“الطعام طريقنا إلى الانقراض”.. مأساة عالم فقد عقله وأخذ يلتهم نفسه
يبدأ فيلم “الطعام طريقنا إلى الانقراض” (Eating Our Way to Extinction) الذي أخرجه “لودو بروكويه” و”أوتو بروكويه” بلقطات عامة تعرض تهاوي الأشجار العملاقة، وترصد الفراغ الذي يحدثه تدميرها في نسيج الغابات المطيرة.
لا نرى صورة للفاعل، ولكنّ من شأن هذه اللقطات أن تدفع المتفرّج إلى التأمل والتدبّر. ولا شكّ أنها تحدث لديه انطباعا قويا بأن ما يحدث إنما هو إفساد في الأرض.
بعدها نكتشف شيئا فشيئا مدى ضخامة هذا العمل الوثائقي، بديكوراته الموزعة حول مناطق متباعدة من العالم، وبمشاهده الواسعة التي تحتاج معدات هائلة.
و”على قدر ضخامة الإنتاج تأتي ضخامة الأهداف”، فالفيلم يصرّح بعمله على تغيير عاداتنا الغذائية التي أصبحت تقودنا إلى المهالك، فقدْ فقدَ العالم عقله، وأخذ يلتهم نفسه بنفسه.
مقارنة الأزمنة.. رثاء حزين لعالم ينهار أمام أعيننا
تُصوَّر المشاهد الأولى في الغابات المطيرة، الواقعة في مستوى خط الاستواء، ويركز على ما يوجد منها حول نهر الأمازون، تلك التي تسمى رئة العالم، لدورها في الحدّ من الاحتباس الحراري.
فيقابل بين حالين؛ الطبيعة البكر وهي في أجمل حللها بما فيها من غطاء نباتي وثلوج وحيوانات تعيش في هدوء، والطبيعة المتهالكة بسبب ما تعاني من الجفاف أو الحرائق أو الفيضانات.
تنخرط هذه المقابلة ضمن مسار تأثيري، يقارن بين الواجب والحاصل، ويدعم مساره الحجاجي بإحصائيات يعرضها صوت السارد، ليبرهن على أنّ عالمنا يقف على مشارف الهاوية، بسبب عاداتنا الغذائية المضرة بالبيئة.
كما أنها تمنح -ضمن مسار تحسيسي- الفرصة لمن لم يلتقط الفكرة عبر إيحاء الصورة، فتُنطق السكان الأصليين من الهنود الحمر، لينقلوها عبر التقرير.
يعبّر الهنود الحمر بنبرة رثاء حزين عن معاينتهم لتحوّل الحياة في البراري من حولهم، من اعتدال الطقس والتوازن البيئي، إلى احتضار الطبيعة، بعد أن تغير هواؤها، وتلوث ترابها وماؤها، وبعد أن أضحت هذه الأخلاط التي تمنح الحياة عناصر مسببة للهلاك السّريع.
التهام الثروة النباتية والمائية.. وحوش الماشية الشرهة
ترمز تربية المواشي إلى تفوق الإنسان على عناصر الطبيعة، والسيطرة عليها وتطويعها لحاجاته، ولا يزال الأمر يحمل تلك الدّلالة، منذ تدجينها في العصور الأولى التي نراها في رسومات في كهوف الإنسان البدائي وسكنه.
لكنّ الفيلم يكشف لنا الوجه الآخر من هذا النشاط الفلاحي اليوم، فبعد أن أصبحت الأبقار والخنازير والأغنام والدجاج تربى بالآلاف مجتمعة في الحظائر العملاقة، أصبحت خطرا يعجّل بهلاكنا، ويسهم في تدمير البيئة من حولنا من مستويات متعدّدة.
ذلك أن تربية هذه الحيوانات الشرهة تدفعنا إلى تدمير الغابات المطيرة، لزراعة الأعلاف التي تحتاجها. ويضرب الفيلم مثالا بسيطا للتعبير عن خطر هذا الأمر، ففي كل عام يُدمر ما يعادل مساحة دولة بنما من الغابات، لتحوّل إلى مراعٍ أو مزارع أعلاف.
ثم إن حاجة هذه الدواب إلى الماء كبيرة جدا، سواء تعلّق الأمر بشربها أو بسقي المراعي، أضف إلى ذلك ما تنتجه زراعة الأعلاف من تلويث بالمواد الكيميائية التي تعتمد لتسميدها.
إنتاج الغازات الملوثة والأمراض القاتلة
تكشف الإحصائيات أنّ ما يخصّص للزراعات الحيوانية من المياه أكبر بكثير مما يخصص للاستهلاك البشري، والحال أنّ العالم سيواجه صعوبات جمة في توفير المياه العذبة خلال 30 سنة.
كما أن هذه المواشي تنفث غازات سامة شديدة الخطورة. ويكفي أن نذكّر بتقرير منظمة الفاو عام 2013، الذي يفيد أنّ تربية الماشية تنتج من الغازات الملوثة للبيئة أكثر مما تنتج كل وسائل النقل في العالم مجتمعة، وأنّ غاز الميثان التي تنفثه قد تضاعف تركيزه في الجو مرتين ونصفا، وأصبح وحده مسؤولا عن 30% من ظاهرة الاحتباس الحراري.
وتدعم المعطيات الطبية الأطروحة القائلة إن تعويل الإنسان على البروتونات مصدرا رئيسيا لغذائه سيعجّل بهلاكه، فمن ذلك أمراض وفيروسات مستجدة، ناتجة إما عن الإفراط في تناول اللحوم، أو بسبب خلل في تغدية المواشي، ومن تلك الأمراض جنون البقر وفيروسات الخنازير والقردة والطيور. وجميعها قاتل.
ولا بدّ أن نأخذ بعين الاعتبار هنا أنّ المضادات الحيوية باتت غير فاعلة في حمايتنا من بعض الفيروسات، لفرط معالجة المواشي بها، ولانتقالها من لحومها إلى أجسادنا بعدئذ.
لقد شهد الكون 5 حالات انقراض كبرى على مدار حياته التي تقدّر بنحو 450 مليون سنة، وحدث آخرها قبل 66 مليون سنة، ويبدو أننا نقف الآن على مشارف المرحلة السادسة. فقد اختلّت المنظومة البيئية بجلاء، وأصبح أكثر من 26 ألف نوع مهددا اليوم بالانقراض.
أطباق السمك الفاخر المسرطن.. بضاعتنا رُدت إلينا
من التوصيات المعهودة لدى أطباء التغذية النصح بتناول الأسماك، للحفاظ على توازن الجسم، وإنقاذه من ضغط الدم أو تخثره أو الحساسية، وأن زيوتها النافعة غير مشبعة بالدهون، لذلك فهي تقينا من أمراض السمنة والقلب والشرايين.
كما أنها تحمينا من الجلطات، وتجنبنا أمراض السمنة، وتمنحنا حياة نفسية متوازنة، ونحن عاجزون عن إنتاج أحماضها الدهنية من نوع “أوميغا 3” ذاتيا، ولذلك تسمى صيدلة متنقلة.
ولكن الفيلم يضع معارفنا هذه كلّها موضع المساءلة، حين يثبت أن الأسماك اليوم أكثر إضرارا بالإنسان، وأنّ أعلى مستوى من المواد المسرطنة موجود في المنتجات البحرية، مثل “ميثل الزئبق” المسبب لسرطان الدم.
وقد حدث كل ذلك بعد أن تلوثت المحيطات، وأصبحت مصبا للفضلات البشرية، وتجمعت فيها رقائق البلاستيك والنفايات.
فالمخلوقات الصغيرة تتغذى على تلك المواد الكيمائية السامة، ثم تنقلها إلى الأسماك التي تلتهمها، ثم تعبر منها إلى موائدنا وأجسادنا، لكن الأجساد لا تتخلص منها، بل تراكمها ثم تخرجها في شكل أمراض سرطانية.
والغريب أن دورة الحياة تتحوّل إلى دورة نقل للسموم ونشر للموت، ضمن منظومة بيئية جديدة متطرفة، محطمة للمنظومة القائمة المتوازنة، فتلويث المياه بالنيتروجين ينتج الطحالب التي تستهلك ما فيها من الأوكسجين، ثم تنفق الأسماك مختنقة.
المزارع البحرية.. حيث تعيش الأسماك حياة الزومبي الكئيبة
ابتكر الإنسان المعاصر حيلا لتربية الأسماك، في مزارع خاصة تكفل له وضعها تحت الرقابة، والتحكم بتوجيهها وفرزها وتغذيتها، مثلما يفعل في حظائر تربية الماشية.
وسبب ذلك أن الصيد الجائر أدى لتناقص الثروة السمكية، فاضطر الإنسان لابتكار هذه المزارع، وهي تكفل لرؤوس الأموال تحويلها إلى مصادر تدر عليها ذهبا، ففي إسكتلندا مثلا تصل العائدات إلى مليارات اليوروهات، فهي مقر أكبر مزارع السلمون، التي يعد منها أفخم الأطباق.
يستخدم فريق الفيلم غواصة خاصة لمعاينة قاع هذه المزارع، فيرصد طبقات سميكة من الرواسب، مكونة من معجون اللحم وبقايا الأسماك النافقة، وبعض مواد تغذية هذه الحيوانات والمواد المحظورة، مثل “ثنائي الفنيل” متعدد الكلور والديوكسينات والملونات الصناعية. وجميعها ملوثات مسببة للسرطان، تُفرز من مادة المثلين ما يفوق مزارع تربية الماشية.
كما وجد الفريق براهين على استخدام أكثر من 50 طنا من “الفورمالديهايد”، وهو غاز سريع الاشتعال، يعتمد في صناعة الغراء أو التحنيط، ويسبب أنواعا من السرطان، منها سرطان الأنف والمعدة، كما يتسبب في عيوب وراثية. وهذا ما يؤكد المعلومات التي استقوها من وكالة حماية البيئة الإسكتلندية.
وتفسير الظّاهرة أن تربية أسماك كثيرة في مساحات ضيّقة تتكدّس فيها، يجعلها عرضة للأمراض الكثيرة، فيغزوها القمل وتصيبها الطفيليات وتشوه ملامحها، فتعيش حياة زومبي حزينة للغاية.
ولمعالجتها تسحب إلى قوارب خاصّة، وتغسل بالمبيدات الكيميائية السامة، لكن تبقى آثارها عالقة بها، ثم تعلّب في المصانع، وتأخذ طريقها إلى موائدنا.
جماعات الضغط.. متلاعبون يستغلون الفساد السياسي والمالي
بالاستناد إلى تقرير صادر عن المجلس الأوروبي سنة 2015، يؤكد الفيلم أنّ أكبر خمس شركات للإنتاج الحيواني في العالم، تبث من الغازات المسببة للاحتباس الحراري أكثر من شركات الغاز العالمية مجتمعة، مثل “شيل” و”بي بي”.
والمفارقة هنا أن الاتحاد الأوروبي -الذي يقاوم الاحتباس الحراري وينفق الأموال في سبيل ذلك- يدفع 24 مليون جنيه إسترليني، دعما لتربية الماشية. وفي الإجراءين تضارب للمصالح صارخ، لا شكّ أن مستفيدين يقفون وراءه.
وتأكيدا لهذه الفرضية يذكر الفيلم وجود أطراف نافذة تمارس ضغطا على السياسيين وصنّاع القرار، ويورد شهادة لأحد أفراد جماعات الضغط العاملة في مجال تربية الماشية، وكان قد عمل مع بعض شركات الإنتاج الحيواني الكثيرة حول العالم.
فيروي أنها كانت تدفع لهم ما يناهز نصف مليون يورو، لاستهداف السياسيين المعنيين في شتى حكومات العالم، حتّى يمرّروا التشريعات التي تخدم سياسات المنتجين.
وكانت تستبق تقارير منظمة الفاو ومشاريعها المستقبلية وتوصياتها، وتعمل على إجهاض سياستها، وما حدث في عام 2010 مثال جيّد يشرح هذه الممارسات عمليا.
فقد استطاعوا استغلال الخلل القائم في المنظومة الديمقراطية، وحالوا دون تطبيق توصيات اللجنة الاستشارية للمبادئ التوجيهية الغذائية في الولايات المتحدة الأمريكية، بشأن السياسات التي يجب أن تعتمد للحدّ من الغازات المنبعثة بسبب تربية الماشية.
ثمّ أوجدوا روابط بين الدوائر البحثية والحكومات -الخاضعة لجماعات الضغط- بما يؤثر في البيانات التي تصدرها منظمة الفاو نفسها.
ثم إنه مما يثير التحفظ حول نتائج تقرير منظمة الأغذية والزراعة (الفاو)، أنه يصدره مختصون في الزراعة والإنتاج الحيواني، لا مختصون في القضايا البيئية، لا سيما أن الرابطة الدولية للحوم -وهي مهتمة بتلويث المحيط- قد شاركت في إعداد هذه التقارير، وهنا يُطرح السؤال حول مدى شفافيتها.
وعي يُفقد الثقة بالعلوم وقوانين التجارة
يجعلنا الفيلم نراجع مصادرنا، ويغير تصورنا لأشياء كثيرة، فيجدّد إدراكنا بأنّ العلوم تفقد طهرها وحيادها، فقد أضحت نتائجها تُزيف خدمة لأصحاب رؤوس الأموال، وذلك بتواطؤ من السياسيين.
كما يساعدنا على الوعي بأنّ تربية الماشية لتحصيل الطعام، إنما هي تدمير للطعام والنظام البيئي من حيث لا نعلم، وعلى الوعي بأنّ بعض الأسماك سموم نضعها بأنفسنا في موائدنا.
ثم يرسّخ فينا نظرة تشاؤمية، مبدؤها أنّ الإنسان المعاصر بات -أكثر من أي وقت مضى- حيوانا مفترسا، ومنتهاها أنّ تلك السمة تجعل العالم من حولنا يتآكل، ويهدّد الكائن البشري نفسه.
تلاعب الدول الكبرى بقضايا البيئة
لا شكّ أنّ المخرجين يضعان الإصبع على داء ينخر العالم؛ ألا وهو قضايا الطعام، ولكن ليست هذه القضايا إلا طبقة سطحية تخفي طبقات كامنة من القضايا المتداخلة، وكلها على علاقة بمنظومات الحكم وفلسفته.
فمنها توحّش الليبرالية وغياب العدالة في تحمّل أعباء التخفيض من الغازات المضرّة، فالدّول المتسببة فيها تفرض على الدول الفقيرة معايير صارمة، في حين ترفض هذه الدول الحدّ من انبعاثها، بحجة إضرار ذلك باقتصادها.
لكن المخرجين يقتصران على قضايا الطعام، التي تحدث بسبب الوفرة والبذخ، ويهملان الوجه الأقبح منه، ألا وهو قضاياه التي تنشأ بسبب انعدامه، ويكفي أن نذكّر بأن قتلى الجوع في ذروة أزمة الكورونا -التي هزّت العالم- أكبر من قتلى الفيروس.
حل النباتية.. هل نستجير من الرمضاء بالنار؟
مع أنّ الموضوع جاد وشائك ويتطلّب التفكير بروية، فإن الفيلم يقترح حلولا مثالية غير قابلة للتحقق على الأرض، وغير قادرة على حل الإشكال، فيستهدف خلق منظور جديد لحياتنا، ولشكل إقامتنا في الكون، ولسلوكنا الغذائي، لكنه مضادّ للطبيعة البشرية، فيطمح إلى أن نصبح جميعا نباتيين.
والسؤال هنا: هل يكفي التزام بعض الأفراد لمقاومة سلطة هذه الجماعات التي توجّه سلوكنا الاستهلاكي من حيث لا نعلم؟
والأخطر من ذلك أن تكون جهة ما تريد أن تستثمر التهويل، وتبث الرعب لضرب جماعات معينة حتى تحل محلها، فيكون المتفرّج/ المستهلك ضحية لصراع بين جماعات تحاول كل واحدة منها التلاعب بعقله، من أجل الاستيلاء على أمواله.
فالفيلم يبدو أقرب إلى العمل التسويقي منه إلى العمل التحسيسي، ومما يشير إلى ذلك الاحتمال نهاية الفيلم، التي تبرز اكتشاف مستهلكين لذّة اللحم النباتي المطبوع بطابعات ثلاثية الأبعاد، وتفضيلهم له على اللحم الحيواني.