“حدث ذات مرة في الغابة”.. نشطاء شباب يسعون لإنقاذ الطبيعة من الرأسمالية
يتتبع الوثائقي الفنلندي “حدث ذات مرة في الغابة” (Once Upon a Time in a Forest) تحرك ناشطتين بيئيتين شابتين، تكرسان حياتهما لحماية الغابات الطبيعية في بلدهما، بعد أصابها تدمير ممنهج مارسته شركات كبرى، فقطعت أشجارها واستخدمت أخشابها لأغراض صناعية، ولم تُبق غير جزء صغير لم تعبث به آلاتها.
يذكره الوثائقي أن حوالي 90٪ من غابات فنلندا تستخدم اليوم لأغراض تجارية وربحية، وتتواطأ الدولة مع تلك الشركات، لضمان ديمومة استغلالهم للثروة الطبيعية، الأمر الذي يعارضه جيل واعٍ من الشباب، يريد حفظ التوازن البيئي، وحماية الثروة الطبيعية من النهب والتدمير.
عُرض الوثائقي في أمستردام بالدورة الـ37 من مهرجان “إدفا”، التي تستمر فعالياتها ما بين 14 إلى 24 نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري، وهو من إخراج “فيربي سوتاري”، وقد شاركت الجزيرة الوثائقية في إنتاجه، وهو منجز رائع يجمع بين الصورة الشاعرية الجميلة، وبين الأفكار والنشاط الحيوي للبيئيين الشباب.
جيل فنلندي يسعى لحماية الطبيعة
تضع صانعة الوثائقي الشابتين “إيدا” و”مينكا” في المركز، وبأسلوب سينمائي حاذق تتوسع في عرض الخلفية الفكرية، التي تستند عليها شريحة كبيرة من الناشطين البيئيين، ممن يتلمسون طريقهم ويبتكرون أساليب احتجاج سلمية وفق تجربتهم الحياتية.
يوفر لها ذلك إمكانية التقرب والتعرف على جيل فنلندي قادر على التعبير عن أفكاره وهواجسه بلغة واضحة، مع أن الأمر عسير، فالمحاججة النظرية وإقناع الآخرين يتطلبان دوما زيادة معارفهم في علوم شتى، والتعمق في فهم ما ينتج عن تدمير الغابات الطبيعية، من خلل في التوازن البيئي الدقيق.
وحتى لا تعيد صانعته تكرار المشهد التصادمي الحاصل بين هؤلاء الشجعان وبين أصحاب الشركات الصناعية العملاقة، كما في أفلام وثائقية كثيرة مشابهة، فإنها تختار الصورة الشاعرية وسيلةً للتعبير عن مشاعرهم، وشدة احترامهم للطبيعة وقوانينها، لدرجة أنهم لا يترددون بتعريض حياتهم للخطر، من أجل حمايتها.
وفق هذا الخيار تكثر المَشاهد التي يظهر فيها الناشطون وهم يتحركون في أماكن طبيعية خلابة، منها الأنهار الصافية التي يسبحون فيها، والثلوج البيضاء التي تغمر مساحات كبيرة من الغابات، والأراضي التي يتنقلون فيها، ويحرصون على معرفة كل تفصيل فيها.
وذلك ليشخّصوا بدقة -عبر معاينة ميدانية- تلك التحولات “السامة”، التي تطرأ عليها جراء تدمير الغابات بوتيرة متصاعدة.
ترك الغابات كما هي.. دعوة تواجه الأجيال القديمة والرأسمالية
تظهر من الملازمة الحثيثة للشابتين مفاهيم متشددة يتبناها البيئيون الشباب، يبدون فيها كأنهم يطالبون بما لا يمكن تحقيقه، جراء مطالبتهم بترك الغابات حرة لا تمسها يد الإنسان.
يتعارض ذلك مع جيل قديم من سكان المنطقة، تعوّدوا على قطع أخشاب الغابات للاستخدام اليومي، مع حرصهم الشديد على زراعة شجرة جديدة، مقابل كل شجرة معمّرة يقطعونها.
وعلى أساس هذا النمط من الاستغلال المتوازن للثروة الطبيعية، يبرر أصحاب شركات صناعة الأخشاب اليوم جشعهم، وذلك بنمط إنتاجي جديد أطلقوا عليه “الغابات الشابة”، وإنما يريدون به توسيع نشاطهم التدميري للغابات القديمة، مقابل زراعتهم للأشجار “الجديدة” في مساحات صغيرة، تعويضا عما يستهلكونه.
يرفض الناشطون ذلك التبرير، وعلى رأسهم “إيدا” التي أسست حركة مناهضة للشركات العملاقة، ويدعون إلى ترك الغابات كما هي، من دون أن يتدخل الإنسان فيها، لأن هذا حسب قناعتهم هو السبيل الوحيد لحمايتها من الزوال.
وفي حواراتها مع خصومها تُميز الشابة الواعية بين أفكارها وأفكارهم، فهي ليست ذات مصلحة مادية فيما تدعو إليه، أما هم فإنما يفكرون بالربح والمال المتأتي من استغلالهم الجشع للغابات.
هكذا يظهر الفرق بين حركة نزيهة، وبين رأسمالية صناعية تسعى لجني الأرباح، حتى لو أضرت بالطبيعة والبيئة والإنسان.
حركة يتجاهلها المجتمع وتقمعها السلطة
تنتقد الشابتان عدم مبالاة بعض فئات المجتمع بما يجري أمام أعينها، من تخريب متعمد للغابات، وهي الرئة التي تزود الأرض بالأوكسجين، وحاضنة لآلاف الأنواع من الحيوانات والنباتات، التي تمنحها الغذاء والمأوى.
ولنقل ذلك الحيز الحيوي من المكان تتحرك الكاميرا داخله، وتسجل ما يجري فيه من نشاط لا يعرف السكون؛ نشاط طبيعي يوفر للحيوانات والنباتات المناخ السوي للنمو والتطور. وكل هذا مهدد بالزوال إذا ما استمرت الشركات بقطع أشجار الغابات، وحولت أراضيها إلى مساحات جرداء، غير صالحة للعيش.
يدفع هذا الناشطين للخروج ومنع حدوثه، فينظمون تظاهرات في المدن، ويدخلون عنوة إلى كل منطقة تقتلع فيها الأشجار، مع معرفتهم بتبعات ذلك السيئة عليهم.
ينقل الوثائقي ما يصيبهم جراء إقدامهم على مواجهة قوة رأسمالية مدعومة بقوة أجهزة الشرطة، وفي كل مظاهرة ينظمونها ويرفعون فيها شعارات تطالب بوقف التخريب الحاصل للغابات، يُعتقل عدد منهم، وفي أحيان كثيرة يعتدي عليهم حُماة المؤسسات الصناعية.
تاريخ النضال الفنلندي منذ عقود.. مرجعية تنير الطريق
لنشاط هؤلاء الشباب مرجعية تاريخية يستندون عليها، فهؤلاء الأبطال المقاديم لم يأتوا من فراغ، بل هم امتداد لأجيال من النشطاء سبقوهم، قاموا بنفس أدوراهم، وتحلوا بذات الشجاعة التي يتحلون بها.
لربط الأجيال المناهضة للنشاط التخريبي للبيئة مع بعضها، ينقل الوثائقي تسجيلات فيلمية قديمة (فيديو)، يظهر فيها ناشطون فنلنديون في نهاية السبعينيات، وهم يعارضون مشروع بناء سدود على روافد أنهار طبيعية، تؤدي إلى جفافها وانقطاعها.
ويسأل صحفي أحدهم هل يضحي بحياته من أجل نهر أو رافد مائي؟
فيجيبه الناشط بأنه لا يتمنى وصول الأمر إلى هذا الحد، ولكن لو وصل إليه فهو مستعد بالمغامرة بحياته، لحماية البيئة وإيقاف الرأسمالية الجشعة عند حدها.
الوقوف بوجه آلات الدمار العملاقة
في مسار الوثائقي، يتوصل البيئيون الجدد إلى نفس تلك القناعات، فيقفون أمام آلات قطع الأشجار العملاقة، لا يخافون أن تسحق عجلاتها أجسادهم، وكل ذلك لإيقافها ومنعها من المضي في عملها التخريبي.
وإلى جانب هذا، يُقيمون معسكرات صغيرة، ينظمون بداخل خيامها حركات احتجاج صغيرة، لكنها فعالة تجبر -كما يظهر في الفيلم- أصحاب الشركات العملاقة على لقائهم، والاستماع إلى مطالبهم.
حتى أجهزة الشرطة تجد نفسها في أحيان كثيرة عاجزة عن إيقافهم، لأنهم ذوو منطق عقلاني ومطالب تمس حياتهم شخصيا وحياة أبنائهم، فيتساهلون أحيانا معهم، ويطلبون منهم التحرك بهدوء.
كل تعاطف يصب في الاتجاه الصحيح هو ما تسعى إليه الحركة البيئية الجديدة في فنلندا، وقد استطاع الوثائقي التقاط تفاصيلها الدقيقة، وبدد رتابتها عبر الجمع بينها وبين جماليات الصورة، التي كانت تأخذ أحيانا وقتا طويلا من زمنه، ولكن من غير أن تبطل ديناميكيته، ولا تخفف روحه الشبابية.
فلاسفة صغار يحملون مسؤولية إنقاذ العالم
تبدو اشتغالات صانعة الفيلم الجمالية كأنها تعبر عن روح هؤلاء الشباب، التواقة للمجابهة بأساليب لا تخلو من ظرافة وحبور.
ويظهر ذلك بوضوح في الحوارات الجامعة بين النشطاء، فهي تفضي لمعرفة طريقة تفكيرهم، وتوضح هواجسهم ومخاوفهم مما يجري في العالم كله، لا في بلدهم فحسب.
رؤيتهم الكونية المنطلقة من محليتهم مذهلة في قوة تأثيرها على المتلقي، فيجد نفسه أمام “فلاسفة” صغار، يعرفون كثيرا عن العالم من غير ادعاء، بل يتميزون ببساطة وعفوية، كالتي تظهر على سلوك الشابتين، وحيويتهن في التعاطي مع أسئلة كبيرة وخطيرة، بروح المسؤولية التي على كل شاب أن يفكر بها.
هكذا على الأقل يكون الانطباع الذي يرافق المُشاهد، وهو يخرج من قاعة السينما، وهو مقتنع بأن هؤلاء الشباب ليسوا مغامرين، بل حكماء يريدون حماية العالم من الانهيار.