“حرير من بلاد فارس”.. رحلة لإنقاذ مهنة الفرس العتيقة منذ آلاف السنين

دودة القز وخيوط الحرير

يمكننا أن نتعرّف على تاريخ البلدان والحضارات من زوايا عدة؛ ما تُخلّف من مصنّفات وآثار وفنون، أو ما يرسخ من تراثها المادي وغير المادي.

وللحضارة الفارسية تاريخ ندركه من خلال العمارة الأخمينية والعيلامية، التي يعود تاريخها إلى ألف سنة قبل الميلاد، أو من خلال نقوشها التي نُحتت على الصخور، لتخلّد انتصارات الملوك الساسانيين، أو ندركها عندما ننظر إلى إسهاماتها في الأدب والفلسفة، التي لا تزال تؤثر في الثقافة العالمية حتى اليوم.

لكن فيلم “حرير من بلاد فارس” -الذي أنتجته الجزيرة الوثائقية- يقترح علينا مسارا مختلفا، لمعرفة شيء من تاريخ بلاد فارس، وشيء من سمات حضارتها؛ ألا وهو صناعة الحرير.

إن صناعة الحرير والتطريز البديع والتحكم بالألوان وتطويعها، إنما هي مؤشرات على الرخاء الذي عاشته الحضارة الفارسية على مر عصورها، ويؤكد محتوى الزخارف هذا المعنى، بما يشكّل من مشاهد صيد، أو من رموز نباتية وحيوانية تتعايش في سلام فردوسي.

ولأهمية صناعة الحرير، جعلت قصيدة “الشاهنامة” -التي تصور تاريخ الفرس منذ العهود السحيقة- الدودةَ من شخصياتها الملحمية، فقد تعاطفت مع فتاة بائسة، وساعدتها في غزل الحرير، فكافأتها الفتاة بإطعامها، فأنتجت حريرا وافرا أثرى المدينة بأسرها.

صناعة الحرير في إيران حرفة ذات جذور ضاربة في التاريخ

وتعود بدايات إنتاج الحرير في بلاد فارس إلى ما قبل الميلاد، بعد تهريب دودة القز من الصين فيما يبدو، وتكشف مراحل صناعته من التربية والغزل والصباغة وفنون التطريز وأشكال الزخارف مكتسبات معرفية كثيرة، بقدر ما تكشف ثراء البلاد الثقافي، فكل منطقة تمتاز بتصاميم ليست في غيرها، فتشير إلى هويتها.

ومع أنّ المصنّفات الإيرانية تترك فراغات كثيرة من قصة الحرير في البلاد، فإن المؤرخين وجدوا في النّصوص الصينية وكتابات الرحالة الغربيين بعض أصدائه، مثل وصف طبيعة صناعته أو أشكال تصاميمه.

اندثار المهنة.. صناعة ضربتها مآسي العالم وحروب إيران

يبدأ الفيلم بتشخيص أزمة إنتاج الحرير في إيران، فقد اجتمعت عوامل كثيرة جعلت البلاد تفرّط في صناعتها النبيلة، منها الاحتباس الحراري، فقد تسبب بتراجع غابات شجر التوت التي يتغذّى الدود من أوراقها.

ومنها الحروب الكثيرة التي انخرطت فيها إيران، وما خلّفت من حصار اقتصادي ضُرب على منتجاتها، ومنها عدم تدخّل الدولة لإنقاذ هذه الصناعة ودعمها، فهي ليست من أولوياتها.

حبيب يوفر ورق التوت لدود القز الذي ينتج خيوط الحرير

ونتيجة لذلك كله، اختفى كل هذا الماضي المجيد، ولم يبق إلا المزيفون الذين يروّجون في الأسواق مزيجا من النيلون والصوف على أنه حرير خالص.

ولأن هذه الصناعة على صلة عميقة بالفخر الإيراني، يجعل الفيلم تدهور الحرير منذ الثورة إلى اليوم، حافزا يدفع شخصياته إلى الفعل، ومنهم الشاب حبيب كارماتلو.

حبيب كارماتلو.. شاب هجر المدينة وعاد لمهنة الأجداد

جرّب حبيب كارماتلو الالتحاق بالمدينة كعامة نظرائه، لكنه لم ينسجم مع أجوائها، ولم يجد المهنة التي تناسبه، فقرّر العودة إلى قريته كولستان، التي تبعد 500 كيلومتر غرب طهران، لإحياء مهنة الأجداد بعد أن أخذت في الاندثار.

حبيب يدرب زوجته زهرة على استعمال النول ونسج خيوط الحرير

كان على حبيب أن يواجه مختلف العراقيل؛ الطبيعي منها والبشري. فغابات التوت تندثر، وبرد الشتاء القارس يقتل ما يزرعه من الأشجار لتعويض القديمة المتهالكة، وزوجته الشّابة زهرة لا تنسجم كثيرا مع حياته القروية، فكلّما شعرت بالملل ضغطت عليه للعودة إلى المدينة.

ومع ذلك فقد أنشأ ورشة صغيرة وجعل معارفه القدماء عونا لمواجهة رهانه الصعب، مع مؤازرة من زوجته وجاراتها اللاتي أقنعتهن، ثم كان عليه أن يجمع بين اختصاصات كثيرة؛ فيربي الدود، ويفك خيوط الحرير، يجهّزها ويتولى صباغتها، ثم ينسجها.

علي وآزاده.. 20 عاما من الترحال في آخر قرى الحرير

لا يقل شغف آزاده -وهي فنانة مختصة في التصميم- وزوجها عليّ بصناعة الحرير عن شغف حبيب، فهما يجعلان من محاكاة صناعته القديمة وتصميم ملابسه بلمسات معاصرة مصدرا لقوتهما، بل إنهما حوّلاه إلى التزام وقضيّة.

فقد عملا أكثر من 20 عاما على إنقاذ خبرات صناعة الحرير من الضياع، وقرّرا أن يواجها جميع التحديات الجسام، ومع أنّهما ينحنيان أحيانا للعواصف، ويغلقان محلهما بسبب الصعوبات، فإنهما سريعا ما يعاودان المحاولة.

جودة الصناعة التقليدية اليدوية للحرير تعجز الآلات الحديثة عن محاكاتها

يسافر الزوجان في أرجاء إيران المترامية، ويقصدان القرى التي ظلت تنتج الحرير، ويبحثان عن ما بقي من مهارات لدى النساجين، وذلك لقناعتهما التّامة بأنّ تميّز صناعة الحرير الإيراني يعود إلى عاملين؛ جودة الصناعة التقليدية اليدوية التي تعجز الآلات الحديثة -على تطوّرها- عن محاكاتها، والاعتماد على الألياف الطبيعية التي تنبض بالحياة، وتضفي روحا خاصّة على كل منتج بعيدا عن المواد المصنّعة.

يجعل الفيلم خطّي حبيب وآزاده يتوازيان، فيعرض في مونتاج تناوبي مغامرتيهما، ولكنّ خط الإنتاج وخط الفن والاستثمار يلتقيان في النهاية، لتكون الشراكة بينهما ناجعة، ولتكون القصّة مشوقة أيضا.

صناعة معتّقة ترفض رياح الحداثة

لكي تكون الرّحلة تامة في عالم الحرير، يأخذنا الفيلم إلى مراحل إنتاجه، فتمثل تربية دودة الحرير أول حلقات السلسلة الطويلة، حين تكون يرقة صغيرة تعيش على أوراق التوتة حالما تفقس، ثم تبدأ في التّحول إلى فراشة، فتغزل شرنقة تمكث فيها لأسبوعين، وعندها لا بد من “الاستيلاء” على هذا المسكن المشكّل من خيوط حريرية، قبل أن يُثقب، وقبل أن تصبح الشرنقة غير صالحة للاستعمال.

ثم تبدأ رحلة صناعة الحرير، فتُغسل تلك الشرانق بدقة بالماء المغلي، ثم تُلف للخيوط بتركيز شديد ومهارة عالية، يشبههما الفيلم بالعرض الساحر، ثم تصبغ.

غلي شرانق دودة القز بالماء الساخن يسمح باستلال خيوط الحرير منها

ولا بدّ في الصباغة من اعتماد المواد الطبيعية، مع أنها تستغرق 10 أيام، لكنها تدوم قرونا كثيرة لا تطالها أيدي التغيير، أما الصناعة الحديثة فتستغرق نصف ساعة، لكن ألوانها تتغير بعد بضع سنوات. وليس هذا الامتياز مجانا، فالصباغة تقتضي غسلا يدويا بالماء البارد عدة مرات مضنية، لا سيما أيام الشتاء الشديدة البرد في تلك الرّبوع.

وللنسّاجين أن يعتمدوا الآلات الميكانيكية، ولكن الحرير المنسوج يدويا يبقى المفضّل على نطاق واسع في جميع أنحاء العالم، فتنسج القطعة من جهة القفا، وتعتمد مرآة مثبتة على النول لتبرز الوجه، وتُعتمد الحيل الكثيرة عندئذ، كأن ينقع الحرير في النشاء لتزداد الخيوط سماكة، وتكون أسعاره مرتفعة.

آزادة ياسمين، فنانة ومصممة أزياء

فهو ليس قطعة لباس أو سجّادة بل أثرا فنيا، تتوارثه الأجيال مئات السنين، لا سيما ما كان منه بديع الزينة رفيع النسج، ومنه الخيوط التي توشى بالذّهب، وتسمى الحرير المقصّب، وهي من أغلى الأنواع.

بعد ذلك تأتي مرحلة التسويق، ولكلّ اختصاص من الاختصاصات التي ذكرناها اختصاصات فرعية، أغلبها يدوي.

تدهور الأشجار وضعف المردود.. عقبات الطريق

من أسباب تدهور صناعة الحرير، فقدان الدود المنتج للمواد الأولية، بسبب تقلص مساحات غابات التوت، بسبب الإهمال، فلا يُجدد ما شاخ منها، أو بسبب شدة البرودة التي تقتل الأشجار الحديثة.

والمفارقة اليوم أن إيران التي تعد منتجا تقليديا للحرير باتت حريفا وفيا للحرير الصيني، ولكن في مشاكل قطاعات نجاة لقطاعات أخرى، فمشكلة التعرية بسبب انجراف التربة بفعل الحرث جعل مساحات كثيرة غير صالحة لزراعة القمح اليوم، وبالمقابل تسهم شجرة التوت في تثبيت التربة، ولا يتطلب غرسها أسمدة ولا مبيدات.

انحسار زراعة شجر التوت أثر سلبا على إنتاج الحرير الطبيعي

ولتدهور هذه الصناعة أسباب أخرى غير مباشرة، نلمسها في تجربة إخوة من كاشان، يعملون في غزل الحرير ونسجه منذ 50 عاما، وكان حبيب قد قصدهم ليتعلّم منهم تقنيات جديدة، وليحصل من مصانعهم التقليدية الأصباغ التي يحتاجها، ولا يجدها في بلدته أو في البلدات المجاورة لها.

ولكنهم على خبرتهم الكبيرة لا يسدون بحرفتهم حاجاتهم، بل تتدهور أوضاعهم المادية يوما بعد يوم، فيذكر أكبرهم بأسف أنه كان يمتلك 8 أنوال كاملة، ولكن لم يبق منها اليوم سوى نصفها، ولعلّ هذا الأمر يفسّر عزوف الشباب عنها.

تنسج القطعة من جهة القفا وتعتمد مرآة مثبتة على النول لتبرز الوجه

وكما يشقى حبيب بسبب شغفه، يشقى الزوجان آزاده وعلي في رحلة صناعة الأقمشة الحريرية، فلا بدّ لهما من استئجار مشغل، ومن استقطاب نسّاجات وتدريبهن، ولكن من بين العاملات أفغانيات لا يجدن تصريح عمل، وإقصاء العاملات على الهوية مناقض لمبادئ الزوجين.

نجاح الرهان.. طريق الحرير المليء بالأشواك

لا يخفي الفيلم تعاطفه مع شخصياته ومع رحلتها بحثا عن استعادة مجد صناعة الحرير الإيرانية، ويتجلى ذلك في حبكة الفيلم، فيجعل البداية رهانا صعبا يرفعه كل حبيب وعلي وآزاده، ويجعل الوسط صراعا عاتيا ومواجهة لعراقيل شتّى. ولن يتسنى للأفراد أن ينقذوا قطاعا كاملا يتهاوى بحجم قطاع الحرير في إيران.

ومع ذلك جعلت النهايةُ مغامرة الشخصيات قصة نجاح ملهمة ونموذجا يحتذى، ومثلت مكافأة للمجتهدين، فمع أن حبيب لا يزال يواجه عنتا في نسج الزخارف المعقدة، فقد أبدى مهارة بعثت التفاؤل في روح معلّميه، واكتسب قدرا من الخبرة التي بحث عنها في أرجاء البلاد الواسعة.

حبيب يقصد مدينة “كاشان” ليحصل من مصانعها التقليدية على الأصباغ النادرة

كما استطاع علي إحياء المهنة في القرية بفضل دعم نسائها، وبنى مشروعه الجديد على البعد الاجتماعي، فأرسى اتفاقيات مع العاملات، تأخذ مصالح شتى الأطراف بعين الاعتبار، بعيدا عن شرَه المستثمرين وجشعهم.

وبعد حملات الترويج ضَمن عملاء مخلصين يثقون بمنتجاته، وأضحى يتلقى الطلبات الكثيرة، حتى أنه جلب اهتمام بعض العلامات التجارية المشهورة.

“مهجور تماما كالأشياء التي فنيت”.. رمزية شعرية

لكي ينقل الفيلم الشغف إلى المتفرّج، كانت الكاميرا تعوّل على لقطات إدراج تأخذنا إلى التفاصيل وتجعلنا نعيش المغامرة بأنفسنا، فتنسجم هذه المعالجة الفنية مع البعد الشعري الذي يكتنف العرض، لا سيما في مشاهد النهاية عند تصوير الإعلانات الترويجية لمنتجات علي وآزاده.

المشغل يستقطب النسّاجات ويدربهن

تصف المصممة فضاء التصوير عبر صوت يردنا من خارج الإطار، فتقول: مهجور تماما كالكثير من الأشياء التي فنيت، كاللغات التي اندثرت، والصروح التي هدمت، والملابس التي انقرضت، وفي الماضي كان بحيرة تغمرها المياه، ولكنها جفت تماما الآن.

لكن العارضة التي ترتدي ملابس آزاده تسمى “داريا” وتعني الموجة العارضة، والحرير الذي ينتشر في الفضاء يحاكي الموجة المتقلّبة، فيشخص عبر الرّمز حلم الشخصيات باستعادة البحيرة التي جفّت وانقطعت عنها الحياة.

انتصار الحرير.. معركة مظفّرة وجرح يظل نازفا

استطاعت شخصيات الفيلم رفع التّحدي، وبعث بعض الحياة في صناعة الحرير ببلاد فارس، لكنهم يعانون من الجراح العميقة، فكل حلقات سلسلة صناعة الحرير تقترن بالمعاناة والتّضحية، فالمربّون يشقون في جمع أوراق التوت، والصبّاغون يواجهون تجمد المياه في البرد القارس، ثم يظل الجميع يعيش الفاقة، في حين تُباع منتجاتهم بمبالغ خيالية، وتدرّ على التّجار أموالا وفيرة.

الحرير المقصّب، خيوط حرير موشحة بالذّهب

أما آزاده الفنانة الرقيقة فتعاني من تأنيب الضمير، فهي تدرك أنّ هدفها نبيل، ولكنه لا يتحقّق إلا بقتل ملايين الديدان، والاستيلاء على شرانقها، وتحويلها إلى حرير، ثم لا يكتسب الحرير لونه السّاحر إلا بقتل آلاف الحشرات، لاستعمالها في الصباغة.

عارضة أزياء ترتدي ملابس آزاده

الأدهى أنّ الفخر الوطني يمثّل حافزها الأساسي لإحياء صناعة الحرير في إيران، ولكن العقوبات تمنعها من ترويج منتجاتها إلا بطرق ملتوية، كأن تعرضها تحت الرّاية التركية. ولكن هل غايتها كسب المال فحسب؟ وكيف ستستمر في إنقاذ هذه المهنة بدون أموال إن هي رفضت قانون اللعبة الجائر؟

تلك هي الحلقة المفرغة التي تنغّص عليها نجاحها، وذلك هو جرحها الذي يظل نازفا.


إعلان