“ضياع حدائق بابل”.. حضارة عراقية تكشف مزيدا من أسرارها بعد الخراب
عُرض الوثائقي التاريخي البريطاني “ضياع حدائق بابل” (The Lost of Gardens Babylon) عام 2024، وهو يتتبع الاكتشافات الأثرية التي تلت دخول “تنظيم الدولة” إلى مدينة الموصل العراقية، وتدمير متحفها وكل ما له علاقة بالآثار التاريخية الموجودة فيها، ومحاولته محو كل ما يؤشر على عراقتها وعمق امتدادها التاريخي.
وقد شهدت هذه المنطقة قيام حضارات عظيمة فيها، منها الحضارة الآشورية في بلاد الرافدين، التي قدمت للبشرية كثيرا من المعارف والعلوم، ويُرجع بعض المؤرخين والأثريين الفضل لها بوجود الحضارات المعاصرة.
من أفضال الوثائقي المذهل في بحثه، أنه يشرك شخصيات عراقية فيه، يقدمون خبراتهم المكتسبة من عملهم في حقل الآثار، وأيضا شهاداتهم على ما جرى في سهل نينوى، من تخريب متعمد لآثار تلك المنطقة.
لكن الحظ حالفها ثانية، فاكتُشفت فيها آثار جديدة لم يعرفها أحد من قبل، كما أبرز البحث والترميم حقائق جديدة حول المكان الذي شيدت فوقه “الحدائق المعلقة”، إحدى عجائب الدنيا السبع، بعد أن ظن العلماء خطأ أنها موجودة في مدينة بابل، لا في مدينة نينوى!
تخريب آثار حضارة عظيمة!
يهتم صانع الوثائقي البريطاني “دوكان بولينغ” بالجانب البصري من عمله، فيجمع فيه الرسومات التوضيحية التي تقارب المراحل التاريخية القديمة، مع شهادات علماء آثار حضروا إلى الموصل بعد تحريرها بحثا عما بقي من آثار، والعمل بمعاونة الخبرات العراقية على إعادة تركيب المُحطم منها.
يلازم كل ذلك تسجيلات مصورة حديثا، تمنح الوثائقي مصداقية أكبر. وهو يعود عبر الرسومات التوضيحية إلى مدينة نينوى، التي أضحت عاصمة للإمبراطورية الآشورية، وفيها أقيمت حضارة عظيمة، يبدأ تاريخها منذ 2500 سنة قبل الميلاد.
إنها حضارة ازدهرت فيها العلوم، وتأسست فيها أول مكتبة في التاريخ، وخلال زمن وجيز توسعت مبانيها وقصورها وحدائقها، حتى غدت أعجوبة للناس.
وبدخول تنظيم الدولة عام 2014 إلى مدينة الموصل العراقية، كانت كل بقاياها عرضة للتدمير والهدم، فهُدمت التماثيل والأسوار الشاهدة على تلك الحضارة، ولم يبق في متحف الموصل سوى القليل منها، أما البقية فتحولت إلى ركام.
أنفاق النهب.. جريمة تؤدي لأعظم الاكتشافات الأثرية
بعد دحر “تنظيم الدولة” عام 2017، أجريت عملية واسعة لإعادة الآثار، شارك فيها عراقيون وعلماء آثار أجانب، منهم الألماني “ستيفان ماول” الذي قاد فريقا فنيا أوكلت إليه مهمة تقييم الخسائر، والعمل في الوقت نفسه على إنقاذ ما يمكن إنقاذه من الآثار النادرة.
وقد قاده بحثه تحت أرضيات الأمكنة المُخربة إلى أنفاق تحت الأرض، خبأ فيها المقاتلون أسلحة، ولكن المفاجأة الكبرى أنهم بعد تفجيرهم للآثار الموجودة فوق الأرض، حفروا تحتها بغية الوصول إلى آثار قديمة أخرى، لبيعها في السوق السوداء.
وهذا ما حصل عند قبر النبي يونس في الموصل، فقد فجره المسلحون يومئذ، وبعد هزيمتهم وخروجهم من المدينة وجد عالم الآثار أنفاقا تحته تؤدي إلى جدران عالية، عليها رسومات وكتابات مسمارية، وإلى جانبها عثر الفريق على لُقًى وحُليّ ذهبية.
قرأ العالم الألماني “ماول” على بعض الألواح اسم الملك الآشوري “سنحاريب”، وأمامه كتبت عبارة: ملك جميع العالم!
وقد أدى هذا النفق إلى اكتشافات أخرى مهمة، يصفها “ماول” بأنها من أهم الاكتشافات الأثرية في تاريخ العراق.
الثور المجنح.. آثار مملكة بلغت مبلغا عظيما من القوة
يعيد علماء آثار وتاريخيون عراقيون وأجانب رسم خريطة لأنفاق المسلحين، ويضعون لها مجسما مصغرا، يبيّن تفاصيل المكان الذي شيد فوقها، ومنه تتبيّن عائديته إلى المملكة الآشورية، التي اتسعت وازدهرت خلال عهود ملوكها الأربعة، والتماثيل والألواح الطينية والكتابات تدل كلها على ذلك.
يتوقف الوثائقي عند تمثال “الثور المجنح”، الذي يرمز إلى قوة الملك وعظمته، ولهذا كان منصوبا في كل ركن من أركان المملكة، وفي مقدمة بوابات قصورها الفارهة. أما اللُّقى والمنحوتات الأخرى فتعطي فكرة عن انتشار الثقافة والمعارف، إلى جانب تطور علم هندسة المدن.
كل هذا يساعد علماء الآثار على تكوين صورة تقريبية وواضحة، عما كانت عليه نينوى في عهد الملك “سنحاريب”، وكذلك بقية المناطق البعيدة عنها نسبيا.
قنوات ري العاصمة من أعالي الجبال
يطرح السؤال نفسه حول أسباب وجود المنحوتات الكبيرة والجدران العالية المتينة في المناطق البعيدة عن العاصمة، فيحث العلماء على البحث والتقصي، وقد توصلوا إلى ربط ذلك بوجود قنوات للري، تنقل المياه العذبة من أعالي جبال زاغروس إلى العاصمة نينوى، حيث مقر الملك وقصوره.
ويقدر العلماء طول القنوات بنحو 10 كليومترات، وهي جزء من مشروع ري كبير وطموح، أريد له أن يغطي مساحة واسعة، تبلغ نحو 30 كيلو مترا مربعا.
كان العالم العراقي حسن بيكاس هو من عثر على تلك القنوات، وقد تفاجأ بدقة هندستها وبثبات مستوى ارتفاعاتها، الذي يسهل نقل المياه من الينابيع العالية إلى المدينة، من دون انقطاع.
ولربط أجزاء تلك المناطق ببعضها بنوا قناطر من أحجار كبيرة، وعليها كتبوا باللغة المسمارية عبارات تعكس طبيعة الحياة في مملكة آشور، وتمجد منجزات الملك “سنحاريب”، ومنها بناؤه أكبر مدينة في عصره، وتشييده حدائق غناء، تثير إعجاب زوار المدينة.
مدينة نينوى.. موطن الحدائق المعلقة
تلتقط عالمة الآثار البريطانية “ستيفاني دالي” ما يرد في الكتابات تلك، ولا سيما تلك المتعلقة بالحدائق، لتؤسس عليها وتعيد تأكيد نظريتها بأن العبارة الواردة تشير إلى “الحدائق المعلقة”، التي عمل مهندسو المملكة على توصيل المياه إليها بوسائل متطورة، منها صناعة لولب معدني ينقل المياه الجارية في قنوات المدينة من الأسفل إلى الأعلى.
تحيل “ستيفاني” إشارة الملك إلى “الحدائق المعلقة”، لأن البحوث التاريخية والآثار الموجودة والتخطيطات الحديثة لقنوات المياه تؤكد ذلك، ولهذا تستبعد وجودها في مدينة بابل جنوب بغداد، وتميل وفق المعطيات الحديثة إلى وجودها في نينوى، وفي عهد الملك “سنحاريب” على وجه الدقة.
ترى “ستيفاني” أن ثمة خطأ تاريخيا متأتيا من كتابات مؤرخين يونانيين حددوا مكانها في بابل، ولكن لم يزر أحد منهم المكان، ناهيك عن عدم وجود أثر بشري واحد يدل على وجودها هناك.
يعود طرف آخر من الفرضية القوية إلى قنوات المياه المعاد رسمها، وفق الاكتشافات الجديدة لما بعد مرحلة “تنظيم الدولة”، وهي تدل على إمكانياتها لنقل المياه من الأعالي إلى المدينة وحدائقها المعلقة، التي تسور قصر الملك “سنحاريب”.
لم تكتفِ “ستيفاني” بذلك، بل راحت تعيد رسم مشهد للحديقة وأشجارها، وفق ما توصل إليه علماء الآثار في نينوى، من استنتاجات مبنية على رسومات وكتابات وتخطيطات قديمة عثروا عليها حديثا، وهي تعزز نظرية “ستيفاني” حول الحدائق المعلقة.
وحدة مرسومة على حجارة الترميم
لم تخلص بوابات نينوى من تخريب “تنظيم الدولة”، مما دفع عالم الآثار العراقي فاضل محمد إلى الاهتمام أكثر بهذا الجانب ودراسته بعمق، فقد كانت البوابات مدخلا فخما يبهر القادم إلى المدينة، لهذا تميزت بجمال التصميم وقوة البناء.
وخلال الترميم، وجد فاضل أحجارا كبيرة، رسمت عليها أشكال ورسومات دقيقة، بدا قسم منها ناقصا لم يكتمل، وكأن شخصا قد اقتطع منها مقطعا، لكنه وجد تفسيرا لاستغرابه، بعد أن وجد فريق العلماء مقاطع مشابهة داخل القاعة الكبرى بقصر “سنحاريب”.
ويتضح من الأمر عند جمع القطع معا بأنها تعود إلى قطعة واحدة في الأصل، اضطر المهندسون إلى تقطيعها وأخذ قسم منها، ليدعموا بها جدران بوابات نينوى. ويدل فكّ هذا اللغز على وحدة الإمبراطورية الآشورية، التي كانت سببا في ازدهارها.
قبلة الكفاءات من شتى الشعوب.. فك لغز الآشوريين
يقودنا ذلك إلى سؤال آخر، عن أسباب تطور المملكة الآشورية وتوسعها خلال زمن وجيز.
وتظهر الألواح والرسومات والتحاليل المختبرية الجينية أن السبب هو استقطابها كفاءات شعوب المنطقة وغيرها فنموّها، كما أن جمالها شجع الناس من خارجها للمجيء إليها والعمل فيها.
لقد سرعت خبرات هؤلاء بناء حضارة أراد البعض محوها ولكنها عاندتهم، وبقيت حاضرة تعيد للعراق حضوره، بوصفه من أكثر مناطق الأرض رفدا للإبداع البشري، منذ آلاف السنين.