“حين يحلّ الصمت”.. استراحة التقطت فيها الحياة البرية أنفاسها

تسبب الإغلاق الكبير الذي صاحب جائحة كورونا في 2020-2021 بخلق فجوة غير متوقعة في حياة البشر، فالشوارع خاوية والمدن في سكون تام، ونحو 3 مليارات إنسان معزولون داخل منازلهم.
لكن لم يكن ذلك واقع جميع سكان الكوكب، فالحيوانات البرّية راق لها الجوّ، وهامت بحرّية في طرقات مدن العالم، والتقط لها الناس صورا فريدة، كأنها من الخيال، فرأينا الطاووس والماعز والغزلان والخنازير البرّية والثعالب والنموس، وهي تجوب طرقات العواصم العالمية مثل لندن وباريس ومدريد، وكأنها تعيش لوحدها فيها.
إغلاقات كورونا.. فرصة الحيوانات البرية للانطلاق
خلال مدة الإغلاق الإلزامي أثناء جائحة كوفيد، وجدت الحيوانات البرية فرصتها للانطلاق بحرية في شوارع المدن الكبيرة، ومارست نشاطات لم تكن لتخطر على بالنا في الأيام العادية.
حتى أفراس النهر في جنوب أفريقيا غادرت الماء، لتتجول في الحدائق ذات الضوء الخافت، وسجّل الهواة بكاميراتهم ذات الأشعة تحت الحمراء مشاهد طريفة، لم يكونوا يأملون رؤيتها لولا إغلاقات كوفيد.

تباطأ النشاط البشري تلك الأيام إلى مستوى غير مسبوق، وأُطفئت الأنوار في المدن والضواحي، لقد كشف ظلام المدن قيمة العتمة في الطبيعة البرّية.
ففي البرازيل فقست مئات السلاحف الخضراء على الشواطئ التي كانت تزدحم بالبشر عادة. وفي تايلاند انتشرت السلاحف ذات الظهر الجلدي على الشواطئ التي كانت تكتظ بالسياح، وهذا ما حدث على شواطئ إندونيسيا والهند وتركيا.
التلوث الضوئي.. تمدين يمنع السلاحف الخضراء من وضع بيضها
خلال القرن الماضي، اختفت السلاحف من جزيرة ريونيون الواقعة في شرق أفريقيا قرب موريشيوس، بسبب الصيد وتمدين خط الساحل، فكان وصول بعض السلاحف الخضراء في زمن الإغلاق أمرا مدهشا.
يقول عالِم المحيطات “ستيفان تشيتشيوني”: تحتاج السلاحف إلى العتمة لوضع بيوضها، وهذا هو الشاطئ المعتم الوحيد في المنطقة، لذا تتردد عليه السلاحف لوضع بيضها.

يعمل “ستيفان” منذ عقود على إعادة تأهيل شواطئ ريونيون، بهدف إعادة جذب السلاحف للبيض والتفقيس فيها، وهو يُحسّن الغطاء النباتي الذي يحدّ من أضواء البناء على الشاطئ. ويختار النباتات بعناية، فمنها أنواع محددة هي التي تجذب السلاحف إلى الشواطئ لوضع بيضها.
وحتى المصابيح التي يستخدمها طاقم الحماية، ينبغي أن تكون غير مؤثرة على وضع البيض، ومع كل هذه الاحتياطات فلا يوجد سوى سلحفاتين تضعان بيضهما على شواطئ الجزيرة، لكن “ستيفان” ما زال متفائلا بأن الأوضاع ستتحسن، حتى لو استغرق الأمر 30 عاما أخرى.

بعد أن تضع السلاحف البالغة بيضها، تعود إلى البحر مهتدية بضوء القمر والنجوم، لكن الأمر ليس كذلك لدى السلاحف حديثة الولادة، التي تجذبها الأنوار الصناعية، وتشتت مساعيها في العودة إلى البحر، وتبدد قواها في السير على غير هدى حتى تنفق.
ويستدعي ذلك توفير ظروف ملائمة على الشواطئ، لوضع البيض وفقسه، ثم عودة السلالات الحديثة إلى البحر.
طيور تضِل طريقها إلى البحر بسبب الأضواء الصناعية
الطيور المهاجرة حساسة تجاه الأضواء الساطعة، ويهاجر ثلث الطيور ليلا، وتسلك مسارات يعززها نور القمر والنجوم.
ففي جزيرة ريونيون، وفي أبريل/ نيسان من كل عام، تحدد طيور النوء الصغيرة مسار حياة نوعها، عندما تفقس بيضها في جروف غرونفينار، وهي أعلى قمة في الجزيرة، ويبلغ ارتفاعها 2900 متر.

لكن أكثر الفراخ تجذبها أنوار المدينة وأضواء الملاعب الساطعة، فتضل طريقها وينهكها التعب، حتى تقع فريسة للكلاب الضالة.
وأما الطيور البالغة فتحرص على إطعام صغارها وإعدادها لرحلة بحرية شاقة مدتها 5 سنوات، تعود بعدها طيورا بالغة إلى وطنها الأول في ريونيون، وتشرع في حفلات التزاوج ووضع البيض، في حلقة جديدة من مسيرة حياتها.
تضع الأنثى بيضة واحدة كل موسم، وذلك ما يعرض هذا النوع من الطيور للانقراض، ولأنه طائر ليلي، فإن العلماء يستخدمون الكاميرات التي تعمل بالأشعة تحت الحمراء، لتصوير نشاط هذه الطيور، من دون إزعاجها بالأشعة المرئية.

ومنذ 10 سنين، تحرص السلطات في جزيرة ريونيون على إطفاء أنوارها في الليالي التي تستعد فيها الطيور لبدء رحلتها الطويلة، كي لا يشتتها “التلوث الضوئي” عن طريقه البحري المرسوم.
وينقذ المتطوعون في شوارع الجزيرة نحو 3 آلاف طائر سنويا، ويعيدونها إلى مسار هجرتها، ويتعهدونها بالتغذية وعلاج كسور أجنحتها قبل انطلاقها.
أنوار المدائن.. علامات الحضارة تخنق الحياة البرية
تتزايد أنوار المدن الكبيرة والمناطق الصناعية حول العالم باطّراد، ويحذر العلماء من أن نحو مليون طائر مهاجر يلقى حتفه سنويا، نتيجة اصطدامها بالبنايات الشاهقة، وذلك بسب الأنوار الساطعة التي تصيبها بالعمى.
وتعد مدينة هونغ كونغ الصينية صاحبة أكبر معدل للتلوث البشري على الكوكب، حيث تكون الإضاءة الليلية في السماء أكبر بـ5000 مرة من المعدلات الطبيعية.

أما مدينة نيويورك الأمريكية فتحيي ذكرى برجي مركز التجارة بعمودين من الأنوار الساطعة، يرتفعان في السماء مئات الأمتار، ويمكن رؤيتهما من مسافة نحو 100 كيلومتر، وهذه الأنوار تعيق حركة الطيور المهاجرة من شمال كندا باتجاه أمريكا الجنوبية، طلبا للدفء.
ولا تقتصر الإضاءة المفرطة على المدن الكبيرة، ففي المزارع الريفية يحرص المزارعون على الإضاءة الصفراء الفاقعة، لتسريع نمو مزروعاتهم، كما يحدث في ريف بريتني لتسريع إنتاج الزهور، وعلى بُعد 20 كيلومترا من مدينة ليون الفرنسية، يمكن رؤية هالة ضخمة من النور فوقها في الليل.
ضفدع الطين.. عمى مؤقت يعوق تلبية نداء التكاثر
في المركز الوطني للبحوث العلمية في ليون يدرس “تييري لانغنيه” تأثير التلوث الضوئي على ضفادع الطين، وهي مخلوقات تفوق شدة إبصارها البشر بنحو 5000 مرة، ولذا فهي حساسة للضوء، وتُجلب من وادٍ مظلم سحيق، على بعد 100 كيلومتر من ليون الفرنسية.
وفي موسم التزاوج، تأتي الذكور من الغابة إلى ضفاف البرك، لملاقاة إناث أكبر حجما بأضعاف، وبعد التزاوج تنزل الإناث إلى البركة لوضع البيض، وتعود الذكور إلى الغابة.

في المختبر وجد “لانغنيه” أن الأزواج المعرضة للعتمة الطبيعية تستمر في عملية التزاوج، ويكون معدل تلقيح البيض كبيرا، وأما الذكور التي تتعرض للضوء فيصيبها اضطراب في عملية التزاوج، ويكون معدل التلقيح أقل بكثير.
كما توصل العلماء إلى أن شدة الضوء تؤثر على أنظمة المناعة، مما يعرّض هذا النوع للتناقص مع مرور الوقت.
وتزداد معاناة هذه الضفادع عندما تعبر الطرقات ليلا، لتلبية نداء غريزة التكاثر، فيصاب أكثرها بالعمى المؤقت بسبب أضواء السيارات، ناهيك عن آلاف منها تنفق تحت عجلات المركبات.
طواحين الهواء تحارب الطيور والحشرات
ليست الضفادع ضحية التلوث الضوئي وحدها، فهنالك مخلوقات ليلية كثيرة تتأثر مباشرة بأنوار الشوارع ومصابيح السيارات، منها بوم الحظائر والخفاش الأرضي، وهي تكثر في البلدان الأوروبية، وقد تقلصت مساحات صيدها بسبب مصابيح السيارات ليلا.
وفي موسم كورونا، انخفضت نسبة الحيوانات البرية التي تموت دعسا كل عام بنسبة 30% على الأقل، حدث هذا لغزلان الموظ، وحيوانات أخرى كثيرة في برّ أمريكا الشمالية وأوروبا.

لكن معدلات الوفيات بأسباب بشرية أخرى لم تتغير، فالمراوح العملاقة التي تولّد الكهرباء من الرياح تتكفل بنفوق كثير من الطيور والحشرات، فهذه المراوح تقتل في أوروبا 200 ألف خفاش سنويا.
فالإنارة التحذيرية أعلى هذه المراوح تجذب الطيور والحشرات، مما يؤدي لاصطدامها بشفرات المراوح وموتها.
مصابيح الإضاءة العامة.. وحش تسبب باختفاء 400 مليون طائر
خسرت أوروبا 80% من حشراتها في أقل من 30 سنة، بسبب الأنوار العامة وعوامل أخرى، وقد تسبب ذلك باختفاء 400 مليون طائر، كان يتغذى على هذه الحشرات التي نفقت، إما بسبب إنهاكها وهي تدور حول المصابيح، أو بسبب احتراقها من حرارتها.
ومن تلك الكائنات فراشة الطاووس العملاقة في باريس، وذباب مايو الذي يعد غذاء رئيسيا لكثير من الحيوانات، وحشرات إيفيميرا المهددة بالانقراض.

فهذه الحشرات النافقة وسط المدن أصبحت غذاء مجانيا لكثير من الحيوانات والطيور، مثل الراكون والخفافيش وحتى البط والعصافير، حتى أن العلماء لاحظوا تضخم جماجم خفافيش المدن عن حجمها قبل 60 عاما.
لكن أنواعا من هذه الخفافيش -لا سيما تلك الحساسة للضوء- قد اضطرب معدل تكاثرها في الآونة الماضية، وذلك بفعل إنارة المباني التي تعدّ مأواها الأساسي. ومنذ بداية الألفية الثانية تراجعت أعداد البوم الأسمر أيضا بشكل ملحوظ.
تحديث أنظمة الإنارة.. مشاريع الحد من التلوث الضوئي
اتخذ علماء في هولندا غابة تجريبية، وضعوا فيها أعمدة نور منفردة، بعضها أحمر وبعضها ذو ألوان متدرجة من الخضرة إلى الزرقة وحتى البياض، وقد لاحظوا أن الخفافيش وكثيرا من الحشرات لا يزعجها اللون الأحمر، وكأنها لا تراه، لكن يضطرب سلوكها حول الألوان الأخرى، وأسوأها الأبيض.
وتكررت التجربة في بعض الشوارع وعند قنوات الأنهار، وقد لاحظ العلماء عودة خفافيش الظلام تشيروبيرا إلى التحليق في تلك المناطق.
وفي مدينة ليون يتوافد الناس في سبتمبر/ أيلول من كل عام ليشاهدوا مهرجان الأنوار، ويعرض في تلك الليالي الحالكة آخر ما توصلت إليه الصناعة من أشكال المصابيح وألوانها وتقنياتها.

يتزايد الوعي عالميا بشأن التلوث الضوئي، فقد تبنّت عدة مدن أوروبية أنظمة من الإنارة، تتبنى حلولا مهمة لظاهرة التلوث الضوئي، كما في منطقة الإضاءة الحمراء في أمستردام، حيث يزداد نشاط الطيور التكاثري، وخفافيش الظلام تجوب تلك الغابة بحرية وأمان.
فمنذ القرن الـ18، تزايد الاهتمام بالإنارة العامة لأسباب أمنية، فالشوارع المضاءة أقل عرضة لعصابات النهب والقتل، لكن هذه الإنارة تفاقمت تفاقما عبثيا لا ضرورة له، وأدى هذا التلوث الضوئي إلى اختلال الحياة الطبيعية لكوكب الأرض.
سماء خالية من التلوث.. محاولات للتصالح مع الطبيعة
في حديقة سيباديل بمدينة ليل الفرنسية، عششت الطيور في أماكن لم تكن تجرؤ على الوصول إليها، بسبب البشر والإنارة.
وقد اعتمد العلماء في المتنزه وبعض الشوارع نظاما للإنارة، يعتمد نظام المجسات، فيضيء المنطقة التي يحس بوجود البشر فيها، بل إنهم اعتمدوا ألوانا شتى في المصباح الواحد، تبعا لنشاط الحيوانات في الليل.
ومن خلال هذا المشروع، لاحظ العلماء عودة أنواع من الحشرات، كانت قد اختفت من المتنزه قبل سنوات، بسبب الإضاءة الساطعة، وبعودة هذه الحشرات عادت الخفافيش أيضا.
كما أصبحت القنوات المسقوفة بيئة مثالية لأنواع الخفافيش الليلية، وبعض الحشرات التي تعد غذاء لها.

وقد حذت حذوَ مدينة ليل الفرنسية مدنٌ عدة في إيطاليا والتشيك والدنمارك وألمانيا، وكذلك مدينة توكسون الأمريكية، فاعتمدت أنظمة إنارة تحدّ من التلوث الضوئي.
وهنالك 20 مشروعا في دول أوروبية، تسعى لخلق مناطق خالية من التلوث الضوئي والغازات الصناعية، من أجل سماء معتمة إلا من نور القمر، مرصعة بالنجوم والكواكب، تضمن هجرة آمنة للطيور عبر القارات.
وما يزال الكوكب يحتاج إلى كثير من هذه المشاريع المبدعة والمكلفة، لتعيد التوازن الحيوي إلى طبيعته، وتحفظ سلالات من الحيوانات باتت مهددة بالانقراض.