“اشتر الآن!”.. غريزة استهلاك تغذيها سياسات الشركات العملاقة

إذا شاهدت وثائقي “اشتر الآن! مؤامرة التسوق” (Buy Now! The Shopping Conspiracy)، فقد يجعلك تعيد النظر في المكان الذي تتسوق فيه، وكمية ما تشتريه، لا سيما أمام التخفيضات المغرية في مواسم الأعياد، والجمعة السوداء، وما بعدهما.

وربما يشجعنا، على إعادة لبس ملابسنا مرة أخرى، والأحذية القديمة التي نصلحها، وتقليل مشترياتنا غير الضرورية، لتعزيز الاستهلاك الواعي. هذا ما يأمل مخرج الفيلم “نيك ستايسي” أن يحدث مع الوقت.

أُطلق الفيلم للعرض على منصة “نتفليكس” في نوفمبر/ تشرين الثاني 2024، وخلال الأسبوع الأول احتل المرتبة السادسة عالميا بين الأفلام الناطقة بالإنجليزية على المنصة، محققا 7.1 ملايين مشاهدة.

ملصق فيلم “اشتر الآن! مؤامرة التسوق”

ووفقا لأحد المتحدثين باسم الشركة، فقد ذكر وسم “اشتر الآن” (Buynow) في نحو 2.4 مليون منشور، على منصة “تيك توك” وحدها. وقد صرح المخرج “نيك ستايسي”، أن المتابعين استنكروا أساليب الشركات الكبرى في التأثير على سلوكيات المستهلكين، والتلاعب بهم لشراء المزيد من الأشياء، حتى وإن لم يكونوا في حاجة إليها.

عالم مثقل بالاستغلال والتسويق المضلل

يستعرض الفيلم (ساعة ونصف) الأساليب التسويقية الخادعة، التي تستخدمها العلامات التجارية الكبرى، لدفع المستهلكين إلى شراء مزيد من السلع، وإن كانوا لا يحتاجونها، ويقدم الفيلم استكشافا للآليات الخفية، التي تغذي رغبتنا الشرهة في الشراء والتخلص والتبديل.

تدافع المستهلكين “المغبونين” أوقات التخفيضات في المتاجر الكبرى

يشرح الوثائقي كيف تصمم الشركات أنظمة تهدف للتلاعب بسلوك المستهلك، وكيف تشكل الروايات حول منتجاتها، ولماذا نرغب بمنتجات معينة أكثر من غيرها؟

ولا يقتصر على كشف أساليب تسويق الشركات الكبرى، بل يسبر أغوار هذه التجارة التي تستغل حاجات البشر ورغباتهم استغلالا منهجيا. لكنه لا يكتفي بذلك، بل يتعمق في استعراض النتائج المدمرة للإنتاج والاستهلاك المفرطين على تلوث البيئة، فيعرض صورا مؤلمة لشواطئ غانا، وهي مغطاة بجبال من الملابس المستعملة والنفايات الإلكترونية.

“ساشا”.. راوية الذكاء الصناعي تشرح القواعد الخمس

استطاع الوثائقي تقديم سرد بأسلوب ساخر، فيجعل الذكاء الاصطناعي يروي القصة بصوت شخصية تدعى “ساشا”، وهي مساعدة شخصية رقمية مبرمجة آليا، تقودنا خلال أحداث الفيلم.

وهي راوية مستوحاة من المساعدات الرقمية، مثل “سيري” و”أليكسا”، لتوجيه المشاهدين عبر رحلة استكشاف عالم التسوق المفرط.

بع أكثر، وأخفِ أكثر، وأهدر أكثر، تتحكم أكثر

تشرح “ساشا” 5 قواعد بسيطة، يجب على الشركات اتباعها لتعظيم الأرباح:

  • بيع المزيد (أي إنتاج المزيد).
  • الإهدار (البضائع الكاسدة أين تذهب؟).
  • الكذب (على المستهلكين).
  • إخفاء (النفايات).
  • التحكم (بالرسالة والموظفين).

حيل ماكرة تحبس المستهلك في دائرة التسوق

يأخذنا الفيلم إلى عالم خفي، أبطاله كاشفو فساد كانوا موظفين بشركات كبرى، منها أديداس وأمازون وآبل ويونيلفر، فيتحدثون بحماس وانفتاح، ويعبرون عن مشاعرهم بصدق.

وهم يخبروننا بالحيل التي تستخدمها هذه الشركات الضخمة، لإبقائنا مستهلكين ومتشوقين للشراء بلا توقف، وذلك بحبس المستهلكين في دائرة إلهاء من التسوق المتواصل؛ فالإعلانات الجذابة تشجع على شراء المزيد، وأما المنتجات فهي مصممة على أن تتلف بسرعة، مما يعزز هذه الدورة من الشراء.

أطعمة ذات جودة تُرمى في النفايات كي لا يستفيد منها الفقراء

ويعترف هؤلاء الموظفون بأن الشركات تركز على الاستهلاك، وتطبق تقنيات متطورة، منها “التلف السريع للسلعة” و”تحسين تجربة الشراء على الإنترنت”، لتسريع عملية الشراء، وتشجيع الناس على اتخاذ قرارات سريعة في لحظات ضعف، مثل الضغط على زر “اشترِ الآن”.

الاستهلاك المفرط.. لعبة جيش المسوقين خلف الشاشات

تتحدث إلى الفيلم “مارين كوستا”، وقد كانت مصممة في أمازون، وساعدت في تطوير الموقع، فتقول إن من وراء الشاشات جيشا من المسوقين الإستراتيجيين والمصممين، يعملون على تحفيز الرغبة في الشراء المقبل “الضروري”.

من الأدوات التقنية إلى الملابس ذات العلامات التجارية، ليست تفضيلاتنا الشخصية مهمة، فدائما ما يبدو أن منتجا ما في متناول اليد، جاهزا لتلبية حاجة غالبا ما تكون من صنع الشركات.

ومع ذلك، فإن الوثائقي لا يقتصر على انتقاد الشركات، بل يوجه اللوم إلى المستهلكين الذين يساهمون في الاستهلاك المفرط. ولكن خبراء الفيلم يذكرون أن سبب هذا الاستهلاك الزائد ليس رغبة الناس في التملك فقط، بل هو نتيجة لحملات تسويقية هائلة، توجههم إلى ذلك توجيها منهجيا احترافيا.

وقد حظيت أمازون بأكبر قدر من الاهتمام في الفيلم، من خلال مشاركة “مارين كوستا”، التي فقدت وظيفتها فيها بعد تنظيم جهود داخلية، لإقناع الشركة بأخذ قضية تغير المناخ على محمل الجد.

نفايات الملابس.. عبء بيئي يثقل سواحل غانا

من الحقائق الصادمة التي يطرحها الفيلم أن العالم ينتج 2.5 مليون حذاء جديد كل ساعة! ويقدم صورا متخيلة لشوارع نيويورك، تغمرها أكوام من الأحذية، للتعبير عن حجم هذه الكارثة.

ووفقا لمؤسسة “أور” -وهي منظمة غير ربحية تسعى للحد من النفايات- فإن غانا تستقبل أكثر من 15 مليون ثوب غير مرغوب فيه أسبوعيا، وتعد من أكبر مستوردي الملابس المستعملة في العالم، ومعظم هذه الملابس المستعملة تصبح قمامة على شواطئها المطلة على المحيط الأطلسي، لأنها مصنوعة بتكلفة زهيدة وجودة سيئة، لدرجة أنه يستحيل الانتفاع بها مرة أخرى.

العالم ينتج 2.5 مليون حذاء جديد كل ساعة

ومع أن كثيرا منا يرى التبرع حلا مثاليا للتخلص من الملابس الزائدة، فإن الفيلم يوضح أن التبرعات قد تصبح عبئا بيئا، وتتحول إلى نفايات لا سبيل لإعادة تدويرها.

أرقام المبيعات والنفايات تتزايد كل عام

ذكر موظف سابق في شركة أبل، أن البشر يتخلصون في كل يوم من نحو 13 مليون هاتف على مستوى العالم، لأن الشركات تتعمد صنع الأجهزة الإلكترونية بطريقة تجعل إصلاحها شبه مستحيل.

ووفقا لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة، فإن العالم ينتج نحو 92 مليون طن من نفايات الأقمشة سنويا، ونحو 400 مليون طن من نفايات البلاستيك، تشكل منها الهواتف والأجهزة الكهربائية نحو 62 مليون طن سنويا.

صورة يرسمها الفيلم لمستقبل الأرض بسبب الاستهلاك المفرط

يتحدث “بول بولمان” للفيلم، وكان رئيسا تنفيذيا لشركة “يونيليفر”، فيقول: تكمن المشكلة في أننا كل عام نستهلك أكثر وننتج أكثر، وهناك عواقب لذلك؛ ألا وهي النفايات التي نتسبب بها، فقد أصبحت موجودة في كل مكان، وتؤثر على جميع الكائنات الحية على كوكب الأرض.

ومع ذلك ففي رأي “بولمان”، أنه لا ينبغي تحميل المستهلكين المسؤولية الكاملة، فهم مدفوعون أساسا بحملات تسويقية ضخمة، تشجعهم على الاستهلاك المفرط.

سياسة إتلاف السلع الكاسدة عمدا

يعرض الفيلم ممارسات صادمة تتبعها بعض المتاجر الكبرى، من خلال شهادة “آنا ساكس” المعروفة بـ”متتبعة القمامة”، وهي محققة متخصصة في مخلفات المستهلكين.

تكشف “آنا” تعمد المتاجر إتلاف منتجات صالحة للاستخدام، مثل المخبوزات والحلويات والطعام والخضر، وتلقيها في القمامة بعد إتلافها، مع أن من الممكن إيصالها إلى الفقراء والمحتاجين.

من أشكال إتلاف البضائع الصالحة

وسبب ذلك -حسب شهادة “آنا” والعاملين في تلك المتاجر- إنما هو رغبة أصحاب رأس المال في الحفاظ على صورة العلامة التجارية، فبيع منتجاتهم بأسعار مخفضة أو التبرع بها قد يقلل قيمتها في أعين المستهلكين، وهو سلوك يطرح تساؤلات جوهرية، حول قيم التضامن واحترام موارد الأرض والبيئة لخدمة المجتمع.

تغيير السلوكيات.. بناء ثقافة الوعي الاستهلاكي

يتحدث بعض الخبراء عن ضرورة تغيير السلوكيات الاستهلاكية، بدلا من الاقتصار على تحميل المسؤولية للشركات، ويكون ذلك بتشجيع المستهلكين على اتخاذ قرارات أكثر وعيا عند الشراء، مثل السؤال عن مدى احتياجهم للمنتجات، قبل الإقدام على شرائها.

ولا يرى صناع الفيلم أن الاستهلاك عموما أمر سلبي، لأننا بحاجة إلى بعض الأشياء الأساسية التي تسهم في سعادتنا، منها الملابس والطعام والترفيه، ولكن المشكلة تكمن في الإفراط في الاستهلاك، وهو ما يتطلب منا الحد من مشترياتنا.

كما يوصي الفيلم بضرورة التوجه نحو شراء سلع ذات جودة عالية، بدلا من السلع الرخيصة التي تُلقى بعد وقت قصير، وكذلك التوجه لشراء المنتجات المستعملة، أو إصلاح الأشياء بدلا من رميها.

وقد اقترح أحد المتحدثين في الفيلم، أن تنتج “نتفليكس” جزءا ثانيا من الوثائقي، يكون الهدف منه إلهام المستهلكين بدلا من انتقادهم فقط. يقول: يجب أن نواجه المستهلكين بعاداتهم، ولكن في الوقت نفسه يجب أن نعرض عليهم أمثلة للسلوكيات التي يمكنهم اتباعها، ليبدؤوا التفكير بشكل أعمق، ويغيروا عاداتهم.

“امنح نفسك 5 دقائق للبحث عن نسخة مستعملة”

يتضمن الفيلم مقابلات مع شخصيات بارزة، كانت تعمل في الشركات المستهدفة، منهم “بول بولمان” الذي كان مديرا تنفيذيا لشركة “يونيليفر”، و”مارين كوستا” التي كانت مصممة في “أمازون”.

وقد ساهمت “مارين” في تطوير تقنيات الإقناع الخفية على موقع الشركة وقالت: “أنتم تخدَعون بنسبة 100%، وهذا كله مدروس علميا”. حتى أن ألوان أزرار “اضغط للشراء” قد خضعت لدراسات دقيقة، للتأثير على قرارات المستهلك.

وقد فقدت “مارين” وظيفتها، بعد محاولتها تحفيز الشركة على تبني سياسات صديقة للمناخ.

شهادات داخلية من الشركات الكبرى

ويرى مخرج الفيلم “نيك ستايسي” أن المسؤولية تقع أساسا على عاتق الشركات المصنعة، فعليها أن تنتج سلعا ذات جودة أفضل وعمر أطول. لكنه يدعو المستهلكين أيضا إلى اتخاذ خطوات يسيرة لتقليل تأثيرهم البيئي، منها البحث عن منتجات مستعملة قبل شراء المنتجات الجديدة، والتفكير مليا قبل النقر على زر الشراء.

ويختم بنصيحة قائلا: إذا خطرت في بالك فكرة شراء شيء جديد، فامنح نفسك 5 دقائق للبحث عن نسخة مستعملة. الأمر لا يستغرق وقتا طويلا، لكنه يحدث فرقا كبيرا.

“تعهد المناخ”.. شعار أجوف لخداع المستهلكين

ليس فيلم “اشترِ الآن!” مجرد فيلم وثائقي، بل دعوة للتغيير، فهو يكشف إخفاء النظام العالمي كارثة النفايات عن أعين المستهلكين، ويحثنا على مواجهة هذه الحقيقة والعمل بجدية لإنقاذ كوكبنا.

وهو تجربة تعكس بذكاء مدى عمق تأثير النظام الاستهلاكي علينا، وطرق إنفاق الناس أموالا كسبوها بشق الأنفس على عروض التخفيضات الموسمية، في سبيل الشعور المؤقت بالرضا.

دعوات إلى الحفاظ على المناخ

وفي النهاية، فإن مقاومة النظام الاستهلاكي شبه مستحيلة، وإن ادعت “نتفليكس” عكس ذلك، فالحركة البيئية مهددة بأن تبتلعها الأموال الضخمة، التي تستطيع أن تشتري كل شيء حرفيا.

وقد اشترى “جيف بيزوس” -وهو الرئيس التنفيذي لشركة أمازون- ملعبا رياضيا في مدينة سياتل، وهي مسقط رأس شركته، حين دُعي لاتخاذ إجراءات ضد تغير المناخ، ثم وضع عليه شعار “تعهد المناخ” (Climate Pledge).

ومع ذلك، لم يتغير شيء في “أمازون”، كما تقول الموظفة السابقة “مارين كوستا” بحزن، وهي تذرف دمعتها.


إعلان