.
تنزلق التكتونات وتنفصل ثم تتصادم، ففي إيطاليا تنزلق الصفيحة الأفريقية تحت الأوراسية، ومع الاحتكاك في نقاط الالتقاء ترتفع درجات الحرارة، فتصهر الصخور في طبقة الوشاح العلوي، مكوّنة الصهارة والغازات التي تصعد بفعل الضغط والحرارة إلى القشرة العليا، مشكّلة بذلك بركانا. وعند الثوران تنطلق الصهارة والغازات لتشكّل التوازن المطلوب في طبقات الأرض، ولكنها قد تسبب الدمار على سطحها.
مونجيبيلو.. وحش ثار 80 مرة خلال القرن الماضي
يعد فيزوف و”الحقول المشتعلة” أخطر تهديدين ينبغي على سكان نابولي التعايش معهما، ولكن على بعد 500 كيلومتر جنوبا يقع جبل إتنا، البالغ ارتفاعه 3340 مترا في جزيرة صقلية، وهو أحد أنشط براكين العالم، وقد ثار هذا الوحش المسمّى مونجيبيلو أكثر من 80 مرة خلال القرن العشرين.
يزور العالم “يوجينيو بريفيترا” الموقع لتحليل الانبعاثات البركانية، ويتحدث قائلا: هناك حصى هش مليء بفقاعات الغاز، ورماد بركاني ناعم جدا، وهناك مقذوفات بحجم سيارة صغيرة، ويشكل هذا البركان فوهات جديدة باستمرار، أحدثها “بوكانووفا” التي تشكلت عام 68م، وتنبعث منها الغازات باستمرار، ويعد إتنا أكبر منتج للكبريت في العالم، بواقع 4 آلاف طن من ثاني أكسيد الكبريت يوميا.
ولكن لماذا ينشط إتنا أكثر من مثيلاته في خليج نابولي؟ السبب أنه يقع على ملتقى عدة صفائح تكتونية؛ الأفريقية والأوراسية والتيرانية والألونية، وهذه المعارك الجيولوجية تولّد كثيرا من الصهارة، وهي خفيفة وبها كثير من الفقاعات الغازيّة التي تجعلها أنشط من صهارة فيزوف الكثيفة اللزجة.
على أن أحد أهم الاكتشافات هو التغير الكيميائي للصهارة على مدى العقود الماضية، وزيادة نسبة البوتاسيوم، وهو ما يفسر ارتفاع النشاط الانفجاري، على حساب النشاط التدفقي خلال السنوات الماضية.
يقول العالم “فليبو غريكو”: التغيرات في حقول الجاذبية الأرضية هي من المعايير التي تساعدنا على دراسة النشاط البركاني، وجهاز الجاذبية الدقيق يساعدنا على قياس تغيرات حقول الجاذبية، وبناء عليها نحدد حجم الصهارة تحت القشرة، ومدى جاهزيتها للانفجار.
جبل إتنا.. متحف علمي في الهواء الطلق
يبقى إتنا الأكثر مراقبة في العالم، ويتوزع العلماء على المختبرات المبثوثة في أنحاء الجبل، ومع كل هذا فأدوات القياس الكثيرة لا تكفي للتكهن بسلوك هذا التنّين الجبار الذي يبلغ عمره 1.5 مليون عام، وتبلغ مساحة سطحه 1200 كيلومتر مربع.
على الجانب الآخر من إتنا، يمكن أن نقرأ صفحات من تاريخه في وادي بوفيه، إنه متحف علمي في الهواء الطلق، أما جيولوجيًّا فهو انخساف ضخم عرضه 5 كيلومترات وطوله 10 كيلومترات، وقد أتاح للعلماء فهم أعماق البراكين التي نشبت قبل 100-160 ألف عام، وقبل هذا الانخساف كان بوفيه بركانا عملاقا، وعندما انهار على نفسه نشأت تشكلات من الصهارة على شكل شفرات ضخمة تدعى “السدود”.
وهذه السدود تساعد على إعادة تمثيل تشكُّل البركان، وبفضل نشاط إتنا المستمر يتابع العلماء دراسته يوما بيوم، ورصد أدق التغيرات التي تؤشر لثوران محتمل.
مارسيلي.. سيد البراكين الأوروبية الغائصة في البحر
على بعد كيلومترات شمال جبل إتنا، تقع براكين غائصة في البحر، منها بركان مارسيلي، وهو أكبر البراكين الغائصة في أوروبا على عمق 3500 متر، وكان العالم “فرانشيسكو إيتاليانو” قد اكتشف هذا النشاط البركاني تحت الماء صدفةً عام 2000.
تظهر فقاعات على السطح من ثاني أكسيد الكربون وكبريتيد الهيدروجين، ولدى تتبعها في الأعماق اكتشف العلماء أن البركان الذي توهموا خموده منذ 600 ألف عام ما يزال نشيطا ومؤهلا للثوران من جديد.
وهنالك “دواخن” معدنية على عمق 70 مترا تحت سطح الماء، يغلب على تركيبها الحديد، وهي المسؤولة عن انبعاث الفقاعات الساخنة إلى السطح.
سترومبولي.. منارة المتوسط وأحد أنشط براكين الأرض
قرب جزيرة بناريا، يظهر بركان آخر يخشاه الناس منذ قرون، وهو سترومبولي؛ أحد أنشط البراكين على الأرض، يقذف حممه المتلألئة ليلا ونهارا، ويسمى منارة المتوسط، ويبلغ ارتفاعه 926 مترا.
وفي الجانب الشمالي من الجزيرة جرف “شيارا ديل فووكو” أو حفرة النار، وهو انخساف بطول وعرض كيلومتر واحد، وكان مسرحا لحدث مثير في عام 2002، فقد انهارت منه 20 مليون متر مكعب، وانزلقت في البحر دفعة واحدة، مما أحدث موجة تسونامي بلغت ارتفاعها 6 أمتار، وامتدت إلى نحو 40 كيلومترا حول الجزيرة.
وقد طوّر العالم “ماورو روسي” رادارا لمراقبة نشاط هذا الجرف، ومقارنة صوره على مدار الساعة، ويستدعي بذاكرته ما حدث في خليج نابولي في القرن الـ14، حين طفت جثث الموتى على مياه الخليج، ويفسر ذلك بأنه يمكن أن يكون تسونامي مشابها لما حدث في 2002.
وبعد البحث في طبقات الأرض تحت قرية سترومبولي، عُثر على طبقة بركانية رقيقة، وبقياس نصف العمر الإشعاعي للكربون تبين أن هذه الطبقة تعود لنفس الحقبة التي حدث فيها زلزال القرن الـ14، مما يعني أن تسونامي قد ضرب في تلك الحقبة، وهو ما يهيئ المنطقة لتكون مسرح حدث مماثل في أي لحظة.
تستغرق موجة تسونامي نحو 20 دقيقة لتصل إلى خليج نابولي، أي أن 3 ملايين إنسان يعيشون تحت رحمة هذه الوحوش المدمرة النائمة، التي قد تنقضّ عليهم في أي لحظة، ويحدث لهم ما حدث لمدينة بومبي قبل حوالي ألفي عام، وتحديدا سنة 79م، حين استيقظ فيزوف من سباته، وأحرق المدينة بكاملها.
بومبي.. المدينة التي أثارت غضب فيزوف
بعد قرون من الحفريات، تقدم بقايا مدينة بومبي مخزونا غنيا من المعلومات، ويدرس أستاذ الجيوكيمياء وعلم البراكين “كلاوديو سكارباتي” طبقات جيولوجية وجدها في نهاية الطريق الروماني القديم، الذي يشق وسط المدينة.
فهنالك طبقتان رئيسيتان؛ أما السفلية فهي تتكون من الخَفّاف المساميّ، ثم هنالك فاصل كبير تعلوه طبقة عليا مكونة من عدة طبقات من الرماد البركاني. لقد ألقى البركان في ثورانه الأول كميات من الخفاف والرماد تعادل 50 ألف قنبلة ذرية مثل تلك التي ألقيت على هيروشيما.
فقد ألقيت 10 مليارات متر مكعب من الأحجار البركانية والغازات، وارتفع عمود في السماء لأكثر من 32 كيلومترا، على شكل شجرة صنوبر مميتة عملاقة، كما وصفها الكاتب “بيلينيوس” آنذاك، وهطلت الحجارة على سكان بومبي الذين لم يستطيعوا من الهرب، فتحولوا إلى تماثيل حجرية في لحظات.
وفي اليوم التالي جاءت المرحلة الأشد فتكا من البركان، فتدفقت الحمم المنصهرة بسرعة تجاوزت 240 كيلومترا في الساعة، وقد مات كثير من الناس اختناقا بالغازات والرماد البركاني، وذلك ما تقوله الأجساد المتحجرة التي وجدت في آثار المدينة المدمرة.
وبعد أن شهد الناس ثوران 1944، وعلموا أنه لم يكن بنفس القوة التي حدثت عام 79م، ظن معظمهم أن فيزوف خمد، ولم يعد قادرا على تكرار مأساة 79، لكن العلماء -ومنهم “سكارباتي”- يؤكدون أن البركان لم يهرم، وأنه مستعد في أي لحظة لتكرار الفاجعة.
وتتجه أنظار العلماء نحو “الحقول المشتعلة”، وتتسلح “إنريكا ماروتا” بكاميراتها الحرارية الليلية لتراقب بركان “بيشاريلي” المضطرب، فهذه الكاميرات تستطيع تصوير مستويات الطاقة، ودرجات الحرارة، وكمية الغازات المنبعثة من غرف الصهارة والدواخن، لقد بلغت الحرارة 85 درجة مئوية، لذا يستحيل الذهاب إلى هناك، وسيرسلون الطائرات المسيرة بدلا من ذلك.
اختلاج الأرض.. عندما تتنفس البراكين وينبعج السطح
يسجل العلماء ظواهر جيولوجية أخرى غير البراكين المباشرة، منها ما يسمى “اختلاج الأرض”، فنتيجة اختلاف تركيز الغاز في غرف الصهارة تحت السطح، يمكن أن تحدث هزات أرضية في نقاط متعددة، تؤدي إلى تغيير شكل السطح، وإذا انخفض تركيز الغاز يحدث انبعاج في السطح، ويتكرر هذا الأمر، فتنشأ ظاهرة تسمى “تنفس البراكين”.
وقد شهدت مدينة بوتسوولي في الثمانينيات مثل هذا الاختلاج، ويخشى أن يتكرر ذلك بصورة أشد، وتعمل فرق الأمان مع العلماء على مدار الساعة، وتضع خطط الإخلاء والإنقاذ، تحسبا لوقوع المحذور.
ولكن ليست مقدرات الإخلاء هي المشكلة الوحيدة، بل هناك معوقات عاطفية، فكثير من المواطنين يرفضون ترك منازلهم وأراضيهم، ويفضلون أن يواجهوا الخطر المحقق أو الموت إن لزم الأمر، من دون أن يتركوا بيوتهم التي ولدوا ونشؤوا فيها، فالبركان في نظرهم يترك دمارا شاملا، ولكنه يوفر أسباب الحياة أيضا.