قبة الصخرة.. تاريخ الدرة الإسلامية التي تنافس عليها الملوك والغزاة
اكتسبت مدينة القدس مكانتها لدى المسلمين لعدة أسباب غائرة في التاريخ، لعل أقربها معجزة الإسراء والمعراج، التي كانت من فوق صخرة تقبع حتى الآن وسط المسجد الأقصى، وقد ختم تلك القداسة قول الله في كتابه الكريم: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾.
وفي قلب الأقصى، تقبع قبة الصخرة ببهاء لا يضاهيه بهاء، حتى باتت رمزا لبيت المقدس بأكمله، وتحفة يتفاخر بها المسلمون.
“قبة الزمان”.. قداسة منذ أيام موسى عليه السلام
تُرجع الروايات التاريخية وجود الصخرة المقدسة إلى عصور قديمة، من زمن النبي موسى عليه السلام، وقد صلى إليها قومه يومئذ. وهناك من يرى أن آدم عليه السلام نزل عليها، وأن النبي إبراهيم عليه السلام كان سينحر ابنه فوقها طاعة لأمر الله.
ويذكر ابن كثير في “البداية والنهاية”، أن أهل الكتاب يقولون إن الله أمر موسى ببناء قبة من الخشب وجلود الأنعام وشعر الأغنام، وتزيينها بالحرير والذهب والفضة، وأن تكون لها أربعة أبواب وستائر من حرير، وكانت تسمى قبة الزمان.
يقول ابن كثير: وقد كانت قبة الزمان هذه مع بني إسرائيل في التيه، يصلون إليها وهي قبلتهم وكعبتهم، وقام بأعباء النبوة بعد موسى وتدبير الأمر بعده فتاهُ يوشع بن نون عليه السلام، وهو الذي دخل بهم بيت المقدس، كما سيأتي بيانه.
والمقصود هنا أنه لما استقرت يده على البيت المقدس، نصب هذه القبة على صخرة بيت المقدس، فكانوا يصلون إليها، فلما بادت صلوا إلى محلّتها، وهي الصخرة، فلهذا كانت قبلة الأنبياء بعده إلى زمان رسول الله ﷺ. انتهى كلام ابن كثير.
وتذهب الباحثة “داريا كوتوفا” في دراسة “المقام وقبة الصخرة” إلى أن الصخرة في جوف القبة هي حجر الأساس، لقداستها لدى المسلمين واليهود على حد السواء.
ففي الإسلام، هي المكان الذي عرج منه النبي محمد ﷺ نحو السماء، وهناك التقى بالأنبياء السابقين. كما تمثل الصخرة أيضا حامية للحجر المقدس لدى اليهود أيضا، فهي المكان الذي “الذي منع فيه ملَكُ الله النبيَّ إبراهيم من ذبح ابنه”.
قبة الصخرة.. محج العاجزين عن الذهاب إلى مكة
أحيطت بقبة الصخرة هالة من القداسة منذ قامت أعمدتها، وحيكت حولها الروايات والأساطير، ويمكن تبيان ذلك بروايات نقلها المؤرخون المسلمون الأوائل، ومنهم الرحالة ناصر خسرو الذي وصف بيت المقدس في كتابه “سفر نامة”.
يقول ناصر: ويذهب إلى القدس في موسم الحج من لا يستطيع الذهاب إلى مكة من أهل الشام وأطرافها، فيتوجه إلى الموقف، ويضحي ضحية العيد كما هي العادة. ويحضر هناك لتأدية السنّة في بعض السنين أكثر من 20 ألفا في أوائل ذي الحجة، ومعهم أبناؤهم.
وتطابق هذه الرواية بعض ما قاله المؤرخون، من أن بعض أهل الشام تحولوا للحج هناك، عوضا عن مكة، وذلك في عهد عبد الملك بن مروان.
فتنة عبد الملك وابن الزبير.. دوافع سياسية
وصل تقديس الصخرة داخل القبة حد الأساطير، وهو أمر مشابه جدا للروايات التي حيكت حول الحجر الأسود ومصدره وقداسته، فقال بعض الناس إن الصخرة كانت عليها ياقوتة تضيء ليلا، وظلت كذلك حتى خربها نبوخذ نصر الثاني، وإنها صخرة من صخور الجنة، وتحمل أثر أصابع الملائكة، وأثر قدم الرسول ﷺ.
وتقول روايات أخرى إن الصخرة تقع على نهر من أنهار الجنة، لذلك فإن ماء الأرض جميعا يخرج من تحتها.
ويرد ابن تيمية على كل ذلك في كتابه “اقتضاء الصراط المستقيم”، فيقول: وكانت الصخرة مكشوفة، ولم يكن أحد من الصحابة ولا ولاتهم ولا علماؤهم يخصها بعبادة.
وكانت مكشوفة في خلافة عمر وعثمان على الشام، وكذلك في خلافة علي رضي الله عنه، فلما كان في زمن عبد الملك، وجرى بينه وبين ابن الزبير من الفتنة ما جرى، كان هو الذي بنى القبة على الصخرة.
وقد قيل: إن الناس كانوا يقصدون الحج فيجتمعون بابن الزبير، أو يقصدونه بحُجة الحج، فعظّم عبد الملك شأن الصخرة بما بناه عليها، وظهر من ذلك الوقت من تعظيم الصخرة وبيت المقدس ما لم يكن المسلمون يعرفونه بمثل هذا، وصار بعض الناس ينقلون الإسرائيليات في تعظيمها. انتهى كلام ابن تيمية.
“لم يكن لها نظير على وجه الأرض بهجة ومنظرا”
كانت قبة الصخرة بشكلها الحالي ختما إسلاميا بامتياز، يعود إلى العقد السابع للهجرة، في عهد الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان، وقد اختُلف حول تاريخ الانتهاء من بنائها، ولكن الأرجح عند المؤرخين أن ذلك كان في العام 72 من الهجرة.
تقول المراجع التاريخية إن عبد الملك بن مروان أمر ببناء القبة على صخرة بيت المقدس، حتى تقي المسلمين من الحر والبرد، وأوكل بتلك المهمة للخطاط والفقيه رجاء بن حيوة ويزيد بن سلام، وسخّر لهم أموالا ورجالا بلا حساب.
فبُنيت القبة وفرشت بالرخام الملون، ونُصبت لها الستائر، وأقاموا لها السدنة والخدم، وجُعلت فيها قناديل من الذهب والفضة، وكان الخدم كل ليلة يشعلونها ويعطرونها بكل أنواع المسك والطيب والعنبر.
ويقول ناصر بن عبد الرحمن جديع في كتابه “صخرة القدس في ضوء العقيدة الإسلامية”: كان في الصخرة من الفصوص والجواهر والفسيفساء وغير ذلك شيء كثير، وبالجملة فإن صخرة بيت المقدس لما فُرغ من بنائها لم يكن لها نظير على وجه الأرض بهجة ومنظرا، مع مرور الزمن حتى وقتنا الحاضر، فقد عمل ولاة المسلمين على ترميم هذه القبة وإصلاحها والمحافظة عليها.
“ضاهى فعل الأكاسرة في إيوان كسرى”.. صراعات السياسة
اختلفت أخبار الأولين حول سبب بناء القبة، فمنهم من أرجعها إلى أن عبد الملك بن مروان بناها خوفا وطمعا في رحمة الله، وتوسيعا على المسلمين من حر بيت المقدس وقيظه.
في حين جعل آخرون بغية بنائها سياسية صرفة، وقرنوا بناءها بصراعه مع عبد الله بن الزبير.
يذكر سبط ابن الجوزي (أبو المظفر يوسف بن قزغلي) أن عبد الملك بن مروان أمر ببناء القبة على صخرة بيت المقدس، وعمارة الجامع الأقصى، خوفا على سلطته، لا من أجل حماية المصلين من الحر والقيظ.
ويقول في كتابه “مرآة الزمان في تاريخ الأعيان”: كان السبب في ذلك أن عبد الله بن الزبير كان قد استولى على مكة، وكان يخطب في أيام منى وعرفة ومقام الناس بمكة، وينال من عبد الملك، ويذكر مساوئ بني مروان، وكان يدعو إلى نفسه، وكان فصيحا، فمال معظم أهل الشام إليه.
وبلغ ذلك عبد الملك، فبنى القبة على الصخرة والجامع الأقصى، ليشغلهم بذلك عن الحج ويستعطف قلوبهم، ففتح بذلك على نفسه بأن شنّع ابنُ الزبير عليه، وكان يُشنع عليه بمكة، ويقول: ضاهى بها فعل الأكاسرة في إيوان كسرى. انتهى كلام أبي المظفر.
تنافس الملوك على زينة القبة
في عام 216 للهجرة، زار الخليفة المأمون بيت المقدس خلال رحلته من دمشق نحو مصر، ورمّم أجزاء من حرم المسجد الأقصى، وحاول عماله تزييف الكتابة التي نقشت على القبة، ليضعوا اسم عبد الملك بدل اسم المأمون، لكنهم فشلوا في ذلك بسبب اختلاف لون الرخام، حسب “كتاب القدس” لشفيق جاسر أحمد محمود.
ويقول المستشرق السويسري “ماكس فان برشم” إن النقوش في المعالم الإسلامية في كل العصور كانت رمزية بالأساس، وهذا واضح خصوصا في قبة الصخرة، ولولا رمزيتها الكبيرة، لما كان هناك سبب يدعو الخليفة المأمون إلى وضع اسمه مكان اسم عبد الملك.
وفي عام 407 هـ (1016 م)، سقطت أجزاء من قبة الصخرة بسبب زلزال ضرب المدينة، ثم أعاد بناءها الخليفة الظاهر بأمر الله أبو الحسن عام 413 هـ (1022 م)، ورممها الخليفة أبو جعفر عبد الله عام 468 هـ (1075 م).
وحين استولى الصليبيون على بيت المقدس عام 492 هـ (1099 م)، أحاطوها بسياج حديدي، وأقاموا الصليب فوق مسجد قبة الصخرة، وغطوا كامل القبة بالرخام لحمايتها، بعد أن سُرقت أجزاء منها وبيعت في أوروبا.
وقد أسقط صلاح الدين الأيوبي ذلك السياج بعد دخوله المدينة، وأزال الصور على الجدران والرخام الذي كان يغطيها، وهدم المذبح الذي أقيم هناك، وكسا قبتها بالذهب.
ثم جددها بعد ذلك السلطان المملوكي الظاهر بيبرس عام 659 هـ (1261 م)، ورممت مرتين في عهد السلطان الناصر محمد بن قلاوون، وعهد الأمير الظاهري.
وفي عهد السلطان العثماني سليمان القانوني، زُينت القبة بالزخرفة القيشانية، فعوّضت الفسيفساء الأصلية في القبة، وفُتحت نوافذ بها وكُسيت بالنحاس.
وفي سبعينيات القرن الـ19، وخلال عهدي السلطان عبد العزيز والسلطان عبد الحميد الثاني، كُسيت القبة بصفائح من الرصاص، وكُتبت سورة ياسين في أعلى القبة من الخارج بخط الثلث.
البقرات الحمراء.. طقس لتسريع موعد بناء الهيكل
في أواخر عام 2022، أنذر استقدام بقرات حمراء إلى إسرائيل بخطر داهم، يهدد كل محيط المسجد الأقصى، بما في ذلك قبة الصخرة، فقد ارتبطت البقرات بطقوس دينية، حضّرت لها “جماعة الهيكل” الإسرائيلية المتطرفة.
تبدأ تلك الطقوس بذبح بقرة حمراء على سفح جبل الزيتون قبالة المسجد الأقصى، واستعمال رمادها من أجل التطهر، وهو طقس يعتقد اليهود أنه يأتي في وقت يتحقق فيه وعد الرب، قبل بناء الهيكل الثالث على أنقاض المسجد الأقصى.
وبذلك الطقس، كانت “جماعة الهيكل” تريد تسريع موعد بناء الهيكل، وهو ما يعني هدم الأقصى وما فيه وحوله.
لم يكن ذلك الإنذار الوحيد الذي واجه المسجد الأقصى وقبة الصخرة في القدس، فقد بدأت أقدام الجنود الإسرائيليين تنجس ساحات المسجد الأقصى منذ النكبة، قبل أن تلتحق بها المعاول ضمن برنامج الحفريات للبحث عن آثار يهودية.
ففي عام 1967، سيطرت إسرائيل على القدس الشرقية، واقتحم الجنرال الإسرائيلي “مردخاي غور” المسجد الأقصى، ورفع العلم الإسرائيلي على قبة الصخرة، وحُرقت المصاحف، ومُنعت الصلاة فيها، كما صادر مفاتيح أبواب المسجد، وأغلقه أسبوعا كاملا.
ثم تتالت بعد ذلك الهمجية الصهيونية، ومنها اقتحام قوة خاصة من الجيش الإسرائيلي للمسجد الأقصى عام 2005، وقد نفذت مناورة بداخله وداخل قبة الصخرة.
سحب الوصاية وتقسيم المسجد.. خطط المتطرفين
قبل أن تفصح إسرائيل علنا عن نياتها الرسمية باستهداف قبة الصخرة والمسجد الأقصى، لوّحت وزارة خارجيتها للعالم بذلك، بعد أن كشفت صحيفة “يديعوت أحرنوت” الإسرائيلية عام 2013، عن إنتاج الخارجية الإسرائيلية فيلما يصور مشاهد خيالية لهدم قبة الصخرة وإقامة الهيكل في مكانها.
لكن إسرائيل لم تبث الفيلم، خوفا من ردة فعل غاضبة، من قِبل الفلسطينيين والمسلمين عموما.
ولم يطل الانتظار، حتى تبيّن أن ذلك قد أصبح خطة رسمية، فقد قدّم نواب متطرفون في الكنيست عام 2014 مشروعين؛ يدعو الأول منهما لسحب الوصاية الأردنية على المقدسات الإسلامية في القدس، أما الثاني فهو مشروع قانون يتعلق بالتقسيم الزماني والمكاني للمسجد.
وحسب المخطط الإسرائيلي، تلي مرحلةَ التقسيم الزماني مرحلةٌ أخرى أكثر خطورة، تنتهي بالسيطرة التامة على المسجد الأقصى، وهدم قبة الصخرة، ففي تلك المرحلة سيقتطعون مساحات من المسجد الأقصى، لاتخاذها معابد لليهود.
وبذلك تنحصر مساحة المسجد الأقصى في الجامع القبلي المسقوف، الذي سيصبح المكان المقدس الوحيد للمسلمين حسب ذلك المشروع، وسوف تُضم كل مساحة صحن قبة الصخرة والجهة الشرقية للمقدسات اليهودية.
وقد بدأت إسرائيل في تنفيذ ذلك المشروع، عن طريق تحديد مسارات دخول اليهود للمسجد الأقصى وساحاته، وذلك تمهيدا للسيطرة عليه.
نقش امتداد الهيكلين القديمين.. مزاعم واهية
تصر إسرائيل في مساعيها الفاشلة، على إثبات أحقيتها التاريخية في بناء الهيكل على أنقاض قبة الصخرة، بتأويلات للتاريخ، ومنها قراءة مغايرة للنقوش والآثار.
فقد نشرت صحيفة “تايم أوف إسرائيل” في مقال لها عن نقش يعود إلى القرن السابع الميلادي، قالت إنه موجود في المسجد العمري، وإنه يقدم قبة الصخرة في القدس على أنها امتداد للهيكلين القديمين في الحرم القدسي، حسب الصحيفة.
كما ذكرت أن النقش أشار إلى القبة باسم “قبة بيت المقدس”، ورأت الصحيفة ذلك إشارة حرفية “للهيكل المقدس”.
ومع كل تنقيبها ومشاريعها ودعايتها وأموالها التي أفاضتها لخدمة مخططها، فما زالت لم تجد شيئا يثبت أحقيتها في المسجد الأقصى، وبقيت قبة الصخرة -رغم أنف إسرائيل- تحفة إسلامية شامخة.